كنت في بيروت قبل بضع سنين، وقصدت دار العلم للملايين
كي يحدثني روحي البعلبكي عن المعجمي عبد الله العلايلي. ونصب الفريق الكاميرا ومصابيح
الإضاءة، وتدفق الكلام.
حولت مجرى الحديث إلى معجمه الجديد، فوثب إلى منضدته
متحمساً حماسة المؤلف المنغمس في عملٍ جنين. وأراني -والكاميرا ترى معي- مسوّدات المعجم
الذي وصل به إلى حرف اللام، وشرح لي أن معجمه يضم كل جديد، حتى لو كانت اللفظة مستعارة
من لغة أجنبية.
فأبى عليَّ الخبث والعبث إلا أن أسأله: هل كلمة
"بوتوكس" موجودة؟ فأخذ يقلب الأوراق راجعاً إلى حرف الباء، فرأيتها مكتوبة
مقحمة، كأنما تذكرها بأخرة. ورأيت هذا المخطوط السمين مكتوباً بخط يده ومشكولاً شكلاً
تاماً بالأحمر. ورأى المشاهدون معي كل هذا في ذلك البرنامج على قناة الجزيرة الإخبارية.
وصدر معجم "المورد العربي" في نحو
1500 صفحة بأعمدة ثلاثة مكتظة. ووصف نفسه على الغلاف بأنه "قاموس اللغة العربية
المعاصرة مع كل المترادفات"، وبأنه يمثل "منهجية جديدة للمعجم العربي".
وقد صدق في الأولى وفي الثانية، ولكن من ألَّف فقد استهدف.
جمع البعلبكي في معجمه بين معجم المعاني ومعجم المترادفات
فأثقل كاهل اللفظة الرئيسية، وقد تغيب عن القابس العجلان إشارة المساواة (=) التي تفصل
المعنى عن المترادفات. ولكن إيراد المترادفات يزيد المعنى وضوحاً. وفي سوقه المترادفات
فصَّح المؤلف آلاف الكلمات الدارجة.
لم يقف وقفة متردد هيّاب يلتمس الفصيح المعجمي،
ولو كان وقف هذه الوقفة لقلنا له: ما زدت على أن رتبت المعجم القديم ترتيباً مختلفاً.
لقد أثرى معجمه بهذه الدوارج، ولم يحجم عن كلمات كثيرات التقى فيها ساكنان. فدارجة
بلاد الشام تسمح بهذا، وتأباه الفصحى وبعض اللهجات العربية الحديثة.
وقد يبالغ في هذا فتراه يورد عليك كلمة "كيمِياء"
بكسر الميم، ثم يتبعها بـ"كيمْياء" الساكنة الميم، ويزيد فيأتي بكيميا -بغير
همزة- مرتين: مرة بكسر الميم ومرة بسكونها. فكأن روحي البعلبكي يريد عرض كل ما في سوق
اللغة من خيارات.
أثقل البعلبكي معجمه بالنظائر، فهو مثلاً يتبع كلمة
خوان (بكسر الخاء) التي ترادف مائدة، بكلمة خوان (بضم الخاء). لم يكتف -في كثير من
الأحيان- بالأفصح أو الأشيع، ومال إلى الاستيفاء فأثقل به صفحات معجمه. وفتحت له ثقافته
الواسعة -من اللغات الأجنبية ومن العلوم المختلفة- باباً واسعاً، أدخل منه إلى المعجم
العربي ألفاظاً كثيرة جداً لم يسعد بها معجم عربي من قبل.
ويعقد المؤلف -في الملزمة بعد الملزمة من معجمه
الكبير- فصلاً صغيراً ملوناً باللون الوردي يورد فيه طرائف اللغة. فالثعبان يسمى أبا
عثمان، و14 اسماً آخر. ونقول: فلان صابر على النوازل وحمول للنائبات ولا يتضعضع عند
الفاجعة.. وعبارات كثيرة من هذا الباب، الأمر الذي يذكرنا بإبراهيم اليازجي في
"نجعة الرائد وشرعة الوارد". هذه فصول طريفة ومسلية.
وقد سار البعلبكي في معجمه العربي سيرته في معجمه
العربي/الإنجليزي، فرتب الكلمات على الحرف الأول دون التفات إلى الجذر، تسهيلاً على
المراجع. لكنه بهذا شتت شمل العائلات اللغوية، فأنت تجد "ضرب" بعيدة عن
"تضارب" بـ450 صفحة.
ولغتنا ما زالت -رغم ما عرّبناه من الكلمات الأجنبية-
تستند إلى أساس مكين هو الجذر الثلاثي. وقد احتال بعضهم على الكلمات الأجنبية بأن أوردها
كما هي، واحتال على بعض ما التبس جذره الثلاثي بإيراده في موضعه مع إحالةٍ في موضع
الصيغة المألوفة.
وكنت رأيت -في كتاب لي سابق ذي طابع معجمي- أن اللبس
الأكبر يقع في بنات الواو وبنات الياء فضممتهن جميعاً إلى الألف، فالقول والقيل جذران،
وبينهما في المعاجم بضع صفحات، فجعلتهما تحت "قال"، ورأيت في هذا حلاً طيباً.
في كل اللغات توجد للكلمات جذور، وقد تخلى المعجم
الإنجليزي عن الترتيب بحسب الجذر لأن التغييرات على الكلمة تكون في الغالب الأعم باللواحق
لا بالبوادئ. ولا كذلك الكلمة العربية.
أياً كان الترتيب؛ فإن "المورد العربي"
يوصلك إلى مبتغاك، فإن وصلت وجدت ثروة لفظية ومعرفية. فهذا المعجم معجمان في كتاب واحد:
هو قاموس للمعاني، وهو قاموس للمترادفات.
ولئن وصفت جَدّتي الشيء الذي يجمع ما هبّ ودبّ بعبارة
"جراب الكردي"، ذلك الكيس الذي يحمله البائع المتجول وفيه شيء من كل شيء؛
فنحن نصف هذا المعجم الجديد بأنه "جراب العربي"، ونقول إنه لم يجمع ما هب
ودب، بل جمع فأوعى، وقدم للمجامع اللغوية ذخيرة ثمينة ستشغلها طويلاً، إن هي أرادت
أن تشتغل. هذا إلى أناقة في الطباعة، وصبر على الضبط، والتزام بمنهج صارم.
كانت الصناعة المعجمية العربية قوية منذ مئات السنين،
وسبقت، ليس فقط الصناعة المعجمية الإنجليزية والفرنسية، بل لقد اشتد عودها قبل أن تكون
هناك لغة إنجليزية أو فرنسية؛ ثم نشطوا هم في خدمة لغتيْهم معجمياً، ولم ننشط كثيراً،
إذ وقعنا في حيرة بين قديم اللغة وجديدها. وبالمورد العربي قطعنا مسافة طويلة.
المصدر : الجزيرة