كنت أقودُ سيارتي وتوقفتُ في إشارة ميدان روكسي.
لمحتُ رجلا في ملابس رثّة يتوكأ على عصا كأن بساقه عجزًا خفيفًا، يحمل بعض علب المناديل
الورقية لبيعها أو للتسوّل
بها. أشرتُ له فجاءني مستبشرًا، فمددتُ يدي له بعشرة جنيهات
ثم لوحت له بتحية وابتسامة. لكنّه أصر في كبرياء أن يهبني علبة مناديل ورقية مقابل
نقودي الهزيلة. فاندهشتُ لشممه واعتزازه بكرامته ورفضه أن يكون متسوّلا بل بائعًا محترمًا.
أخدتُ منه العلبة، وشكرته كثيرًا. لكنني فوجئتُ به يمطرني بسيل من الدعوات المكثّفة
والغزيرة، بما لا يتناسب مطلقًا مع الورقة المالية البسيطة التي منحته إياها! تلك التي
لم تعد تكفي مجرد شراء ساندوتش من الفول! بعدها دخلتُ محطة البنزين. وبعد انتهاء العملية
مددتُ يدي في كيس نقودي لأعطي العامل حقّه، فعرفتُ سرَّ الدعاء الغزير، غير المبرّر،
الذي منحنيه بائعُ المناديل الورقية. لقد أعطيته ورقة المائة جنيه المخصصة لبنزين السيارة،
وقد ظننتُها عشرة! ضحكتُ كثيرًا، وقلتُ لنفسي: «بالتأكيد كان ذلك الرجل بحاجة إلى المال
اليوم أكثر مني»، ثم رحتُ أُقلّبُ حقيبتي رأسًا على عقب لأفتّش في جيوبها وبين ثناياها
عن ثمن البنزين، وأنا ألهجُ بالدعاء إلى ربّي ألا يتركني أمرَّ بلحظة صعبة مع عامل
المحطّة. ولم يخذلني اللهُ بكل تأكيد، هو القائلُ: «أنا عند حُسنِ ظنِّ عبدي بي».
أخبرتُ صديقي السفير رأفت إسكندر بهذه الطُرفة،
وضحكتُ وأنا أشيرُ إلى علبة المناديل الورقية قائلة: “هذا أغلى صندوق مناديل ورقية
في التاريخ!«فهالني أن قال لي: “بل تلك صدقةٌ إجبارية. اللهُ أراد لك أن تفعلي خيرًا
لم تقصديه، ليمنحكِ ثوابًا غير مُحتسَب.” يا لها من فكرة مدهشة، وصوغ عبقري! تأملتُ
الفكرة طويلا، وأيقنتُ أنها حساباتُ الله المعقّدة التي لا ندركها نحن بحساباتنا الأرضية
البسيطة وعقولنا البشرية المحدودة. شكرتُ اللهَ العظيمَ كثيرًا هو الذي لا يدبّر أمور
حياتنا وفقط، ولا يُسيّر أعمال رئتينا للتنفس وقلبنا للخفق وعقلنا للتفكير ومعدتنا
للهضم وووو، وفقط، هو الذي لا يستجيب إن دعوناه وفقط، ولا يرحم ضعفنا ويغفر سيئاتنا
وفقط، ولا يُسخّر لنا الشمسَ والقمر والنجوم والرياح ويُنبتُ الزهرَ والشجر ويُسيّر
المجرّات والأفلاك والكواكب بقَدرٍ، وفقط، وهو الذي لا يحسب لنا حسناتنا وصدقاتنا وفقط،
إنما كذلك يُنبّهنا إن تأخرنا عن الخير برهةً، ليدّخر لنا من فضله وكرمه في صندوق الخير
الذي نلاقيه به يوم القيامة.
حدثت تلك الواقعةُ الجميلة الطريفة قبل شهرين مضيا.
لكنني تذكرتُها بالأمس حين أرسل لي صديقي د. محمد العدل، المنتج الكبير، الحكاية التالية
التي لا أعرفُ بطلها. كتب يقول:
«واحد صاحبى بيحكي لي: كنت قاعد في المسجد
بعد صلاة الجمعة قام الإمام ودعا الناسَ للتبرّع للفقراء والأطفال اليتامى. قمت دخلت
إيدي في جيبي وطلّعت جنيه مبهدل وحشرته في فتحة صندوق التبرع اللي قدامي. بعدها جاء
رجل عجوز وقف ورائي وهزّني من كتفي وأعطاني ثلاث ورقات من فئة المائتي جنيه، وحوالي
أربع ورقات من فئة المائة جنيه، وحوالي عشر ورقات من فئة الخمسين جنيها، وورقتين من
فئة العشرة جنيهات. قمتُ بحشرها جميعًا في فتحة الصندوق، ورقةً ورقة. وبعد انتهاء المهمة،
استدرتُ لأواجه الرجلَ العجوز وأنا أحدوه بنظرة إعجاب، ثم شكرته قائلا: “ربنا يكرمك
ويتقبّل منك يا حاج.” فقال لي العجوز مبتسمًا: “العفو يا ابني على ايه بتشكرني؟! هذه
النقود سقطت منك وأنت تُدخل يدك في جيبك منذ قليل.”
شكرًا لك يا ربُّ لأنك تُذكّرنا إن نسينا أن نذكرك،
وتمنحنا من خيرك لنفعل الخيرَ للمعوزين والفقراء، حتى وإن لم نقصد إلى ذلك
المصري اليوم