المثقف كائن اجتماعي، شأنه في ذلك شأن أي إنسان يمارس حياة اعتيادية ضمن جماعة من البشر، أو الكيانات التي ربما تختلف، وتتباين مصالحها تبعاً لظروف معينة؛ ولهذا
تحتكم بعض هذه الكيانات بالكلية إلى ما يعرف بالمصلحة العامة، وهو مفهوم فضفاض، غالباً ما يلجأ إليه في أدبيات الإدارة العامة لاتخاذ قرارات في معظم الأحيان ذات طابع تعسفي، أو لتمرير قرارات لا تحتكم لمبادئ صحيحة، أو عادلة.وفي موازاة ذلك هنالك المثقف الذي يخضع لحاجاته ومخاوفه، بالإضافة إلى طموحاته التي يسعى إلى تحقيقها بطريقة أو بأخرى، ومن هنا تنبثق إشكالية المثقف بين الموقف وردود الفعل، وما تحتكم إليه من معايير.
ولعل طموح المثقفين من أشد أنواع الطموح إشكالية، فهو غير معني بالمكتسبات المادية – إلى حد ما- كون الثقافة من أشد ضروب الممارسات عناية بالجانب الإنساني الذي يحتاج إلى تبني موقف قيمي حقيقي (…) ومع ذلك فإن إيقاع العصر، وتطوراته غير المفهومة في معظم الأحيان، باتت تتطلب توجها واقعياً بغية تلبية حاجات البقاء، وبناء على ذلك، فثمة حاجة لخطة موازنة بين هذين البعدين، غير أن التجاذبات السياسية أو غيرها تتطلب من المثقف أن يتبنى موقفاً واضحاً من بعض الأحداث، أو الوقائع. على الرغم من أن المثقف يدّعي تمثلا قيمياً لأفكاره، فهو كائن قيمي أيديولوجي في المقام الأول – ضمن التعريف المطلق… وهذا أمر غير واقعي، وصعب التحقق- وهنا تكمن إشكالية المثقف، حينما يواجه زمناً يبدو أقرب إلى نموذج عصي على التصنيف كونه، لا ينطوي على أيديولوجيات واضحة، فضلاً عن ثقل النزاعات الجيوسياسية غير واضحة المعالم في معظم الأوقات، وهذا يتزامن مع انحسار البيئات التي كانت تُعنى تاريخياً بتقديم ملذات آمنة للمثقف حينما تشتد الأزمة.
عندما تفقد الكيانات بوصلتها الأيديولوجية، كما قيمها في بعض الأحيان، ما يعني انكشاف المثقف، وتلاشي خياراته في مواجهة خيارات السلطة، أضف إلى ذلك تراجع الغرب الديمقراطي الذي بات غير معني بحماية المثقفين، أو تقديم الرعاية واللجوء، كما كان في السابق. وفي زمن الصراعات والاحتراب، يقع المثقف في موقف بيني، حيث ينبغي من خلاله الإبانة عن موقفه حيال الراهن من الظروف، ونتيجة لهذه الحيثيات، لم يعد مفهوم المثقف العضوي – كما وضحه كل من غرامشي وجوليان بندا – سوى ترف تنظيري، أي بعبارة أخرى، فراغ الذخيرة التي كان يمثلها المثقف، من حيث قدرته على الاشتباك مع القضايا السياسية أو الاجتماعية، وغيرها؛ ولهذا سنجد من الواقعية بمكان، التوصل إلى إدراك قدرات المثقف، وعدم قدرته على تحمل بعض تبعات مواقفه التي يمكن أن يجاهر بها، عبر مطالبته بتبني أيديولوجية السلطة أو موقفها تجاه قضية ما. لقد أصبح المثقف نهباً للقوى التي تحاول استغلاله، فالسلطات تسعى من أجل تحقيق غاياتها، إلى استدراج المثقف كي يقع في دائرة التكسب، فالسلطة تدرك حاجاته، وتدرك أن العالم لم يعد كما كان، وتحديداً في العقود المنصرمة، لقد فقدت معظم الإمبراطوريات الكبرى، وحتى الأنظمة، والدول مركزية الأفكار، أو المبادئ التي كانت تنطلق منها، فلا ضير في حصار المثقف من منطلق استغلال حاجاته الاجتماعية، والاقتصادية. وعلى الرغم من ضآلة المثقف في ميزان القوى السياسية الحقيقية، فهو غالبا لا مرئي في معظم الأوقات، ولكن حينما تشتد الخطوب، يتحول هذا الكائن المفلس (ماديا) والمعزول إلى ذخيرة، يمكن أن تسوغ الكثير من الحقائق المزيفة، وتجملها، إذ تتحول كلماته إلى لافتات ذات تأثير كبير، وجذّاب، ومع أن بعض المثقفين الحقيقيين هم من المتوحدين أو النوابت المكتفين بعالمهم، بيد أن ثمة مجموعة أخرى لا تسعى إلا إلى تحقيق مصالحها، التي تتجاوز جزئية البحث عن مصادر دخل، أو تمويل معيشي كريم، بل ترغب في أن تتخذ أدواراً محورية، ومكتسبات، لا تتوفر إلا في أحضان القوى السلطوية، وبوجه خاص في ظل طغيان القيم المادية الاستهلاكية، بالتراصف مع غياب الحواضن الأيديولوجية، أو حتى مناخات ترعى المثقفين، فضلاً عن انحسار وجود جماعات كانت تتبنى تاريخياً الطرح الثقافي والأيديولوجي بوصفه قيمة ومظهرا وجودياً مصيرياً.
المثقف في عالم اليوم لم يعد يمتلك سوى أن يتقبل فكرة التهادن مع السلطة، أو أن يتسمك بوظيفته « التكنوقراطية « كي يتمكن من الاحتفاظ باستقلاليته، الفكرية، والمعيشية الاجتماعية، غير أن هذه الوظيفة غالبا ما ترتهن في الواقع – شئنا أم أبينا- لسيطرة المؤسسة، أو الدولة، ونتيجة لهذا، فإن السياقات المثالية التي لطالما كانت تدعو المثقف لتبني مواقف حاسمة لم تعد مسوغة، إذ لم يعد ذلك المبدأ القائم على أن المثقف ينبغي له أن يجهر بالتعبير عن مواقفه السياسية أو تحيزاته الواضحة في مواجهة السلطة، ومغامراتها، وذلك كي تكون «مواقف المثقف» مقياسا لوزنه قيمياً، أو ثقافياً، أو أخلاقياً.
ولعل مقولة الالتزام التي نادى بها سارتر، باتت في أدنى معاييرها من حيث التعريف والممارسة العملية، فالعالم اليوم لم يعد كما كان، حيث لم تعد أخلاقية النضال، والمبادئ جزءا من صورة المثقف التي تلاشت، وتهشمت الكثير من ملامح صورته المتعالية انطلاقا من زمن الأيديولوجيات التي كانت شائعة آنذاك. ثمة صعود للتيارات الدينية التي بدت الوحيدة – حالياً- من حيث الادعاء بتبني قيم أخلاقية، أو تدعي الدفاع عن هذا البعد، أو ذاك، ولكن معظم تلك التيارات يعاني من صعوبات بنيوية، فضلاً عن اختلافها، وعدم وجود ملامح للاتفاق في ما بينها، وهو ما يضع المثقف في حيرة.
مع كل ما قدمناه من قراءة، تطال واقع المثقف في التكوينات الجديدة لعصر متحول، لا مستقر، ثمة قضية يجب التنبه إليها، من حيث خلق نسق من التوازن بين الوجود القيمي للمثقف وآرائه، وتتمثل بأن على المثقف أن يحتفظ بالقدر الأقل من دوره من خلال ممارسة الصمت في مواجهة بعض القضايا، التي يمكن أن تنطوي على مواجهة، أو صدام، وهو أقرب إلى ما يمكن أن ننعته بأضعف الإيمان، فالمثقف ينبغي له ألا يمارس فعلاً تدميرياً لبنى معرفية، وإنسانية لا يمكن أن يختلف عليها اثنان، فالصمت يعني ضمن قراءة إشارية احتجاجاً على واقع فاسد، لا أن يضطر البعض إلى تبني أدوار لا يبررها سوى تكسب سلطوي، فثمة في العقل حدود لا يمكن أن نتجاهلها، كمقاومة المحتل، والسعي إلى الحرية، وكرامة الإنسان، والحقوق الثابتة للبشر ولمجموعات التي عانت من الظلم لقرون، كما الكثير من الأقوال والمبادئ التي يدعي المثقفون بأنهم وجدوا للتعبير عنها.
كم تبدو كلمات المثقف، وتحيزاته المناقضة للإنسانية مؤلمة، كون هذه اللغة قد تعني بأننا فقدنا الكثير من معانينا كبشر. إن الإفادة من مواقع السلطة لا يمكن الوثوق بها، لأنها لا تخضع لمبادئ إنما لمصالح يمكن أن تتحول في ليلة وضحاها. الأجدر بالمثقف أن يبقى على صمته الإنساني احتجاجاً لا أن يتحول إلى مثقف زائف، فالكثير من المثقفين الذي ادعوا العمل على مشاريع تستهدف نقد البنى أو الأنساق المعرفية والعقلية المشوهة أصبحوا غير جديرين بالتصديق، فقد باتت معظم أطروحاتهم لغة لن تحتفظ بقيمتها، ولا باستمراريتها وجدانياً أو معرفياً، فهذه الفئة من المثقفين لم تعرف بعد متى يكون الصمت بلاغة، فإن لم تتمكن أيها المثقف من أن تكون في الشارع كما يدعو عبد الوهاب المسيري، فيكفي أن تبقى في بيتك لا أن تقف على أبواب السلطة.
٭ كاتب فلسطيني/ أردني