-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

محمود الرحبي : وليمة في بيت حسن

حسن يعيش اللحظات الأخيرة لانتظار ضيفات زوجته.. كان يجلس في مقعد سيارته متوترا وهو يحرّك حدقتيه في الزجاج والمرايا العاكسة، الأمامية والتي على الجانبين. ظهرت السيارة الأولى، وكانت، كذلك، "هيونداي" صغيرة الحجم. بداخلها عائلتان تتكوّنان من سيدتين وخمسة أطفال. كانت بمواصفات السيارة التي أرسلت إليه زوجته صورتها عبر "واتس أپ". رأى نفسه يرفع إحدى يديه مشيرا للمرأة التي تقودها. قابلته بقسمات جادة، وهي ترفع يدها وتهز رأسها إيجابا دلالةً على أنها ستلتحق به. عليه الآن أن يقطع العشرين كيلومترا الفاصلة بين بيته ومكان الانتظار، وهو محل تجاري ضخم تعرفه النساء جيدا، بحكم تخصصه في بيع الصحون والأكواب الزجاجية، بكل أنواعها وأشكالها وأحجامها. كان حسن وهو يقود سيارته ينظر إلى الخلف، عبر المرآة المستطيلة الصغيرة المعلقة، بالقدْر نفسه الذي ينظر به إلى الأمام. لكنه يركز أكثر في التطلع إلى الخلف، بعد أن يختفي أثر السيارة التي يُفترَض أن تكون خلفه، وخاصة حين تظهر أخرى أكبر منها حجما وتغطيها. حينذاك، يشرئبّ بعنقه باحثا أو يلفّ بسيارته يمينا ويسارا حتى يجد السيارة. شرد لحظة وزاد من سرعته، فتوسّعت المساحة بين السيارتين. غطّت شاحنة مجال الرؤية. خفّض سرعته ولوح بيده للسائق لكي يتجاوزه. لكنه لم يفهم إشاراته. ربّما ظنه معتوهاً أو سكرانَ يتعمّد استفزازه. اضطر إلى إيقاف سيارته في الخط الجانبي كي يسمح للعربتين، الشاحنة والسيارة الأخرى التي كانت تتبعه، بأن تتقدّما. بعد ذلك، زاد سرعته، متعقّباً السيارة الصغيرة كي يتقدمها. تلقى مكالمة من زوجته. قالت إن السيارة الثانية قد تحركت نحو محل بيع الصحون؛ أي أنّ عليه أن يعود أدراجه بمجرد ما يصل إلى بيته. حين اقترب من البيت، أخرج يده من النافذة ولوّح بها صوب السيارة التي خلفه، مشيرا للمرأة نحو بيته، الذي عليها أن تقف أمامه. راقبها وهي تتوقّف.  ثم أدار مقود سيارته عائدا.
استغرق تحضير هذه الوليمة منه ومن زوجته أسبوعا كاملا، سكنت خلاله الزوجة المطبخ ليل نهار. أمّا هو فتحول إلى ساع لجلب الأغراض، بل إنه اضطر إلى الكذب حتى يأخذ إجازة اضطرارية من عمله، ذلك النوع من الإجازات التي لا يُطلب إلا في حالة وقوع كارثة حقيقية تمنع الموظف من العمل. طلب ثلاثة أيام، متحجّجا بأن عليه أن يأخذ زوجته لتلقي علاج مستعجل في إحدى مستشفيات دبي. سُمح له بالأيام الثلاثة. ظل خلالها حسن يتحرك كالنحلة، منتظرا طلبات زوجته التي لا تتوقف. يأتي بعضها مستعجلا وفي أوقات غير متوقعة، كنفاد السكّر في لحظة تحضير الحلوى أو توقّف أنبوبة الغاز في عزّ ظهيرة قائظة. يضطرّ إلى حمل القنينة الفارغة وحشرها في مؤخرة سيارته ثم الانطلاق في الشوارع لمطاردة سيارات أسطوانات الغاز..
كانت السيارة الثانية من نوع "فورْويل"، ولكنها "هونداي" كذلك. حتى حسن سيارته "هونداي تيكسون"، قديمة نسبيا مقارنة بالـ"هيونداي سانتافيك"، التي تتبعه، وخلف مقودها امرأة مع عائلتها. بدت المرأة التي خلفه مرِحة مقارنة بسابقتها. إضافة إلى أطفالها الخمسة، تحمل معها أمها، التي كانت تجلس بحانبها. كانت تسرع نسبيا والابتسامة لا تفارق وجهها. شيءٌ ما يُفْرحها، لا يريد حسن أن يتبيّنه. كانت تحاذي سيارته وتشير له أن يزيد من سرعته أكثر. هي ليست كالمرأة التي أوصلها قبل قليل. تفهّمَ عجلتها وابتسم رافعا يده. زاد سرعته دون أن يضطر إلى النظر خلفه كثيرا. لكنه وجد نفسه، فجأة، مضطرا إلى أن يرفع يده بعنف وهياج في وجه المرأة، التي بذلت جهدا كي تفهم إشاراته. كان أحد أبنائها يُخرج نصف جسده من نافذة السيارة الخلفية. طمأنته المرأة مبتسمةً ألا يقلق. ولكنه عاند، رافضا زيادة السرعة حتى يعود الصبي إلى مقعده ويغلق النافذة. كان الطقس غير حار ولا يحتاج إلى تشغيل أجهزة التكييف. اتصلت به زوجته عبر "واتس أپ". ذكّرته بأن عليه ألا ينسى الذهاب إلى بيت أخته ليُحْضرها، هي وأولادها. وحين وصل إلى بيته واطمأن على وصول ضيوفه، أدار المقود في الحال نحو وجهته الجديدة.
كانت الوليمة للاحتفال بسكنه الجديد، الذي أصبح، أخيرا، ملكه؛ بعد سنين عديدة قضاها متنقلا بين عدة بيوت للإيجار هو وعائلته الصّغيرة: زوجته وطفليهما. لم يجد طريقة للتخلص من تلك الشقق الضيّقة المستأجَرة إلا بشراء أرض في منطقة في أطراف مسقط. وبفضل قرض بنكيّ طويل الأمد، استطاع أن يبنيها.
ستبدأ حفلة النساء أولا، وبعدها بأسبوع، حفلة الرجال. هؤلاء لن يتطلبوا أكثر من وليمة غداء وصحون ضخمة مليئة بالرز واللحم، والسلام.. وجد أخته تنتظره مع أبنائها، الذين هبوا متدافعين إلى بابَي السيارة بمجرّد توقفه أمام الباب. كانوا ستة أطفال، أربعة أولاد وبنتين. جلست أخته إلى جانبه وشرعت تثرثر بدون انقطاع، مشتكية من زوجها، الذي لا يعود إلى البيت إلا سكران. كُتب لي أن أنام ورائحة الخمرة تخنقني. من أين تأتي البركة إلى بيتنا ونحن على هذه الحال!؟..
حاول تهدئتَها، شارحاً لها أنّ زوجها، رغم هذا العيب، فهو أصيل وكريم، مع تأكيدات بأنه لا يعاشر غيرها، بخلاف العشرات ممّن يعرف. يكفيها أنه يأتي، في آخر المطاف، إلى بيته لينام في حضنها. هدأتْ قليلا بعد كلامه المطمْئِن. حين وصلا، طلب منها النزول لأنه سيبقى في سيارته ساعة أخرى. دار بالسيارة في الطرقات. لم يكن بعد في المنطقة التي يسكن فيها أي جيران قريبين. أقربُ جار إلى بيته أبعدُ من أن يكون جاراً له. والغبار يخنق الأنفاس، فالبناء لا يتوفف. حين عاد إلى البيت طلبت منه زوجته، بهدوء، أن يتسلل إلى غرفة النوم ويغلق دونه الباب، وستأتي إليه، لاحقاً، ببعض الأكل.
كانت أصوات الأطفال تخترق الجدران وتغطّي على ضحكات النساء في مجلسهنّ. كان كل ما يقال يصل إلى مسامعه واضحاً، لأنه لم يضطرّ إلى إشعال مبرّد الهواء أو المروحة.. ظل ينصت إلى وقع الفوضى الغريبة في بيته، منتظرا إشارة انطلاق رحلة العودة. سيكون عليه أن يتحرك، مجددا، أمام سيارات الضيوف، تباعاً، ثم أن يوصل أخته حتى بيتها.
*كاتب من عُمان
عن ضفة ثالثة

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا