إنه "عبد الكريم اليافي" عاشق الكتاب
بلا منازع، وأميرٌ من أمراء البلاغة والبيان، لايذكر يوماُ لم يجلس فيه إلى كتاب، حتى
أن من يزور بيته يظن أنه في مكتبة تجتمع فيها الكتب من كل صنف ولون، وتحمل بين دفتيها
معارف وذكريات عزيزة لاتنتهي، كثيراً ما حدث ضيفه عن بعضها إلى درجة تظن أنها جزء لايتجزأ
من حياته ووجدانه.
لقد ذكرني عشقه لها بعشق "أبو حيان التوحيدي"،
أحد أعلام القرن الرابع الهجري، الذي لقب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، يروى أنه
قام بإحراق كتبه من شدة تعلقه بها، بعد أن لمس عدم اكتراث عامة الناس بما يكتب، ولما
عاتبه ذويه عن فعلته تلك أجاب: "لقد فقدت
ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، ونابغاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشق
عليَّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها".
ولد العلامة والمفكر والأديب الموسوعي "عبد
الكريم اليافي" في مدينة حمص 1919، وكان محباً للتعلم، فلم يكتف بنيل الإجازة
الجامعية من فرنسا في العلوم الرياضية والطبيعية عام 1940، بل نال أيضاً إجازة في الآداب
ودكتوراه في الفلسفة، كما نال شهادات عديدة في علم النفس العام، وفلسفة الجمال، وعلم
الفن والمنطق، وتاريخ العلوم وفلسفتها، وعلم الاجتماع والأخلاق
من إنتاجه الفكري "تمهيد في علم الاجتماع"
(1964)، "دراسات اجتماعية ونفسية"
(1964)، "دراسات فنية في الآداب العربية"
(1963)، "جدلية أبي تمام"(1983)،
"معالم فكرية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية" (1982)، "معجم مصطلحات التنمية الاجتماعية في العلوم
المتصلة بها"، "العلم والنزعة الإنسانية"، "حوار البيروني وابن
سينا"، و”مباهج الأدب”، وله الآلاف من المقالات والعديد من الحوارات واللقاءات
الأدبية الثقافية، المحلية والعربية والدولية، وقد أسهب في التعريف بعلم الجمال، أو
فلسفة التّعامل مع الطبيعة والفنّ والذّوق، وهو أحد الفروع المتعددة للفلسفة، يراه
البعض على أنه تفكير نقدي فلسفي في الثقافة والفن والطبيعة، برع "اليافي"
في تدريسه والحديث عنه.
خلال حياته العلمية والأدبية، كأستاذ في جامعة دمشق
(1947–2003)، وعضويته في "مجمع اللغة العربية" بدمشق، أسهم في تعريب العديد
من المصطلحات التربوية والاجتماعية والطبية، ولاسيما في ميادين الإعاقة وعلم الاجتماع،
كما قدم خلال رئاسته القسم العلمي للاتحاد العربي للهيئات العاملة مع الصم خدمات جليلة
للباحثين والمختصين في تأهيل ودمج الأشخاص الصم والمعوقين، تعرفت إليه خلال اجتماعات
هذا القسم العلمي مع المكتب التنفيذي للاتحاد العربي الذي شغلت عضويته، وسرعان ما جمعتنا
العديد من اللقاءات الخاصة منها ما كان مع عائلته الكريمة المميزة في مواهبها، وقد
أغنى "اليافي" هذه الجلسات بذكرياته الجميلة وأحاديثه العذبة، وقد أهداني
خلالها العديد من مقالاته وكتبه، وقد شرفني أيضاً بكتابة مقدمة كتابي “قصة مدينتين
في حياة البحيري”، وضمّنها كعادته كثيراً من المودة والمجاملة.
لقد كان من أشد المدافعين عن اللغة العربية، والثقافة
العربية وجوانبها الحضارية الإنسانية، وكثيرا ما كان يشكر كل من يتحدث عن قرية أو مدينة
أو بلد عربي، أو من يتطرق إلى ظاهرة اجتماعية أو صحية فيها، أو حتى من يصف معلماً تاريخياً
أو سياحياً هنا وهناك، كما كان يرى أن الحديث عن الأعلام وحياتهم وإسهاماتهم، حق إنساني،
وواجب قومي ووطني واجتماعي، وتواصل حضاري وثقافي، مستمر بين الأجيال.
نعم لقد كان "اليافي" وسيبقى هامة شامخة
من هامات الثقافة والأدب والفلسفة، عبر بصدق وإخلاص عن هموم الإنسان وقضايا الأمة،
ولا نستطيع، وقد نعته دمشق في يوم الجمعة الموافق للعاشر من تشرين الأول/أكتوبر
2008، إلا أن نقر بفضله ونستودعه الله برحمته.
إن غاب فضلٌ
يوماً لصاحبه ففضله في العقول لم
يغبِ