تعد إنغريد رولّيما (Ingrid Rollema) من أبرز الفنانات الهولنديات المعاصرات، إذ تتناثر أعمالها، من منحوتات ورسوم، في مدن عدة: في الساحات العامة والمتاحف ومباني البلديات. يجمع فنها بين روح الأصالة الكلاسيكية ورؤى التيارات الحداثية. ولعل أهم ما يميّزها هو الالتزام بالقضايا العادلة، ولا سيما فلسطين.
نتعرّف في هذا الحوار على عالم رولّيما الفني ومواقفها من قضايا العصر.
*متى وكيف بدأ اهتمامك بالفن؟
كانت اللحظة الأولى في الثالثة من العمر، حين سمحت لي أمي بالرسم على جدران غرفة المعيشة والبهو.
*ما هو فهمك لـ"الفن الملتزم"؟ وما الحد الفاصل بين الفن والأيديولوجيا في هذا السياق؟
الفن الملتزم هو الذي يتفاعل مع قضايا العصر الملحّة. وما إن يتم تحويله إلى أداة لنقل الرسائل، فإنه يصبح أقل إثارة بالنسبة إلي. أعتقد أن الفن ارتبط دائماً بالمشاعر/ الظروف الأولية. إنه يتعلق بالحب والكراهية، بالحياة والموت.
*لاحظت أنك تستخدمين مواد وأساليب مختلفة في منحوتاتك ولوحاتك. كيف تقررين بشأن هذا؟ وما مصدر إلهامك؟
أحاول استخدام المواد الضرورية كافة، لكن طريقة تفكيري مرتبطة جداً بالصلصال، فهو الأرضية التي تغذينا. أنا امرأة من الدلتا (هولندا)، وأعيش مع هذه المادة وأفهمها جيداً. الصلصال في يد الفنان يغذي العقل والروح. عادة أبدأ العمل حين أعيش صراعاً مع ضميري أو عندما يتملكني رد فعل جسدي قوي.
*من هم الفنانون الذين تركوا تأثيراً كبيراً عليك؟
أذكر، على سبيل المثال، وليم كنتريدج (W. Kentridge)، وطوني أوسلر (T. Ausler)، وأنطوني تابيس (A. Tapies)، وفرانز هالس (F. Hals)، وليوناردو دافنشي. أقدر هؤلاء لأنهم يسمحون لنا أن نبدو مختلفين، فهم يستخدمون موادهم بطريقة سحرية تعكس الصورة المرجوة.
*تبدو منحوتة "كلب السيد تيشما" آسرة ومثيرة للفضول، فما قصتها؟
في أثناء انهيار بلده يوغسلافيا، كان الكاتب أليكساندر تيشما منهمكاً بالكتابة، وفجأة بدأ الأولاد يقرعون بابه: سيد تيشما، سيد تيشما، فلتأت وتساعدنا. لقد كان كلبه عالقاً على قطعة جليد عائمة في وسط النهر. حاول الجميع مناداة الكلب، فلم يستجب، وراح يغرق رويداً رويداً في النهر. تجرأ أحد الأولاد وسار على صفحة الماء المتجمد ثم أمسكه من فرو الرقبة، فنجا. وهذا ينطبق حالياً على أوروبا، فهي عالقة على قطعة جليد عائمة لا تعرف ما عليها فعله. عندما قرأت هذه القصة قررت تحويلها إلى عمل ثلاثي الأبعاد.
*تأثرت شخصياً بمنحوتة "هل تمتلك الضحايا صوتاً؟"، هل لها علاقة بالفن الأفريقي؟
تروي هذه المنحوتة قصة الفتيات اللاتي اختطفتهن عصابة باكو حرام. لقد تساءلنا حول المصير الذي ينتظرهن فيما لو حُررن وعدن إلى بيوتهن. هل يمكنك، لو تعرضت للتعذيب، البدء مجدداً مع حياة سعيدة؟ أم أن حياتك قد انهارت وإلى الأبد؟ ينتمي هذا العمل إلى مشروع فني يدعى "مسرح القرارات الخاطئة". وهو باختصار مزيج من الفن التشكيلي والمسرح، يعبر عن نفسه من خلال فيديو كليبات قصيرة هي بمثابة استجابة للقضايا المصيرية والأكثر حساسية في عالمنا الراهن. نقتبس عند عرض هذه الكليبات أقوالاً من أعمال شكسبير تتناسب والمضمون، وبهذا نضع الأسئلة الأخلاقية المعاصرة في سياق عالمي صادم.
*بالانتقال إلى فلسطين، متى بدأ اهتمامك بالقضية؟ وكيف تطورت الأمور؟
لقد دعينا مرة من قبل فتحي عرفات (رئيس إدارة الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة) للعمل مع أطفال خان يونس الذين يعانون من صدمات الحرب. عندما زرت غزة والضفة الغربية وجدت نفسي في مواجهة حالة اللاعدالة المطلقة. رأيت قوة قهرية عظمى وغياباً تاماً للأخلاق. أجل، لقد علقت في الشرك وتورطت، ولا أعتقد أن بمقدوري التوقف، وإلا فإنني سأواجه صراعاً داخلياً عنيفاً.
*بموجب معلوماتي، يعد مشروع "الرصاص المصبوب" الأكثر ارتباطاً بفلسطين، فما قصته؟
أردت أن ألفت الانتباه إلى المأساة. الهدف الأساسي للمشروع هو مواجهة العنف، وأسلحته هي المسرح والفنون والحس العام. ارتأينا ربط التجليات المعاصرة للعنف بالمدن التي تعرّضت للقصف في الماضي ووجدت طرقها الخاصة لتخليد هذه الحوادث. ثمة خشية متنامية من "حرب عالمية ثالثة" في الشرق الأوسط.
كما تعلم، لقد أخذ المشروع اسمه من الحرب الإسرائيلية على غزة سنة 2008 "الرصاص المصبوب"، وذهب ضحيتها 1430 شهيداً. يتألف المشروع من شقين: الأول مُركّب فني يضم 1430 دمية (بعدد الضحايا) شبحية الهيئة، معلقة، لها لون "أرض الميعاد". والثاني يدعى "التذكار البدوي - الرصاص المصبوب"، ويتخذ شكل مقبرة تضم 1430 كتاباً فريداً تعوم على الأرضية على هيئة ترتيب قتالي. يحمل غلاف كل نسخة من هذا الكتاب اسم أحد ضحايا عملية الرصاص المصبوب، فيما يضم المحتوى مجموعة من المقالات والمساهمات التي كتبها مثقفون وفنانون هولنديون وغربيون.
*تختزن لوحة "بيروت 3" بعداً درامياً عميقاً. هل عشت الموقف؟
عاش صديق لي يدعى رشيد مهراوي في رام الله، لكنه قرّر، مع ازدياد صعوبات الحياة، الانتقال إلى بيروت. في الليلة الأولى لوصوله تعرضت المدينة لقصف إسرائيلي عنيف، وهذا ما رآه. إذن مع كل ما بذله من جهد لتغيير الأماكن، لم يتقدم قيد أنملة، فالحرب طاردته إلى هناك. حاولت ان أعبّر عما شاهده رشيد في بيروت من خلال هذه اللوحة.
*لقد انخرطتِ في مشاريع مختلفة متعلقة بفلسطين، ومؤخراً، سورية. هل يمكنك إيجاز الموضوع؟
لقد بدأ الأمر عندما عملنا مع فناني خان يونس وأطفالها، في الفترة نفسها لتوقيع اتفاقية أوسلو. باشرنا فيما بعد مشروع مؤسسة أمل (المكتب الهولندي للتعزيز الشخصي)، لكننا واجهنا، مع اندلاع الحرب ووفاة فتحي عرفات، صعوبات كثيرة، فاضطررنا إلى العودة أربع مرات. وهكذا واظبنا على التواصل مع غزة بحكم علاقاتنا الطيبة مع بعض الشخصيات هناك. حينها بدأت أرسم ما رأيت، ثم ولدت فكرة مشروع "الرصاص المصبوب" الذي حدثتك عنه. ومؤخراً باشرنا مشروعاً جديداً يُدعى "بيت النحل"، هدفه تشجيع الأطفال السوريين المقيمين في مخيمات اللجوء في دول الجوار على التعبير عن أنفسهم من خلال الفنون، إذ نأمل أن تسمح لهم نتائج أعمالهم بإعادة تأسيس الاتصال مع عائلاتهم وأصدقائهم البعيدين. لقد وظفنا خبراتنا وتجاربنا التي اكتسبناها في أثناء العمل في غزة في هذا المشروع الجديد.
عن العربي الجديد