-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

أحمد بنميمون : الفراشتان تعودان

بأسرع ما كانتا تتصوران عادتا، وقد نجحتا في مهمتهما التي سافرتا إليها، بل وحتى في الحصول على وسيلة نقل من مكان ناءٍ ، فانتقلتا من هامش المدينة الكبيرة الذي كان موقع المتجر الكبير الذي قصدتاه لإتمام شروط القرض عنده، إلى مركزها دون صعوبة تذكر، حتى بدا للصغرى أن تحقق رغبات كانت مستحيلة قبل حلولها قريبةً من بوتيكات تجارية ومطاعم تقدم أكلات لا أشهى منها ولا ألذَّ، كان الجلوس لتناولها يبدو من تلك المدينة السرداب التي جاءتا منها إلى مدينة سارت في الأيام الأخيرة تطفو على وجه الأرض بسرعة أذهلت الكثيرين، كل ذلك لم تكن الفراشتان تتصوران السفر القصير ، في أمسية أكثر قصراً ـ في الحقيقة ليس أكثر من سبع ساعات ـ قد يسمح بها ، بينما كان ظل الرجل يتهاوى رويدا رويدا، وفي بطء ثقيل، عن كرسيه الذي تركتاه عليه، حتى فوجيء بسماع صوت يأتيه من وراء مزلاج باب الشقة الخارجي، في الحقيقة هو باب يفتح ليقابله باب شقة أخرى هي الوحيدة التي تشارك شقتهم في هذا الطابق، ثم تتحرك يد لتمتد إلى زر كهربائي كان يحتاج إلى أن تخطو إحداهما خطوتين أو أكثر قلياً حتى تعثرعليه لصيقاً بالحائط الذي يقابله، فتعمّ الصالة المنفتحة على ممرّ يمضي إلى عدة جهات في فسحة هذه الشقة التي يشهد أنه ارتاح إليها منذ يومه الأول بها، إنارة قوية اضطرب لها ظل الرجل ، كما لو أنه حوصر بصحو أخرجه بعنف من ظلمات كان يفضل أن تستمر، رغم ا كان يجيش به صدره من هواجس سوء ظن كان يعرف أنه سينساها بمجرد سماعه صوت إحداهما وهي ترفرف تحت وهج مصباح الصالة الوحيد والقوِيِّ، فياضاً بما يغمر صاحبته من مشاعر فرح بنجاح ما خرجتا من أجله، ناسيتين بعد رجوعهما ما قطعتاه ذهاباً، في حافلة كانت تقل بين ركابها فئات مختلفة من الناس ، منهم فلاح كانت تنبعث منهم روائح مواشٍ زكمت أنفيهما طول الطريق، وإيابا ، في سيارة أجرة ، كلفتهما زيادات يفرضها سائقوها اللّْيْليُّونَ، لكنهما رغم ذلك حمدتا لسفرهما أن انتهى بسلام. إلأى أن نزلتا ، وهما تغادران سيارة الأجرة قريباً من سكناهما.
لكن ظل الرجل باقٍ ـ وما أكثر ما أستغرب مما ينشأ عن كوني مجرد ظل من قابليتي لأن أكون ولا أكون في الآن نفسه،وأن أزول وأكون دليلأً على وجود غيري، مع غحساسي بالفحولة الذي أحاول به أن أهب نفسي بعض الثقة، و رغم كل ذلك ظلِلْتُ ثابتاً كالهمِّ الثقيل على صدر الفراشة الأم ما يقارب الأربعين عاماً، وهي التي كانت تحاول منع ابنتها من أن تحمل لأبيها حتى آخر نفَسٍ، شيئاً يتناوله على العشاء حتى وقد تأخرتا عنه كما لم يحدث إلا في النادر، من مطعم فاخر كانتا قد تناولتا فيه شيئاً خلال هذا المساء، مذكرة إياها أنه هو أيضاً لا يتذكر أن يعود إلى أي منهما بشيء متى ما كان مسافراً، وما أكثر ما سافر خلال الأسبوع الأخير، فكأنه لا يتذكرنا ، وهو في العاصمة أو في كبرى مدن هذا المغرب، أو وهو يشد الرحال إلينا عائداً من أي مكان كان في السهل أو في الجبل، لكن ابنة ظل الرجل لا تنساه مهما إلحفت أمها بوصاياها التي تزداد عدوانية كلما رأتني أركن إلى عزلتي وأوراقي، والحقيقة أن شيئاً كان يمنع هذه المرأة من أن تتقارب مني ، أنا الذي كنت اطمح أن أمد إليها من الجسور ، واحقق معها من الأحلام ما أدركت اخيراً أنه يهوي ويخيب ، لأسباب معظمها صادر عما حولنا ، ليس منا في جميع الحالات.
هوت ابنتي على كفي بما حملت إليّ من زاد، هي التي تعرف أن أمها لا تقوم لإعداد أي شيء للعشاء ، إما لأنها لا تصل في كل مساء إلى البيت إلا مرهقة، أو لأنها تعتبر الليل منحدراً يسهل اجتيازه، ويا لصعوبة اجتياز ليل المرضى، وحتى ليالي الشتاء، ببردها القارس ، أو طول ساعاتها، لكن ظل الرجل كان يؤثر دائما أن يغض الطرف، ويسامح، حتى تعودت شريكة حياته على ذلك منه. فأصبح عادياً لديها أن تتأخر ليلاً، وأن تنسى أن هناك وجبة عشاء، لا ينبغي السكوت عليها، ولو كانت مجرد أكلة خفيفة، وتتزايد شهية ظل الرجل على العشاء إلى تناول شيء مهما كان.
فتحت الأكلة المكسيكية "باكو"التي حملتها إليّ، لكنها أسرعت تنزعها ، بشكل خاطف من بين يديّ ، وتدعوني إلى قليل انتظار، فرفعتُ بصري إليها في احتجاجٍ :
ـ لماذا؟ أهناك ما يدعو إلى تأجيل أو انتظار ؟
ـ أجل ، انتظرني قليلأ أن أضع أكلتك في الميكرو ـ أوند. لتأكلها بالدفء الذي تُقدَّم به في محلاتها الأصلية.
فطِبْتُ نفساً، لجميل فراشتي الصغرى بي ، وكان الليل الشتوي من حولنا يجثم ثقيلاً على سرداب ، لا خلاص للنفوس فيه ، إلا بمزيد غرق في اختلاق تسليات أو متابعة مسلسلات، وثل من كانوا من أهالي هذه المدينة الدهليز مهتماً بما يعلو به عما يهتم به عموم الناس، فماذا يمكن أن تكشف عنه ظلمات بعضها فوق بعض، والحقيقة أن ظل الرجل ارتجف اللحظة من فزع ، وهو يسمع عن اغتيال جاسوس، فهو في عزلته لا يتصور أن يسير هذا الكون إلا بما تسير به شموس مجراته، فكيف يكون هناك من يريد لحركات الليل والنهار أن تختل، ولعن عالم السياسة مترحماً على ضحاياه ، ممن ذوبت أجسادهم في حامض أو من شرّد بهم، أو من سمحت لهم حظوظهم أن ينجوا بجلودهم، ولا رحمة لمن وُضِعَ عنقه على مذبح، ولو تحت أضواء منصات، فشبيه بمنصة المقصلة كرسيٌّ تستنطق عليه في مخفر أو مكتب مسؤول فاخر، فخير لك وقد انتهيت ظل رجلٍ أن تسيل نفسك فوق مقعدك هذا ، في شقتك هذه، من أن تقاد إلى كرسي كهربائي يذهب بك، كما ذهبت كراسي غُرَفِ غازات، في منافي أو سجون، لا يعني أننا لا نراها أنها غير مصلتة على رقابنا أجمعين.
وضعتْ فراشتي بين يدي وجبة "باكو" اللذيذة المختارة ، وجلست تنظر إليّ وأنا ازدردها بشهية زائدة ، بينا كانت أمها تذكرني أنها ياما الحت عليها في ألا تأخذ لي شيئاَ،وهي تعرف أن قولها ذلك لم يكن ليؤثر في ابنتها ، كما أنه لا يؤثر فيّ ، لكونها متأكدة من حقيقة ما أمنه لها من حب ، رغم كل شيء ، فنحن حينما نخلو إلى فراشنا، تتغير الأشياء، وتتراقص الأطيف والأضواء ،ويتحول الظل إلى فَحْلٍ ، فنرتفع، أن وإياها ، إلى آفاق من التصافي والتذاوُتِ والتفاهم، حتى أننا نبيت بالفعل مع كل اتصال، روحين في بدن واحد،وجسدين في عشٍّ صاعد، بما يجعلني أنكر بشدَّةٍ أن يكون فراشي مع إنثاي التي آثرتها بين نساء العالمِينَ عشَّ دعارة فاسد، فانا أربأ بي وبها ان نكون نتاج خطيئة أو اتصال جاحد، ترى متى يصح أن أنظر إلى نفسي بتعالٍ أو باحتقار؟ أحينما لا أعود أكثر من ظل رجل، أم حينما أتجدد بحبي في هذا الآخر الذي يحييني بذوباني فيه؟ دونما إحساس بنقص أو تُقاةٍ من اضمحلال ذاتٍ وزوال، إنه ليعز عليّ، وعلى شريكتي أيضاً ، فراشتي هذه التي تطلب أن تذوب في غمرة اضوائي، أن انصرفت فراشتنا الصغرى ، إلى حجرة نومها الفردي البارد، فنحمد لأنفسنا ما بذلناه في سبيلها، حينما دفعنا عنها ما حقق لها على الأقل ، القدرة حتى تهدأ، تحت تأثير ذلك الكم المتزايد، من أدويتها ، مما يهبها ما تواجه به صعاب الحياة المتعددة، وأهوال العمل المتجددة. وإن كان أخوف ما أخافه أن تحترق في نار ذاتها ، قبل أن أزفها إلى غيرها، على ما درج الخلْقُ عليه من سُنَنٍ لا يزالون يستميتون في محاربة من يروم تغييرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
31/03/2018



عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا