منذ باكورة إصداراته الشعرية تحت وسوم " الطّريق
إلى الإنسان"،مرورا بالعديد من الدواوين الباذخة الأخرى التي احتفت بالكائن البشري
والعنصر الطبيعي وانتصرت لهما،و وهدلت بمخزون الذاكرة واخترقت حدود الزمن إلى شعرية
مبطّنة بخطاب البكائية وندب الأعياد المنفلتة المتضوعة بفلسفة الحنين أو الميل النشوز
الوجداني المبرّر، إلى محطات ماضوية نابضة بأوراق المجد المسلوب،كما في المجاميع التي
نجردها تباعا على سبيل المثال لا الحصر: الأشياء
المنكسرة، آخر المساء، إلى شجر البياض، القبض على الماء، بعد الجلبة، وعلى عتبة البحر،موّال
أندلسي، ، نمنمات ،وصولا إلى ما المستجدّ من شذراته التي يُوقّعها هنا وهناك في مختلف
المنابر الوطنية والعربية،نجده يسعى على الدوام إلى ما يشبه تعهّد ذبالة القصيدة المغرّدة
بغائية الذات والمكون الفضائي على مطلق سطوته وجماليته وانطفائه أيضا،يتعهّدهما بأقصى
درجات ومراتب العناية والحفاوة والاحتضان.
كذلك هو الشاعر المغربي الجميل عبد الكريم الطبال،
ناسك الجبل على حدّ تسمية الزميل الشاعر الناقد عبد اللطيف الوراري له، في غير ما مناسبة.
كيف لا و هو المنحدر من جنة الدنيا " شفشاون" هذه العروس الأبدية التي أرغمت
شاعرها على أن يسرق من أسرارها كي يلوّن عالم النتانة والوباء ،وسّعت مخياله و هذّبتْ
ألفاظه ،فلم يزل يعتّق نزيف أنامله بعذرية وطفولة هذه المدينة الساحرة.
الطبال ذلكم الاسم الاستثنائي، بحيث لا يكف محاولاته
المغرقة في تجريبية عرفانية بامتياز ، تحفظ لشعلة الكتابة المزدانة بذاكرة الطفولي
والهشّ والقابل للكسر،ضدّا في ما قد يشي به البضع من دوال ، إحدى عتبات مجاميعه الطاعنة
بلذاذة اقتناص الموغل في التفاصيل المعيشية، بكل ما أوتي من نباهة وقوة رصيد معلوماتي،
يصون لهذه الشعلة توهّجها، ويحرس بأناقة المفردة وعمق وإثارة تلاوين إيحاءاتها،كأنّما
يربّي فلوته، ضمانا للحبل السري الذي يصله بنبع حكايته البرود ، في تحليق كلمته على
جناحي الإنساني ،و معادلة في ما ينجذب إلى عوالم تشخيص سائر مكونات الطبيعة الأخرى،
كامتداد للذات إذ تدشّن أشهى لوحات لملمة مشهد الفوضى والعبثية، صوب منظومة ما يمنح
معانٍ إضافية للحياة.
نبحر في الاقتباسات التالية ثم نعود:
" فقلت له :
قضيت العمر كله
في آهة لطفل ضاعت منه شهوته
وفي بكاء الكون
فقال لي:
أين العلامة؟
فقلت:
ينزف الدم من أصابعي
وتومض العينان في بيداء الليل
وأشرب الرذاذ بالمنقار".
....................
" قالوا
إن سيدة اسمها كوبرا
قَدمتْ من غَابتها السَّوداءِ
قالوا:
إنها في المدينة ترفلُ
في السُّندسِ
إنها في الشارع ترقصُ
منْ دونِ مزمارْ".
....................
" وَمَرَّةً أُخْرَى
لقيتُ الطِّفْلَ
شَيْخًا
قُرْبَ اَلَّلْيِلِ
طَاعِناً فِي الْعِشْق ِ
رَاكِبًا خَيْلاً
من الخَيَالْ
رَاحِلاً
مِن البَحْرِ إِلَيْهْ".
.......................
" يَا أَخِي
الإقَامَةُ فِي قَطْرَةِ الدَّمْعِ
لا تَنْتَهِي
هِيَ بَيْتُ الحَيَارَى
وَسَجَّادَةُ العَارِفِينَ
وثَوْبُ الصَّلاَةِ
وخَلْوَةُ أَهْلِ الكَلاَمْ ".
.......................
" اللَّيلةَ
أنسى الليلةْ
الليلةُ تنساني
تتوهَّمُ
أني مرآةْ
تنظر فيها
أتوهَّمهَا
مرآةْ
أنظُر فيها
وكلا الوجهيْنِ
واحدْ …
أيتها الليلةُ
سوف ياتي في الصبحِ
أطفالٌ يرمونَ
علينا الأحجارْ
الضَّبَابُ
عَلَى الرُّوحِ
يُخْفِي
طَرِيقَ الخيالِ
طَريقَ الحقيقةِ
حتى
طريقَ العَماءْ ".
........................
" ثَلجٌ فِي الطَّرِيقْ
أيْنَ انْوَجَدْتْ
كَانَ الخَيْلُ مِثلَ الليْلْ
يَشخُبُ فِي دَمِي
وَكَانَ الاصْفِرارُ فِي الكَلامْ
أَيْنَ ابْتَسَمْتْ
كَانَ الثلجُ ضَاحِكًا
فِي شَفَتِي
وَكَانَ النَّهْرُ سَابِحًا
عَلى الأصَابِعْ
أَيْنَ انْعَبَسْتْ
كَانَتْ شَفْرَة ُالسِّكِين ِ
فِي الحِجَارَة ِ
اَلتِي أَجُرُّ فِيهَا قَدَمِي
وَكَانَ الآخَرُونَ يَسْخَرُونْ ".
.............................
" إنْ طَالَ الْبَيْنْ
بَيْنِي وَأنَايْ
سَأكْتُبُ لِي
فِي وَرَقِ الْمِرْآةْ
فَإنْ لَمْ يَبْلُغْنِي
مَكْتُوبُ الْمِرْآةْ
سَأرْحَلُ
فِي صَحْرَاءِ المِرْآةْ
سَأمْخُرُ
فِي بَحْرِ المِرْآةْ
سَأعْبُرُ
غَابَاتِ المِرْآةْ
إلَى بَلَدٍ
فِي المِرْآةْ
إلى سَكَنٍ
فِي المِرْآةْ
إلى بَهْوٍ
فِي المِرْآةْ
إلَى حِضْن
فِي المِرْآةْ ".
..................
" يرتفعونَ عنِ البحرِ
أو كالمراثي
التي تَتَدفَّقُ
منْ حنجراتِ المنابعِ
لا ينظرونَ إلى الأرضِ
أو يرجعونَ
خيالاً
إلى زمن المهدِ
والذكرياتْ ".
.....................
"الأفعى
خدعتنا مرتين
مرة
مع السيدة حواء
مرة
مع السيد جلجامش
ولم يبق لنا شيء
هبطنا
انتشرنا في الشتات".
يتسم مثل هذا النزوع العرفاني، مثلما تقدّم، بحدّة
اغترافه من حقول فلسفية دالة ومحيلة على نوبات مغازلة الصميم الإنساني، ولا يزيدها
فعل استدعاء الرموز إلاّ لولبية تقود إذ تقود إلى أقصى نقاط المكنون المنصرف إلى ثقافة تمجيد الطبيعة كآخر نواته
في الذات إذا شئنا، تنتهك خرائطه بثقل ظلال ذاكرة المكان والطفولة.
من هنا وفق ما يصيّر بيداء الممارسة الإبداعية اليباب
،إلى أفق طوباوي على مقاس زئير الذات الشابة في منعرجات تخضرمها،وبنظير هذه الكبّة
من الأوجاع، يُغزل معسول البوح لدى الشاعر عبد الكريم احمد الطبال، وتتجذّر مضارب انتماءاته
للإنساني متماهيا مع صور الجلال بريشة صمت وبياض المكون الطبيعي من حول ذات منطلقة
ومتحرّرة ، تأبى إلاّ أن تكتب لحظتها ،بحبر الأسرار الضاجة بها الواجهة الأخرى لما
نحياه.
هكذا إذن، وبأسلوبية للتجاوز الخجول، يعيش عبد الكريم
الطبال تجربته الناسكة،دون أن تلتبس عليه دروب العودة على طفولة ارتخاء تاريخانية المنبت،سلاحه
ذاكرة مثقوبة،تمارس عفويتها،ولا تمرّر خارج حدود النص والزمان، سوى ما يرفع الذات إلى
برج أو جبل رعي معاني الحياة، تبعا لفصول توأمة حقيقية وغير مفبركة، يذوب في تلافيفها المعطى الإنساني والكوني على حدّ سواء.
شاعر وناقد مغربي