التربية لدى الشعوب والمجتمعات تكتسي طابعا أساسيا
وأهمية بالغة لأنها تعد للتنشئة التي لا يمكن الاستغناء عنها لبناء المقومات الضرورية
حتى يقوم الكيان وينهض، فحيث لا توجد تنشئة
يحل الشتات وتبعاته..ومن هنا تفرض نفسها هذه التساؤلات بالنسبة لمجتمعنا وهي :
- أية تربية نربي ؟ هل التربية على الوعي
بالذات أم على الوجدان الجمعي أم على القيم والمبادئ أم على السلوك الأخلاقي والعملي؟
أم على شيء آخر...؟
- ومن نربي؟ هل الطفل أم الشاب أم الكهل أم
المجتمع برمته...؟
- وما هي مجالات التربية ؟ هل الأسرة أم المدرسة
أم الشارع أم المؤسسات التدبيرية أم الإعلامية أم الردعية ؟ أم شيء آخر...؟
- ومن هو الذي يربي؟ هل رب الأسرة أم المعلم أم المثقف أم السياسي أم السلطوي
أم الإعلامي أم الواعظ؟ أم غير ذلك...؟
- وهل لدينا نموذج تربوي ممنهج و موحد أم
نماذج مختلفة أم كل شيء تلقائي وعشوائي؟
يبدو من خلال هذه التساؤلات الإشكالية أن التصور لنموذج تربوي، كمشروع
اجتماعي راهن وبالتالي حضاري مستقبلي، يكتنفه الغموض والارتباك ولا تظهر ملامحه عندنا
بكيفية جلية ومركزة، شأننا شأن باقي المجتمعات التي تقف عند نقطة بين الثقافات التراثية
والحداثية مقتصرة على الاستهلاك الانتقائي،
وفق الظروف وتقلباتها وحسب المتطلبات اللحظية، ملأ للفراغ..وذلك لعدم التمكن من إطلاق
قدراتها على الإبداع والإنتاج ، لأن وثيرة المستجدات والمستحدثات متسارعة ومبهرة لا
تسمح إلا بردود أفعال بطيئة أحيانا، واستعجالية مرتجلة أحيانا أخرى ، وأن سعة أفق الموروث
التراثي من جهة أخرى قابلة للاشتغال قسرا،
لكونها مهيأة ماضويا.. ومن هنا انحصرت الرؤية
المستقبلية ومعها دينامية الابتكار، واكتفينا بالخطاب الكلامي كأسلوب تربوي وعظي بصيغ ثابتة ( افعل ولا تفعل..كن ولا تكن..يجب ولا يجب...
) دون تحديد للكيف والكم والإطار والهدف ،
منشغلين عن بذل هذا الجهد ، إما بسبب تعدد
الإكراهات والمعيقات المعضلة أو الحاجيات والأولويات الملحة أو الإحباطات الناجمة
عن الشعور بانسداد الآفاق..فأدت هذه الظواهر والحالات إلى تخلي أهم المؤسسات والمجالات
التي كان لها دور تربوي ريادي عن مهامها ومسؤولياتها ، فنلاحظ ما يلي:
- أن الأسرة اقتصرت على التناسل والتكاثر
وصارت منشغلة بحاجياتها الاستهلاكية الملحة
يوميا..
- أن المدرسة غدت تتناسل هي الأخرى طرقا وتجارب
غير مستقرة، جاهدة نفسها تقاوم ضغط الأمية والتشغيل الذين يهددان بانهيارالأمن الاجتماعي..
-أن الشارع لا ينفك يتناسل أنماطا اختراقية
ومظاهر استفزازية، لاتترك أية فرصة أونفس
لتدارك وثيرتها المتسارعة وتفريخها المتولد والعارم..
-أن تدبير الشأن العام يتناسل شكليات وبرامج
مرتجلة وتجارب مبتورة، صورية في معظمها
و متاهية
أيضا، لا تساعد على تجذير الثقة والاطمئنان..
- أن النخبة بجميع فروعها ، إما معتلية أبراجها
العاجية أو منشغلة بسراب الارتقاء
الاجتماعي
، لأنها لا تملك مشروعا واضحا..
ونستنتج إذن من كل هذا حقيقة تابثة تتمثل في الفراغ التربوي وتعطيل وارتباك
دور التربية في جل المؤسسات الوظيفية للمجتمع والذي لا يمكن أن يعكس- أي هذا التعطيل
والتخلي- سوى ضياع الأجيال بالمعنى الحقبوي حقبة تلو أخرى...وفي غياب أي تأثير تربوي
من أية جهة كانت، نسمع بالتخليق للحياة العامة، ومنها السياسي والإداري والمالي والانتخابي
والسلوكي واللائحة طويلة...ونسمع أيضا بأن آليات المراقبة والردع والقضاء كفيلة بأن
تساهم مساهمة فعالة لتحقيق هذا التخليق..كلنا نطمح إلى ذلك ولكن كيف يتهيأ إنجاز كل
الخطوات بوثوق، وبكيفية تكون فيها المعطيات دالة على النتائج والعكس صحيح..؟ ومن يضمن
سلامة هذه الآليات في حالة إغفال الدور التربوي بالشكل الذي هو سائد..؟