حاول الكاتب الصحفي محمد توفيق في كتابه “الغباء
السياسي” أن يوثق لصفة هذا الغباء، الذي اتسم به كثير ممن حكموا مصر، وكيف يصل الغبي
إلى الحكم، وكيف
يستمر أحيانا حكمه لعشرات السنين، وكيف يكون الحال حينما يكون الحاكم
الغبي عسكريا.
يستعرض الكاتب العديد من الحكام المنتمين لطبقة
“الأغبياء”، ذاكرا أنه مثلما شهد تاريخنا “الفراعنة العظام” الذين صنعوا الحضارة وغيروا
مجرى التاريخ، شهد أيضا “الفراعين الحمقى” الذين كانوا سببا في انهيار دولهم.
والغريب أن الأنظمة الفرعونية لم تسقط بسبب الطغيان وحده، وإنما بالطغيان
المقترن بالغباء، فالدول سقطت عندما صار الطاغية غبيا، وأصبح لا يدري شيئا عما يجري
حوله، فاختل تقديره للأمور، ولم يعد قادرا على إحكام سيطرته.
أمثلة كثيرة للفراعنة الأغبياء، منها “بيبي الثاني” الذي يوصف بأنه أول
حاكم غبي عرفه التاريخ، وبقي في السلطة 94 عاما، وعرفت مصر في عهده الفساد والانحلال،
والانقلابات والحروب الأهلية.
فيما تعاقب على كرسي الحكم ثلاثة ملوك أغبياء، وهم “الملك ساكرع”، و”توت
عنخ آمون”، وقد توليا الحكم فترة قصيرة كانا فيها مجرد أداة في يد كهنة أمون، إضافة
للملك “آي” الذي حكم أربعة أعوام، وكان طاعنا في السن ففشل في إدارة شؤون البلاد، وساد
الاضطراب والفساد.
ومن الولاة الذين تعاقبوا على حكم مصر واتسموا بالضعف والغباء الحاكم
بأمر الله الذي قيل إنه أصيب بالجنون، وحرّم أكل الملوخية، ومنع ارتداء الكعب العالي،
وأمر الناس بالعمل ليلا والنوم نهارا.
من الولاة الذين تعاقبوا على حكم مصر واتسموا بالضعف والغباء الحاكم بأمر
الله الذي قيل إنه أصيب بالجنون، وحرّم أكل الملوخية، ومنع ارتداء الكعب العالي، وأمر
الناس بالعمل ليلا والنوم نهارا
ويذكر الكاتب أن الطغاة كانوا يجمعون بين الغباء
والتسلط والميل إلى العنف، فالحاكم الغبي كان يرى في السيف منقذا له.
وانتقل الكاتب للحديث عن العائلة المالكة، ذاكرا أن الخديوي إسماعيل فعل
كل شيء رغبة منه في صنع مجد لنفسه يخلده في كتب التاريخ، فشيد كوبري قصر النيل بأسديه
الشهيرين، والجمعية الجغرافية، ودار الكتب والوثائق، والمتحف المصري، وبنى ثلاثين قصرا،
وأنشأ أول أوبرا عرفتها مصر، وأسرف في الحفلات الباذخة، ونتيجة لذلك بلغت ديون مصر
في عهده نحو 91 مليون جنيه، أي ضعف ميزانية مصر حينئذ ما بين 15 و23 مرة.
وكان سعيد -ومن بعده توفيق- سببا في وقوع مصر تحت سيطرة الدولة الأجنبية،
خاصة حينما استعان توفيق بقوى خارجية لمواجهة ثورة عرابي، بالإضافة إلى مرسومه “الغبي”
بإلغاء الجيش المصري في 19 سبتمبر/أيلول 1882، الذي اعتبره الكاتب أغبى قرار اتخذه.
العسكري حاكما
يؤكد المؤلف أن الغباء السياسي يبلغ ذروته حين يصير
العسكري حاكما، إذ يختزل الحاكم العسكري الدولة في شخصه، فيجعل من نفسه وصيا على الشعب،
ومسؤولا لا تمكن مساءلته، فيرى نفسه فوق الدستور والقانون.
ويعدد الكاتب الأعمدة التي يقوم عليها حكم العسكر، والمتمثلة في بث الذعر
والرعب في المجتمع، بحيث تختصر كل احتياجات المواطن المرعوب في إعادة إحساسه بالأمن.
ويتهم العسكريون المختلفين والمعارضين لهم دائما بالخيانة والعمالة، كما
يحتكرون الوطنية، ويعرفونها بأنها الولاء للحكم العسكري وطاعته، مستخدما “التعبئة والحشد”
وسيلة أساسية لاستنفار المواطنين، معتمدا على إعلام أجير وغوغائي.
الطريقة الثانية لوصول الغبي للحكم، حينما يكون نائبا للرئيس، وبمجرد
رحيل الحاكم الاستثنائي، يصير الكرسي واسعا على من يأتي خلفا له، وهنا تظهر قدرات النائب
الحقيقية وأن مكانته لم يصل إليها إلا باعتباره خادما مطيعا لسيده
وهناك أربع طرق شهيرة وتاريخية يمكن أن يصل بها
غبي أو متغابٍ إلى كرسي الحكم في مصر، أولها التوريث، الذي يكون إما مباشرا حينما يكون
الغبي الوريث الشرعي في النظام الملكي، وإما من خلال التوريث غير المباشر، ويحدث في
النظام الجمهوري حينما يرى رجال الرئيس أن مصلحتهم تقتضي أن يصبح نجل الرئيس المتوفى
رئيسا بتزييف وعي الشعب، وتزوير الانتخابات.
والطريقة الثانية لوصول الغبي للحكم تحصل عندما يكون نائبا للرئيس، وبمجرد
رحيل الحاكم الاستثنائي يصير الكرسي واسعا على من يأتي خلفا له، وهنا تظهر قدرات النائب
الحقيقية، وأن مكانته لم يصل إليها إلا باعتباره خادما مطيعا لسيده.
والطريقة الثالثة بعد ثورة لم تكتمل، نتيجة لظهور الشعور باليأس بين الجمهور،
وتفشي روح الإحباط بين الناس وانتشار الفوضى، مما يدفع الناس للقبول بأي شخص يوفر لهم
الأمن.
الطريقة الرابعة في حالة الرحيل والموت المفاجئ للرئيس، دون أن يكون هناك
اتفاق مسبق على خليفته، وهنا يخرج من الكواليس فجأة شخص لا يستشعر أحد فيه الغدر، بل
يظن الجميع أنه غبي وتسهل السيطرة عليه، لكنه في حقيقة الأمر متغاب، وينتظر اللحظة
المناسبة ليقفز فوق كرسي السلطة.
ويرى الكاتب أن أنور السادات وكذلك محمد حسني مبارك جاءا من ذات الباب،
حينما ظهرا لمن حولهما لا يفهمان شيئا، وأنهما مجرد موظفين ينفذان الأوامر دون نقاش.
النكتة السياسية
يذكر الكاتب أن النكتة كانت ولا تزل ترفع حكاما
وتخسف الأرض بآخرين، ولا رقيب عليها ولا ضابط لها، فهي التاريخ من وجهة نظر الشعوب،
وهي حزب الأغلبية في مصر، وهي التدوين الشعبي، والتاريخ الشفهي لمعاناة البسطاء.
لذلك للنكتة في مصر أهمية خاصة ومكانة متفردة، فأغلب رؤساء مصر كانوا
ينتظرون سماع “آخر نكتة” ليعرفوا آراء الناس دون رقيب وبغير أقنعة.
النكتة كانت دائما بمثابة التأريخ الشعبي للغباء
والاستبداد، وهذا هو أصل الداء الذي وضع المفكر عبد الرحمن الكواكبي يده عليه منذ أكثر
من مائة عام حين قال: “المستبد يكره العلماء والأذكياء، ويحب الحمقى والجهلاء”
والنكتة كانت دائما بمثابة التأريخ الشعبي للغباء
والاستبداد، وهذا هو أصل الداء الذي وضع المفكر عبد الرحمن الكواكبي يده عليه منذ أكثر
من مائة عام حين قال: “المستبد يكره العلماء والأذكياء، ويحب الحمقى والجهلاء”.
الغباء ونجاح الثورة
ما جرى في نهاية حكم مبارك وخاصة أيام الثورة، يؤكد
أنه دفع ثمن غبائه أو تغابيه، فقدرات مبارك الحقيقية وشيخوخته ظهرت بوضوح في الساعات
الأخيرة لحكمه، حينما استخدم كل الحيل القديمة لمواجهة الثورة ضده.
فأظهرت خطاباته أنه خارج الزمن، وأنه غير مدرك لما يحدث، فكانت أحد أسباب
إصرار الشعب على رحيله، كما كانت موقعة الجمل دليلا على وصول غباء مبارك إلى قمته،
حينما استخدم أكثر الطرق العدوانية بدائية لقتل المتظاهرين.
دليل آخر على “غباء” نظام مبارك، هو ما افتضح به من إيمانه بالخرافة،
وعلاقته بالمنجمين وقارئي الطالع، والتي بدأت في نهاية الخمسينيات حينما تنبأ له عراف
سوداني بأنه سيصبح رئيسا لمصر، في الوقت الذي كان لا يتعدى طموحه السياسي أكثر من أن
يصبح سفيرا لمصر في لندن.
وكان يمكن للمسألة أن تظل سرا، ولكن ذهاب السيدة البدوية “أم ماجد” إلى
مبارك في مستشفى شرم الشيخ بعد الثورة، ودخولها إلى حجرته في الوقت الذي كان فيه المستشفى
أقرب إلى ثكنة عسكرية، كشف الأمر عن “عرّافة الرئاسة” التي كان يلجأ إليها الرئيس وزوجته
في الأزمات.
الغباء الأمني
ويتطرق الكاتب إلى الغباء الأمني الذي تصدر مشهد
الغباء السياسي في مصر، فالأمن كان دائما هو الحاكم، والعقل المفكر، والحل الجاهز في
كل الأزمات، ولم يتعلم رجال الأمن طريقة لمواجهة الاحتجاجات سوى الغاز والرصاص.
وكانت قضية خالد محمد سعيد خير دليل على الغباء الأمني في مصر، حينما
قاد القتلة غباؤهم، وحركهم الكبر والعناد، فكانت قسوتهم المفرطة وغرورهم أحد أهم أسباب
إيقاظ روح الثورة عند المصريين.
ولكن الغباء الأمني لم يتوقف عند هذا الحد، بل إنه صار في كامل قوته وسطوته
في أثناء وبعد الثورة وطوال الفترة الانتقالية، فشاهدنا منصور عيسوي أول وزير للداخلية
بعد الثورة ينكر كل شيء، ينكر وجود قناصة في الداخلية، وينكر ضرب المتظاهرين، وينكر
إطلاق الرصاص على الثوار، وينكر استخدام القنابل المدمعة، إضافة لاستمرار مسلسل العنف
والغشم الأمني.
السلطة الغبية في مصر استطاعت نقل معظم الشعب من مقاعد المتعايشين إلى
خانة الأعداء، فلم يعد السياسيون هم الأكثر عرضة للعنف والتعذيب في أقسام الشرطة، بل
زاحمهم المواطنون العاديون ثم تفوقوا عليهم
والسلطة الغبية في مصر استطاعت نقل معظم الشعب من
مقاعد المتعايشين إلى خانة الأعداء، فلم يعد السياسيون هم الأكثر عرضة للعنف والتعذيب
في أقسام الشرطة، بل زاحمهم المواطنون العاديون ثم تفوقوا عليهم.
التحليل النفسي للغبي سياسيا
يستعرض الكاتب بعض أمراض السلطة التي يعتبر الغباء
السياسي سببا في حدوثها أو نتيجة لها، ومنها تفشي الهاجس الأمني، واتخاذ احتياطات أمنية
كثيرة ومبالغ فيها، إضافة لعزلة السلطة وافتقادها الحياة الطبيعية، فلا يرى صاحب السلطة
الحياة إلا من خلال تقارير تعكس وجهة نظر من كتبوها.
ويشعر الحاكم الغبي بتضخم الذات، وبتوحد الوطن مع ذاته، إضافة لإدمانه
للسلطة والشعور “بالتأله” الذي يؤدي للتجبر والاستعلاء والطغيان بلا حدود، وكذلك إصابة
الحاكم بنوع من الجمود، والإفلاس، والشيخوخة، مما يجعله غير قادر على استيعاب منظومات
الحياة الحديثة ومواكبة الأحداث كما ينبغي، ناهيك عن تشبث الحاكم الغبي بتوريث السلطة
لأحد أبنائه، باعتبار ذلك “حبل نجاة من الفناء”.
استثمار الغباء
استطاع العديد من الشخصيات استثمار “تابو الغباء”،
سواء في توصيف الحالة المجتمعية ونقدها، أو في تحقيق أهداف وطنية وأخرى شخصية.
فقد نجح “جحا” -الذي وصفه الكاتب باعتباره إمام الأغبياء، وسيد المتغابين-
بنوادره الكثيرة مع الحكام في تأريخ الفترة التي عاشها وللحكام الذين عرفهم.
ولم يكن نقده موجها فقط إلى حكام عصره، بل إلى كل المسؤولين من أصحاب
المناصب الرفيعة.
وصنع إسماعيل ياسين أسطورته بصورة الغبي الحاضرة دائما في أفلامه.
يؤكد الكاتب أن إعلام الغبي يقوم بتزييف الوعي، وتشكيل وعي الجمهور لكي
يقبل منظومة السلطة وتوجهاتها، وكذلك إصرار أعوان الحاكم على إحاطته بالمنافقين لإقناع
الحاكم بما يريدونه وهو ما أحسن النظام السياسي استغلاله ووجد فيه ضالته، من خلال صنع
صورة ذهنية مختلفة للجيش والشرطة بعد ثورة يوليو، فتعلق الناس بأفلام إسماعيل ياسين،
بل إنها عاشت أكثر مما قدر لها.
ويتطرق الكاتب للممثل الكوميدي محمد سعد الذي كان خير ممثل للنظام وأفضل
تجسيد للتوقيت الذي ظهر فيه، رغم عدم علاقته المباشرة به، فحقق الشهرة والمال في ظل
حالة من الإحباط كانت سائدة ومسيطرة، وكانت الأفلام الكوميدية هي المتنفس الوحيد للناس.
صناعة الغبي
يرى الكاتب أن وراء كل حاكم غبي رجل أفّاق يرتدي
عباءة الدين، وإعلام مضلل، وتعليم فاسد، وأعوان فجرة، وشعب مغيّب..
فتحول التعليم من قضية قومية إلى قضية أمن قومي، وأصبح فرد الأمن يختار
المعلم المثالي، ويقوم بترشيح مديري المديريات التعليمية، وبالتوقيع على أسماء المدرسين
الجدد، ويسهم في اختيار أسماء المدارس.
وأصبحت مهمة التعليم “خدمة النظام”، وحرصت الأنظمة المتعاقبة على أن تكون
مناهج التعليم خالية من الإبداع وتخدم توجهاتها، وصارت تسهم في انخفاض معدلات الذكاء
ونشر الخرافات.
ومن ناحية أخرى، يؤكد الكاتب أن إعلام الغبي يقوم بتزييف الوعي، وتشكيل
وعي الجمهور لكي يقبل منظومة السلطة وتوجهاتها، وكذلك إصرار أعوان الحاكم على إحاطته
بالمنافقين لإقناع الحاكم بما يريدونه، سواء كان هؤلاء المنافقون من العامة أم من كتبة
الملوك ووعاظ السلاطين والشعراء والمثقفين والفنانين.
هذا إضافة لدور رجال الدين الأفاقين الذين تجدهم وراء كل حاكم غبي من
أجل الترويج لخرافاته، ولخلع صفة القداسة على الحاكم، حتى تصبح كوارثه زلات وجرائمه
أخطاء.
المصدر: الجزيرة نت
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر
بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة