حدود
المَلِك ،ضمن المؤسسة الملكية: ربما لأول
مرة ،في ملكية محمد السادس،يُوجه خطاب العرش ،ليس لمواطنين " لايت " منهم
المهتم وغير المهتم ؛ وإنما لمواطنين متلهفين ،تلهف الفلاح
وهو يذود عن زرعه وتبنه ،اذ رأى النار تلتهم حصاد جاره.
ولعل هذا أعز
ما يطلب في خُطب العرش؛ وهي أصوات الحسم
السيادي، التي خولتها البيعة والدستور – وقبلهما التاريخ - للمؤسسة الملكية ؛ فان
لم تكن من مَلِك متلهف على اقامة العدل ،وتحقيق المساواة،والعيش الكريم ،لمن هم
أهم من أبنائه ،من حيث ثقل المسؤولية ؛(من ملك متلهف) الى مواطنين أشد تلهفا ؛ عُدت
من سائر الكلام،الذي يؤخذ منه ويُترك.
ان خطاب
العرش ،كما أفهمه،يرقى من مجرد خطاب للملك ،في عيد العرش – كما استوى في بداياته،عيدا ،وجذوة ، للنضال ضد المستعمرين الفرنسي
والاسباني - الى خطاب للمؤسسة الملكية ؛وهي،كما نعرف، تعلو على المَلك؛باعتبار
الاجماع عليها من طرف كل النسيج القبلي والحضري
المغربيين- منذ استواء المغرب أمة بين الأمم- وباعتبار قدمها واستمراريتها.
أما المَلِك
؛حتى وان كان هو المبايَع على رأس المؤسسة الملكية،و الممثل لها، والناطق باسمها؛
فانه ،لبشريته ،وفرديته،وخصوصيته،لا يتماهى معها كلية،ولا يسري عليه كل ما يسري
عليها.
لقد حفظ
التاريخ المغربي الموضوعي – البحث فيه لم يغادر البدايات بعد- لكل ملك مكانته ؛بين
سلالم الصعود والنزول؛حسب شخصيته و أدائه ،والظروف الوطنية والدولية المحيطة به.
لكن هذا
التاريخ ،ومصادره المتداولة ، حتى وهي تصنف الملوك ،وتشرح ثورات الشعب على
بعض ملوكه الظالمين،أو الضعفاء،لا تضع المؤسسة الملكية
،بمواصفاتها المذكورة،موضع نقد وسؤال.
لا تتم الاطاحة بملك إلا لتنصيب آخر مكانه. مات
الملك،عاش الملك.
انها المؤسسة
الملكية التي اقامت المغرب دولة واحدة،وأقامت لها (المؤسسة) دستورا داخليا ،حكما
على الملوك؛في قوتهم وضعفهم،في عدلهم وجورهم.
في بعض
الفترات ،من تاريخ الدولة العلوية – مثلا- بلغ الملوك درجة كبيرة من الضعف ،حتى
بدت سلطتهم مقتصرة عل بعض الحواضر فقط؛
لكن المؤسسة الملكية حافظت على قوتها ،وتأثيرها ،رغم أزماتها. وبعد الضعف تَطَّرِد القوة والعنفوان، في أوصال
الدولة ؛انطلاقا دائما من جذوة المؤسسة الملكية.
لعل الملوك الأقوياء – كل حسب عصره،والمنتظر منه-
اضافة الى اشاعة العدل ،وتيسير الرخاء،وإعلاء الصروح ،وتسيير الألوية والبنود ؛ يلقحون
المؤسسة الملكية ،بمصل ألاستمرارية الذي يحميها من "أوبئة" الملوك
الضعفاء ،الذين يقودون الأمة صوب مهالكها.
حتى سقوط
الدول ونهوض اخرى ،على مدى تاريخنا ،لم يعمل إلا على ارساء المؤسسة الملكية
،وتقويتها.
داخل
الخطاب ،خطاب موجه للملك:
أغلب الذين
حللوا خطاب العرش ،لهذا العام،وأغلب التعاليق ،وشذرات مواقع التواصل – الباردة
والملتهبة - انتصرت للفعل الذي يجب أن يَجُبَّ ما قبله.
بدا للجميع أن بوسعهم أن يقولوا نفس ما قاله
الملك؛ليس لعدم عمق الخطاب ،بل لانخراطه ونضاله العضوي ،وكأن الملك - وهو
كذلك – واحد من المواطنين،ينتظر جهة ما لتحدث التغيير المنشود .
نعم وثِق
الملك في المؤسسات العمومية ،والأحزاب والنقابات ؛حتى بدا له أن سلامة التدبير
،ومواطنَته ،وجديته، أمور مضمونة؛ وفي
اطار الاختيار الديمقراطي لا يمكن انتظار التغيير إلا من هذه المكونات الدولتية.
فلماذا البحث عن قيصر روماني،بسيف مسلول؟
لقد وقفت
مطولا عند قول أحد المحللين: هذا بالضبط ما قاله الصحفي حميد المهدوي،فكان نصيبه السجن
.
أضيف :كيوسف عليه السلام ،اذ راوده الفساد فأبى
،لينتهي في سجن من أراد صون عزه
وشرفه(العزيز).
وقد سبق
وتحدثت عن المعضلة القضائية للشباب الملكي الحقيقي ،بالريف. كيف يُسجنون وأفضل من
يرافع عنهم الملك؟.
بعد استقراء
الخطاب ،وهو من السهل الممتنع،بدا لي أن الملك ،وهو يخاطب الشعب،والحكومة
والسياسيين- كما يبدو في الظاهر- يستحضر ،ربما لأول مرة منذ مبتدأ ملكيته ،مُخاطَبا آخر ،هو المؤسسة
الملكية التاريخية ،بقضها وقضيضها.
من هنا
مفصلية هذا الخطاب ،التي تتطلب قراءة جديدة ،لم تألفها ساحتنا السياسية والأكاديمية:
أن يخاطب
الملك الشعب فهذا مألوف ؛أن ينوب عن المؤسسة الملكية في مخاطبة نفسه ؛فهذا جديد كل
الجدة.
ان السكتة
القلبية التي سبق للمرحوم الحسن الثاني أن تحدث عنها ،حدثت بالفعل – سياسيا– في
ايامنا هذه، حينما تعفن الوضع الحزبي ،لدواع عديدة؛واحتُقر المواطن الناخب أيما
احتقار ،في تغريبة تشكيل الحكومة.
وبفعل هذا
،وغيره ،تحرك الريف حيث تدافع الفيلان الحزبيان،وتطاحنا حتى قبل طحن محسن فكري ؛وتعفن
حراكه،بدوره.
الحكومة التي
ما كادت تتسلم الركح السياسي الحربي،وليس الحزبي،حتى داهمتها الحركات التكتونية
،في كل الجهات ؛فبدت مرتبكة ،لا تعرف كيف تواجه ألصواعق لتنتهي منتشية بلهاء
بكشفها:
الريف
انفصالي ،والمتهم هو التاريخ ،والخطابي ومولاي يوسف ،وليس الدولة أو الحكومة.
بموازاة كل
هذا بوغت المواطنون ،وهم في أمس الحاجة لمالهم العام ،بسياسة ملكية افريقية ،لها
كلفة مالية فلكية؛وهم في توجسهم معذورون ،لأن كل الشروح والتبريرات التي قدمت لهم
،تصب في اتجاه الابداع في الدفاع عن قضيتنا الوطنية الأولى.
نعم، ولكن
هذا بالضبط ما تفعله الجزائر ،بددت من المال العام تسعمائة مليار دولار ، من أجل
حلمها في الصحراء المغربية. نحن في صحرائنا - في الواقع وليس في الحلم-وقد كلفنا
اعمارها أرقاما مهولة،فكيف نضيف اليها أرقاما افريقية ،لم يفسرها أحد للمواطنين.
لم يتحدث أحد
للمواطنين عن شركاء المغرب في سياسته الافريقية،فذهلوا ،وازدادوا ذهولا ،وهم يقفون
على كل تفاصيل "موسم الهجرة نحو الشمال" كما تنبأ بها الروائي المقتدر
الطيب صالح؛لولا أنه كان يراها هجرة للأفارقة صوب الغرب الغني وليس المغرب النامي.
أبعد كل هذا
ننتظر خطابا للعرش ،يحتفل مع المواطنين،يطلق الأسرى ،ثم يدخل الأرشيف ،ولا أحد
يعاود الحديث عنه ،عدا للاستهلاك السياسي الذي أضنانا ؟
ماذا
قال الملك للملك؟
وبعبارة أدق
ماذا قَوَّل الملك للمؤسسة الملكية؟
افتقاد أحزاب
مُؤطِّرة،ومنتخَبين صادقين في تمثيليتهم ومواطنتهم،وحكومة منسجمة، ومشمرة لأكمامها
في الميدان وليس في العاصمة فقط؛جعل الملك في مواجهة مواطنين ،لم يعودوا يثقون إلا
فيه. حتى المطالبون بالملكية البرلمانية ،أرادوها هذه المرة تنفيذية حاسمة في أمرِ
سيل بلغ الزبى.
ماذا يفعل
الملك ،ازاء هذا الوضع ؛ان لم يسعفه ثقل وتاريخ المؤسسة الملكية؟
يبوح
المواطنون ،بعد الله للملك؛فلمن يبوح هو؛ان لم يكن للمؤسسة الملكية؟ومن هنا بدا منتقدا
وشاكيا أكثر منه مقررا.
شاكيا
لكن شكاته تقول:
ها قد حلت السكتة السياسية ،وأوشكت بطارية
الدولة على النفاذ؛ فكيف ننطلق من جديد ،ونعبر الأزمة كما ،عبرناها في كل تاريخنا
؟
من أين
الطاقة،ان لم تكن من المؤسسة الملكية؟
انها نفس
المؤسسة التي أسعفت المغاربة ،ومحمد الخامس رحمه الله في المنفى، في الانتصار
للمقاومة ،ومواجهة شدائد المستعمر.
ان الملك
اليوم بين ظهرانينا ،نعزه ونجله؛ينطق بنفس همومنا ،ولا مخلص لما نحن فيه عدا
الدستور الصامت،والمتوارث ، للمؤسسة الملكية؛بما هي مرجعية في الشدائد.
يقودني هذا
التحليل الى توقع حلول جذرية،مفصلية تجب ما قبلها من مناوشات الاصلاح.
لا اقل من
تحييد الأحزاب ،الى حين،وتشكيل حكومة تكنوقراطية،تنكب على وضع الأسس الصادقة
،والمواطِنة، لملكية محمد السادس الثانية؛ كما رسم خارطتها خطاب للعرش ،خاطب فيه
الملك نفسه أكثر مما خاطب مواطنيه.
https://mestferkiculture.com