بعد ثلاثين سنة من المنفى القسري، اختار امحمد التوزاني
العودة إلى أرض الوطن يوم 17 يونيو 1994، اتخذ هذا القرار انطلاقا من تقدير عام للوضع
السياسي وما يمكن أن تكون البلاد قد عرفته من تغيير، على ضوء الأحداث وما عاشه العالم
من تحولات في بداية التسعينيات، حيث ساد اعتقاد بأن نهاية صراع المعسكرين، قد فسح المجال
للحوار وتناظر الآراء في إطار ديمقراطي سلمي، ينهي مع مرحلة القمع الشرس والمتابعات
الانتقامية والمحاكمات الصورية. هكذا عاد إلى أرض الوطن وهو مفعم بأمل أن يعيش مغربا
آخر، مغرب مفتوح على آفاق جديدة يتحقق فيها التغيير وترسخ علاقات مبنية على الحرية
وحق الاختيار، إذ كان مقتنعا أن هناك إمكانية للخروج بالبلاد من واقع التسلط والاستبداد
المطلق، الذي عانت منه مختلف الفئات الاجتماعية وخلف ضحايا بالمئات، وأن ظروفا مختلفة
أصبحت مساعدة على تحقيق نوع من الاستقرار السياسي قوامه مؤسسات دستورية ذات فعالية
ومصداقية.
لكن بعد كل السنين التي قضاها في البلد، وتخلصه
التدريجي من معاناة المنفى وعدم الاستقرار، وانطلاقا من انخراطه النضالي المواكب لمجريات
الأحداث، وتوالي الوقائع والارتدادات، عاد لمراودة السؤال حول الوجهة التي تسير فيها
البلاد، هل فعلا هناك شئ تغير؟ حاول أن يقنع نفسه أولا ومحيطه ثانيا، بأن أمورا كثيرة
تغيرت وتحققت العديد من المكتسبات على مستوى حقوق الإنسان واتسع نسبيا هامش الحريات،
غير أنه ازداد يقينا بأن الاشياء ظلت على حالها/ مع اختلاف أساليب القمع ووسائل الإقصاء
والتهميش، بحيث تضاعفت وثيرة التشكيك في دور الأحزاب والنقابات، وتم التمادي في شل
قدرات المثقفين والمبدعين في التعبير عن تطلعات المجتمع ومساعدة المواطن على وعي شروط
عيشه وكيفية التعبير عن معاناته.
ولعل هذا المآل المتردي لمجتمع يملك الكثير من مقومات
التطور والتنمية هو ما انتبه امحمد التوزاني إلى خطورته بجانب العديد من المثقفين والسياسيين،
وتحملوا مسؤولية التعبير عن آرائهم ومواقفهم بكثير من الجرأة والواقعية، في دعوة إلى
تصحيح المسار ووضع قواعد تتيح شروط المشاركة الشعبية في تحديد الاختيارات الكبرى، والمساهمة
الفعالة في التنمية والاستقرار. هكذا تجدد وعيه بواقع عرف تحولات وظل ثابتا في مواقع
أساسية في البنية العامة للدولة والمجتمع، ومعه استعاد يقينه بأن النضال الديمقراطي
الطويل النفس هو وحده الكفيل بتحرير الإنسان
في كتابه «ثورة لم تكتمل» يعود أمحمد التوزاني إلى
تفاصيل حياته النضالية ليبسط من خلالها ملامح فترة من مرحلة حارقة عاشها المناضلون
المغاربة، خلفت ضحايا وكلف الكثير من التضحيات، غايته الوقوف على العديد من التفاصيل
التي وشمت ممارسة نضالية تميزت باختيار أقصى أشكال المواجهة والرد العنيف على كل الممارسات
القمعية الشرسة، التي تعرضت لها القوى الوطنية الديمقراطية في محاولة لاستئصالها والحد
من فعاليتها. الكتاب فيه استقراء لما جرى وكيف جرى وهو الجانب المهم، الذي يدعونا التوزاني
للوقوف عنده والتأمل في كل تفاصيل وقائعه، بهدف التفكير العميق من خلال تجربته الخاصة،
في مسار حركة ثورية ذات أهداف ملتبسة ضمن رؤية شاملة في سياق زخم نضالي تحرري عرفته
العديد من المجتمعات، بعد الانسحاب الممنهج للقوى الاستعمارية من التسيير المباشر لدول
كانت تحث سيطرتها وتدبر بالقوة شؤونها الاقتصادية والسياسية. فعرض التوزاني لمذكراته
أو ذكرياته يستبطن نقدا ممزوجا بمرارة الإخفاق والتشظي، فهو يحكي ما وقع ليظهر غياب
الرؤية التنظيمية المحكمة والتقدير الغير مضبوط والغير واقعي، لما كان يعيشه المجتمع
المغربي وواقعه السياسي، وكذا مستوى الاحتقان التي كانت تتخبط فيه النخبة السياسية
من أجل تغيير ميزان القوى، وفرض رؤيتها لنوع السلطة وتعدد مصادرها. ففي تقديره أن الحركة
التي كان فاعلا في صفوفها، لم تتمكن من بلورة تشخيص حقيقي وملموس لواقع موسوم بالصراع
الحاد، والتجاذب القوي لأقطاب سياسية كانت تسعى لفرض منهجيتها وتحسين مواقعها الاجتماعية
والسياسية، بل غلب عليها الانفعال ومسايرة تيار عارم في العالم العربي والعالمي المسنود
بقوى صاعدة داعية لتغيير نمط الإنتاج الرأسمالي وتحرير القوى العاملة من هيمنة رأس
المال. ويتضح من بين ما حاولت المذكرات إبرازه، مستوى التضحيات الجسيمة والمعاناة الكبيرة،
التي تحملها المناضلون بصبر وثبات وسخاء في البذل والعطاء، مع الاستعداد اللا مشروط
لتحمل كل الأعباء وقسوة المعيش والحرمان من دفء العائلة، صارت الثورة هويتهم وآمالهم
وقبلة وجهتم. ومع الكل القسوة والمعاناة يؤكد التوزاني على شرعية فعلهم النضالي وحقهم
الثابت في الدفاع عن اختياراتهم، والوقوف في مواجهة شراسة القمع وكل محاولات الاجتثاث
وتثبيت نظام سياسي أقر الانفراد بالسلطة وتصفية كل خصومه وقهر شعب بذل الغالي والنفيس
من أجل استرجاع حقه في السيادة على أرضه وتسخير إمكانيات بلده لصالح تطوره وتنمية قدراته
في شروط تصون كرامته وتحمي حرية اختياراته وتقوي حضوره الإقليمي والدولي.
كتاب «ثورة لم تكتمل» نقد لتجربة من موقع الافتخار
بمنجزاتها والحسرة على أسباب الإخفاق في تحقيق أهدافها وما خلفته من تداعيات، هو محاولة
لبسط الأمور من زاوية ما اعتبره صاحبه عوامل أو مؤشرات دالة على غياب النضج الكافي
في قراءة لحظة العنف الثوري، كما كان يقدرها مناضلون أوفياء صادقون اختاروا المواجهة
بدل اعتماد سياقات أخرى سعت إلى تحقيق التوافق في البحث عن صيغة لتقريب وجهات النظر
المتنافرة. فتحية تقدير وإكبار لأبطال بلا مجد.
الكاتب : أحمد حبشي
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي