ما الأدب الإلكتروني؟ تساءلت كاثرين هايلز (هايلز، 2007): هل يمكن أن نُقدم على تعريف لما نعنيه بالأدب الإلكتروني؟ وينضاف إلى هذا السؤال، سؤال آخر: ما الأدب
الرقمي؟ وهل ثمة فرق أو تكامل بين الأدب الإلكتروني والرقمي؟
إن كلمة رقمي أضحتْ، منذ تاريخه، حاضرة حضورا كليا ومكثفا وطاغيا على استخداماتنا الخاصة والعامة، مما أفضى إلى طغيان كلمة رقميّ واختفاء كلمة إلكتروني، كما جاء في قول فيتالي روزاتي (2014) ودويهي (2013).
إن الهدف من هذا العرض، أن نؤكد على أن تغيير النعت (الوصف) رقمي، ينم عن تحول في الوضع النظري لموضوع كتاب محمد أسليم. فقبل سنوات قليلة، كان تعريف الأدب الإلكتروني منصباً على تحليل الوسائل المستعملة في إنتاج الأعمال الأدبية والتحليلات النقدية المهتمة بنقد وتحليل المواد التي أنتجتها التكنولوجيات الجديدة. وكان المرور إلى وصف "رقمي" تعبيرا عن تحول في الوعي والإدراك، فنحن اليوم، نحيل على ظاهرة ثقافية، لا على الوسائل والأدوات التكنولوجية.
ومن خلال هذا المنظور، لم يعد الرهان منصباً على دراسة الأعمال الأدبية بفضل الإعلاميات، بل صار منصبا على فهم هذا الوضع الجديد للأدب في العصر الرقمي. ومن هنا، نفهم بعض دوافع هذه الترجمة.
يتكون كتاب الأدب الرقمي من 12 مقالا ودراسة مترجما، ترجمة محترفة، بالإضافة إلى ثبت بالمصطلحات وعناوين النصوص الأصلية ومصادرها.
فماذا تكون الرقمية باعتبارها الصفة الغريبة والجديدة في عنوان الكتاب، باعتبار كلمة أدب واضحة نسبيا بالنسبة لأغلبية المتعلمين؟
تستخدم كلمة "رقميّ"، بدءاً، لوصف تسجيل الأصوات والصور أو الفيديو، في مقابل ما هو تناظري (analogique). إن الرقمي هو عبارة عن نمذجة أو عينة للنبض الواقعي: التناظري، كما هو معلوم، متصل، لكن الرقمي، من الناحية الرياضية، خفي. وإذا كان هذا الشرح يبدو كافياً قصد تحديد الدلالة الأصلية لـ "رقمي"، فإن ذلك لا يكفي لفهم تعميمه، ولا التدليل على ثرائه الواسع: فقد صرنا نتحدث عن بيئة رقمية، و"متكلمين رقميين أصليين"، و"إنسانية رقمية"، بل صار من الممكن الحديث عن "ثقافة رقمية".
تُجمع معظم المراجع التي عدنا إليها، إلى أن الاستخدام المتصاعد للكلمة، وكذا قيمتها الاجتماعية والثقافية، قد تحكم فيهما ميلاد الإنترنت وانتشارها، أو إذا توخينا التدقيق تحدثنا عن "الويب" (Web)، وذلك ابتداء من سنوات التسعينيات (1990). فبالإضافة إلى حضور الحواسيب، أحدث "الويب" انقلابا هائلا، في ممارساتنا وصلاتنا بالعالم؛ فقد أُحْدِثَتْ نماذج جديدة لإنتاج المعرفة ونشرها وتلقيها. فمع هذا الاكتساح الكبير لما هو رقمي لحياتنا الخاصة والعامة، أضحى الرقمي فضاء للعيش.
وهكذا، لم يعد الأمر يتعلق بأدواتٍ في خدمة عوائدنا القديمة، بل صار الأمر شديد الصلة ببيئة انغمسنا فيها، فصارت تصوغ عالمنا وثقافتنا. فما المقصود بالثقافة الرقمية؟ وما الذي نعنيه بالضبط؟ وما المراد حينما ندعو إلى ثقافة رقمية؟
إن الرقمي ليس مجرد أدوات، وليس مجرد أجهزة تسمح لنا بإنجاز ما كنا نفعله، بشكل أفضل وأحسن، وليست أشبه بسيارة صارت تمكننا من قطع المسافات، بشكل أسرع، مقارنة بالمشي على أرجلنا. فالرقمي بَدَّلَ عوائدنا ومعانيها، فبأي كيفية بدَّلَ الرقمي الأدب؟
من الجلي، إنه إذا كان الأمر يتعلق بظاهرة ثقافية عامة، كما يقول دويهي (2008)، فإن وضع الأدب هو الذي أضحى موضوع سؤال. إن هذا الانتقال الثقافي لا يمسُّ فقط، تجاربنا الأدبية التي لمْ يكنْ بإمكانها أن توجدَ دون ظهور تكنولوجيا إلكترونية، ولكنَّ الأمر يخص أيضاً الأدب الورقي. من هذه الناحية، تعتبر ترجمة محمد أسليم، جواباً نظريا ومنهجيا ونقديا عن الأسئلة السابقة وإشارة إلى نوع جديد وبديل للثقافية الورقية.
من الضروري، قبل الاستمرار، في تتبع بعض الملامح الدالة في هذه الترجمة، الإشارة إلى أن هذه الترجمة جاءت، بعد ثلاث سنوات تقريبا، من كتاب زهور كرام "الأدب الرقمي: أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية" (ط. 2)؛ غير أن ما يميز ترجمة محمد أسليم انتقالها من التأملات المفاهيمية إلى التأصيل المفهومي، باعتبار المفاهيم مفاتيح لهذا النوع من الأدب.
لهذا نجد هذا الكتاب غنيا" بالمفاهيم وتحديدها. فلا يمكنُ كما تقول زهور أكرام، في تقديمها "تأصيل ثقافة في تربة ما، أو جعلها منتجةً في سياق معين خارج الوعي المعرفي بالمفاهيم التي تشكلها" (ص.6)، مع ما يرتبط بذلك، من تواصل مع الثقافة الرقمية، من خلال هذا المدخل المفهومي (شأن الأدب الرقمي، الترابطي، التشعبي، الأدب الافتراضي، الشعر المتحرك، الشعر الرقمي، رقمنة التراث، اللغة الرقمية، الحامل/ الخ)، وإعادة التفكير في موضوع قديم جديد من زاوية حضارية وثقافية مختلفة، تجعل من الفعل الإبداعي فعلاً مستمرا ومنفتحاً.
ينتظم المقالات والدراسات المترجمة منطقٌ هندسيّ استنباطي يوفر كل عناصر السياق والأسئلة والإشكالات والنتائج؛ فمن حديث عن نهاية إبدال وبداية آخر، يودعُ جان كليمون، عصر المطبعة ليشير إلى عصر الكتاب الرقمي. ويقر كليمون بأن "العصر الرقمي الذي دخلناه لن يمحوَ فجأة هذه القرون الخمسة من ثقافة الكتاب المطبوع، لكنه سوف ينتج تأثيرات عميقة تشبهُ تلك التي شكلت تفكيرنا وحساسيتنا منذ ظهور أول كتاب مقدس مطبوع إلى الرواية الجديدة (ص9).
غير أن كليمون إذا كان متيقنا من نهاية إبدال وظهور آخر جديد، فإنه عاجز عن" التكهن بما إذا كانت الرقمية ستكون هي مستقبل النص أو أنها ستكون مستقبل الكتاب فقط" (ص.24).
ولمْ يكنْ كليمون وحده المفعم بهذه الروح التنسيبية، ففيليب بونز يشكو من سوء فهم كبير جوبهَ به الأدب الرقمي، فقد صدرت في حقه أحكام مسبقة، نابعة من متخيل تكنولوجي متشائم من المستقبل لدى البعض، والبعض الآخر هو وليد التغييرات العميقة التي يلحقها هذا الأدب بالكتابة والقراءة والنص (ص.22).
ويعرف الأدب الرقمي بقوله "نسمي (أدبا رقميا) كل شكل سردي أو شعري يستعمل الجهاز المعلوماتي وسيطاً ويوظف واحدة أو أكثر من خصائص هذا الوسيط" (ص.29)، معرفاً الوسيط على أنه أداة التواصل المستخدمة، ومميزا بين نوعين من الأدب الرقمي؛ "الأولى تولي الأولوية لقراءة النص على الشاشة؛ والثانية تركزُ أكثر على نظام الاتصال في مجموعه" (ص.40).
وعلى غير العادة يقر بأنه "ليس هناك قطيعة مفاجئة بين الأعمال الأدبية الرقمية ونظيرتها غير الرقمية، بل هناك استمرارية أجرت نقلاً للمسألة الأدبية بشكل تدريجي وبطيء" (ص.41). وهو ما جعل فيليب بتز، في مقال موالٍ، يصلُ إلى خلاصة مفادها: "إن تحولات الأدب باستخدام الحاسوب لم تنتهِ بعدُ، وإنه إذا كان من المرجح أن تتطور المجلات الإلكترونية غداً على غرار نظيرتها الموجودة اليوم، فهذه الأخيرة ساعدت على تسليط الضوء على هذا التحول، وستظل مكاناً متميزاً ومفتوحاً للتأمل بالأدب في مفاهيمه الخاصة وفي ممارساته" (ص.57).
إذا كان ثمة أدبٌ جديد، فهناك اختلاف في تسميته: رقمي، سيبرنيطي، تكنولوجي، وسائطي، وسائط - تشعبي، مختلط الوسائط، معلوماتي. وهذا التعدد يمثل صعوبة الولادة "وعدم اطمئنان الملاحظين تجاه ظاهرة تبدو غريبة كلياً عن المقولات والفئات الأدبية المعروفة" كما يقول ألان فويلمان (صص.61-62).
وتنشأ، من هنا، بين الأدب والعالم الرقمي علاقات معقدة، محدثة قضايا إبستمولوجية سيكون من شأن طرحها، على الأدب، إنهاء صلة الأدب بالكتاب واعتباره حامله الوحيد، منذ قرون (ص.79)، وميلاد أشكال أدبية جديدة ومتجددة (الكتابات التوليدية، الشعر المتحرك، أعمال التخييلية التشعبية، أدب الومضة)، كلها عوامل ستضعُ الأدب في أزمة لأنَّ الرقمنة لا تكتفي بإحداث أدب رقمي، بل تسعى، مند سنوات، إلى رقمنة التراث، ومن ثمة تنويع المعلومات والموارد، وخلق قارئ يقرأ خارج عالم الكتاب (ص.111)، يغادرُ الحامل التقليدي، بحثاً عن أشكال جديدة سبق أن حدسها بعض الكُتاب؛ شأن "أخيلة" بورخيس، أو أعمال هربرت كوين، أو قصائد ترستان تزارا، أو "تعب الورق" لدى فريدريك دوفلاي.
وإذا كانت الرقمنة هي بمثابة حياة جديدة للأدب، فإن المستفيد الأكبر من هذا الإبدال، هي اللغة، الذي تحدث عن الذكاء الجماعي، في مقابل الذكاء الفردي. إن الذكاء الجماعي هو الذي خلق جيلا جديداً، وعالما عمليا وعالما للتمثلات (ص.117)، كما ينص على ذلك بيير ليفي، بل تفكيرا تشعبيا، ينظر إليه البالغون بحيرة شديدة، لكن الأطفال، دون الخامسة، يمتلكونه "قبل أن يمتلكوا القدرة على الكتابة بقلم الرصاص (ص.141).
هكذا تبدو قراءة ترجمة محمد أسليم، أقرب إلى قراءة مؤلف يحكمه منطق بيداغوجي وعلمي، وتراقبه روح باحث عمل، كل ما في وسعه، لجعلنا نعيش تحولات الحاضر، ونرنو، بكثير من الشوق والخوف إلى الآتي.
وأصالة هذه الترجمة تكمنُ فيما يلي:
1- الترجمة وَفقَ حس إشكالي بالغ الدقة والعمق؛
2- حسن اختيار المقالات والدراسات المترجمة لمختصين أكاديميين، يدركونَ ظاهرة الأدب في أبعادها التاريخية والنظرية والمنهجية والتطبيقية؛
3- إن المواد المترجمة تتضمنُ ما يمكنُ أن نسميه بـ "المعجم المختص" الذي يتضمن 190 مفهوما ومصطلحا؛
4- الحرص على سلامة اللغة الهدف، مما يرفع العتب عن الذين اعتقدوا لردح من الزمن، بوجود معيقات كثيرة تحولُ دونَ ترجمة مصطلحات ومفاهيم ليس لها جذور ولا بيئة ثقافية تدعمها؛
5- وضع القارئ الناشئ بخاصة، في تماسٍّ تامّ مع إشكالات ثقافة أدبية رقمية لها سيرتها الخاصة وآلياتها التفكيرية ومفاهيمها الدالة؛
6- إندراج هذه الترجمة ضمن سياق إنسانيّ "التثاقف"، بمعناه الاجتماعي والنفسي، في إشارة إلى كل عمليات تكييف الفرد مع بيئة ثقافية، وتأثره التكويني بها، والتحولات المرجو حصولها بفعل احتكاك جماعة بجماعة أخرى.
7- ومن هنا، تكتسي ترجمة محمد أسليم، دوراً أساساً في كل هذه العمليات، سواء من حيث كونُها مصدراً للمعرفة أو من حيث الوظائفُ الإيديولوجية التي تضطلع بها على المدين القريب والبعيد.