بقلب مليء بالانكسارات وأنفاس خانقة يُعدّ إبراهيم حقائب السفر، لم يستغرق وقتا طويلا حتى انتهى من كل شيء، بالرغم من اضطراب حركات يديه وارتعاشهما، فهو لم يضع في حقيبته سوى القليل من الملابس وبعض الأوراق الرسمية، وذلك حسب ما تتطلبه رحلته هذه!
يتمزق قلبه ألمًا فهو سيترك مدينته الحزينة قامشلو التي أغرقت قبل أيام في الدماء والدموع على ضحايا قضوا تحت الانقاض، مدينته التي شهدت تراجيدية وأد الحياة بكل تفاصيلها، حضنت عشقه الطفولي وقصص الحب الشاردة، وتاريخه المرسوم بحروف السعادة والألم، كانت شاهدة على ولادة مهاباد ابنته الوحيدة التي انتظرها خمس عشرة سنة لتكحِّل عينيه بنورها الملائكي.
التفجير الإرهابي الذي هزَّ قامشلو في الحي الغربي، قلب موازين حياته، أقلق روحه، وبث الخوف في نفسه.
مضى شهر على التفجير وتفكيره لم يهدأ ولم يستقر له حال، يخشى على حياة مهاباد ومستقبلها وهي بين أنياب البؤس والمصير المجهول، لا سيما وأنه صار يتخوف من احتمال حدوث تفجير آخر حسب المعلومات المتداولة، وهو ما بث الذعر في روحه، فراح يحضن ابنته بلا وعي.
صراع أليم ذلك الذي عاشه إبراهيم في ليال لم تهدأ فيها آهاته، إذ كيف له أن يترك مدينته، يترك حياته وذكرياته، وكيف له أن يحمي ابنته من مصير مؤلم قادم يستشعره.
حبه لابنته كان القرار الحاسم ليبحر في أرجاء المجهول، هاربًا من موت محتمل، همه الوحيد حماية الحياة في عيني مهاباد، ليرسم لعائلته خريطة الرحيل التائهة.
في ليلة مظلمة كحزن قلبه، كئيبة كجغرافيا تاهت عن أطوارها، يمضي إبراهيم إلى إحدى القرى الحدودية، مع عشرة أشخاص من قامشلو، يحمل ابنته وحقائبه ويمسك بيده الأخرى يد زوجته، يتقدمهم رجل مقنع، غريب الأطوار، ذو هيئة مخيفة، حتى أن اسمه مستعار، كما بدا له.
يركضون حينًا، وينتظرون الأوامر بالتحرك جاثين مضطربين حينًا آخر، وسط صمت كئيب إلا من وقع أقدام تنذر بالخوف وذلك تلبية لأوامر ذلك الرجل، حتى الليل ينصت إلى كآبة صمتهم، والرجل ذو الاسم المستعار لا يتوقف عن التكلم بالهاتف بحديث غير مفهوم مع أشخاص من الطرف الآخر للحدود ينتظرون لحظة التسلل.
لحظات كئيبة تسيطر عليه، يراوده شعور بالندم ولكن فات الأوان، وعليهم اجتياز الحدود السورية التركية بأية وسيلة كانت، مع أن الاحتمالات كلها سيئة، وهو يدرك كل ذلك ولكنه اختار رحلة المخاطر إلى الحياة.
بين الخوف والندم الكبيرين وذكريات قامشلو، تم تجاوز الحدود مع بزوغ خيوط الفجر ليرتاح الجميع في بيت مخصص للضيوف الغرباء "ضيوف التهريب" في إحدى القرى الحدودية في تركيا بعد ليلة شاقة ومخيفة، رسمت تفاصيل معاناتها في ذاكرته المتعبة.
قبل إبراهيم ابنته وكأنه يستمد منها قوته وتصميمه على الاستمرار، ارتسمت على وجهه المتعب بالألم ابتسامة باتت غريبة عن طقوسه اليومية، وتنفس عميقا محاولا إزالة ما يمكن من صرخات مكتومة في روحه، فكانت تلك أول خطوة في رحلة الحياة.
اتصال مصيري من الشخص الوسيط بينه وبين المهرب يؤكد خلاله لإبراهيم هذه المرة موعد السفر النهائي، بعد أن تم تحديده وإلغاؤه مرات عديدة، وبعد انتظار مضن في اسطنبول دام أكثر من شهرين ونصف الشهر، وبعد اتصالات يومية مع ذلك الشخص الذي لا يعرف عنه سوى اسمه المستعار، مع مسلسل القلق الذي لازم روحه.
- غدا سنركب البحر ...!
قالها إبراهيم وهو يقبل ابنته ليهدأ ضجيج أنفاسه ويمسح بيده على شعرها الذهبي الذي يشرق نوره على روحه العاتمة، ووعدها بأيام جميلة وحياة آمنة.
تردد إبراهيم كثيرًا قبل أن يركب البلم مع عائلته وأربعين مهاجرًا، إلا إنه أيقن بأن لا وسيلة أخرى سوى هذا البلم البسيط الذي شكك بقدرته في الصمود تحت الحمل الثقيل من الأشخاص والآهات والحقائب. بصعوبة استطاعوا أن يجدوا مكانًا لأقدامهم على البلم الذي يفترض أن يوصلهم إلى بر أحلامهم.
حضن ابنته كالعادة، وزوجته تمسك به بقوة، ويدها الأخرى تلمس ابنتها بلطف، لم يستطع إبراهيم التخلص من مخاوفه، ساوره شعور غريب لم يفسره، ذكريات قامشلو سيطرت على تفكيره المنهك، تراءت أمام عينيه صور الموت في مدينة الأنقاض، والأشلاء المتناثرة على الأرصفة، رائحة الموت لازمت أنفاسه، فلا يزال صوت التفجير وصراخ الأمهات والأطفال الجرحى يقلق روحه الجريحة.
فوضى عارمة تملأ روحه وتفكيره، شعر بالحنين إلى والده المرحوم، تمنى لو يستطيع زيارة قبره ثانية كما كان يفعل ذلك كل يوم جمعة مع مهاباد التي أسماها تلبية لوصية والده الذي لم ير حفيدته، لكن الصراخ المتكرر أيقظه من غفلة ذكرياته، وإذا بماء البحر قد بلل أقدامهم وتسرب إلى البلم، ليتسرب معه الخوف إلى قلوبهم، حضن ابنته وزوجته بقوة، صرخ مع الآخرين، صدى صراخهم عانق السماء وملأ فضاء البحر ولا مستجيب. يتأرجح بهم البلم بغضب، وبحر إيجه لم يرحم أنفاسهم الجريحة، لا حول لهم ولا قوة إلا صراخ يتعالى صداه بدون انقطاع، بعد أن ألقى البلم بحمولته في وسط بحر الموت.
لا تزال مهاباد في حضن والدها، الذي يحاول جاهدا السباحة بابنته دون أن يعرف وجهته، فجأة تاهت عنه زوجته، صرخ باسمها كثيرا، يدور حول نفسه يتجه شمالا وجنوبا فاقدا بوصلة إرادته، وبعد صراع مرير مع موج البحر وأنين روحه لم يعد يسمع سوى صدى صراخه المخنوق.
الجثث الطافية التي كانت قبل قليل مفعمة بالأحلام صعقت إبراهيم، وأنهكت قواه بعد أن استعاد وعيه، تداخلت في عينيه صور جثث ضحايا التفجير المتفحمة في قامشلو بصور الأجساد الطافية على سطح ايجه، وصار يرى البحر بركانا ناريا يلتهم كل تلك الأجساد.
بدأ إبراهيم بحثه المجنون، يتفحص الجثث بنظرات خائفة وقلب ينزف ألما، لم ينقطع صوته وهو ينادي باسم مهاباد التي لا يعلم كيف تاهت عن حضنه؟
مهاباد!!!
مهاباد!
وااا مهاباد !!
لم يسمع سوى صراخ من نجا معه في بحثهم عن ذويهم التائهين في دهاليز الموت، لكن بدون جدوى؟
لم يبق لهم في بلم الموت سوى سطور مبللة من الألم الأبدي، وحسرات جريحة أرادت أن تحيا بسلام، التهم البحر أنفاسهم وآلامهم وحتى أحلامهم.
بحر إيجه الظالم كالحرب أصبح مقبرة للأبرياء وجسرا نحو الحياة، بحقائب يتيمة استقرت في مملكة القاع الذي تلون بحبر مذكرات فتية وصدى آهات كاتمة.
بعد يومين من البحث المكثف تم العثور على جثتي ابنته وزوجته، رمتهما الأمواج على الشاطئ مع بعض الجثث الأخرى التي بدت وكأنها قد نامت للتو.
تمزقت خريطة الرحيل التي وضعها إبراهيم ألما، لتنتهي رحلة الحياة على ضفاف الموت.
عاد إبراهيم الى مدينته الجريحة قامشلو، الى أحضان ذكرياته، إلى قبور أحبائه ليعيش أيامه الباقية من حياةٍ هربت من سيرتها الذاتية، من الموت الى الموت، وللموت بقية.
*زهرة أحمد: قاصة وحقوقية كردية سورية. لها أكثر من مجموعة قصصية، منها "قصة وطن" -2017