يعد محمد أديب السلاوي، شفاه الله، من بين الكتّاب
المغاربة القلائل الذين يتميزون بالموسوعية والشمولية والتنويع، إذ تتوزع مؤلفاته
بين السياسة والمجتمع والنقد الأدبي والمتابعة الفنية. وقد تأتّى له ذلك
انطلاقاً
من ممارسته الطويلة للعمل الصحافي سواء في المغرب أو المشرق العربي، ما مكّنه من
امتلاك ناصية التحليل والنقد والرؤية الحصيفة المتبصرة الملمة بتفاصيل مجالات
المقاربة، من غير ادّعاء للتخصص أو الأكاديمية. ولعل هذه السمات هي ما يجعل مؤلفاته
تنقاد لقارئها بسهولة، بحكم اعتمادها لغةً صِحافيةً سلسة، ولكن من غير تبسيطية قد
تُخلّ بعمق المعنى وجِدّة المحتوى.
ومن ثم، فهو في مختلف كتبه التي قاربت الأربعين كتابا
يحاول أن يعطيَنا بانوراما للواقع المغربي في شتى تجلياته ومظاهره، وذلك بنظرة
موضوعية تشخص مكامن العلل، وتتقصى مسبباتها، وتقترح سبل الخلاص منها.
ومثلما هو الشأن في الميدان الصحي، حيث لا يلغي وجودُ
التخصص الطبَّ العام، كما أن هذا الأخير لا ينهض بديلا عن الأول، فإن المحتفى به
هنا أشبه ما يكون بطبيب عام، ذي إلمام بمجموعة من التخصصات وقادر على أن يدلي
بدلوه فيها من غير ادعاء، بل إنه مسلح بمعرفة دقيقة وبأدوات تحليل ذكية ومتقدمة.
يذكرنا أديب في هذا المقام بحال مجموعة من رموز الفكر والفلسفة العرب والمسلمين
الذين جمعوا من كل فن طرف. ولعل ما يَسّرَ لصاحبنا الاتصاف بميزة الشمولية ثلاثة
أمور على الأقل:
أولا: ممارسته لمهنة الصِّحافة طيلة عقود، حتى غَدَا أحد أعلامها البارزين (كما أشرنا إلى ذلك آنفاً).
وثانيا: مطالعاته الكثيرة، فهو معروف بكونها قارئا نهما
للكتب.
وثالثا: صلته الدائمة بالمجتمع وعلاقاته المتعددة مع الفاعلين فيه.
ففي المجال النقدي والإبداعي والفكري، نجد أن محمد أديب
السلاوي رصد عن قرب حركية المشهد الثقافي المغربي، وأرّخ لها توثيقا ونقدا، في كتب
تراوحت بين المسرح والشعر والتشكيل والقصة. كما وثق لها بكتاباته الصحافية في
العديد المنابر الإعلامية التي اشتغل فيها، أو تولى مسؤوليات بها، أو تعاون معها،
أو أصدرها بنفسه. احتفت دور النشر المغربية وكذا المشرقية بثمرات فكره، فأصدرت له
كتبا متتالية منذ منتصف ستينيات القرن الماضي.
في جل مقارباته النقدية يحرص كاتبنا على الابتعاد عن كل
ادعاء نقدي، بل إنه يصر على وسم اشتغاله بالقراءة الانطباعية حينا والقراءة
الصِّحافية حينا آخر، قراءة لا تدّعي التخصص ولا تتطاول على النقد العلمي، كما
يقول. لكن وراء هذا التواضع المعرفي يكمن جهد نقدي يجمع بين عدة مناهج دون
الانتصار لأحدها على حساب الآخر.
وفي مجال الشأن السياسي والاجتماعي، أصدر كتبا هي في
الواقع عبارة عن أبحاث ودراسات دقيقة في مواضيع مختلفة: الإصلاح، الانتخابات،
السلطة، الأحزاب، الإرهاب، المخدرات، الرشوة، الفقر، الفساد وغيرها.
ويبدو أديب السلاوي في مجمل مؤلفاته مسكونا بهاجس
الإصلاح وبهموم الناس، وبالطموح نحو رؤية وطنه يرتقي الدرجات نحو وضع أفضل في شتى
المناحي الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية... هذا الكاتب المغربي لا يركب
النظريات والأحلام أو "اليوتوبيات"، ولا يعتكف في برج عاجي كما يفعل
الكثير من المثقفين؛ بل إنه يمد جسورا رفيعة نحو الواقع المعيش، فينطق بلسان
"الأغلبية الصامتة"، ويحلل الواقع بعين الناقد والإعلامي والكاتب، كاشفا
عن مكامن الخلل والقصور والفساد؛
واللافت في الانتباه أن السلاوي في كل كتبه وأبحاثه يصدر
عن رؤية موضوعية متزنة ومتوازنة، فهو لا يتحامل على جهة ما، ولا يصدر أحكاما
جاهزة، وإنما يقوم بدور المثقف الملتزم بقضايا أمته، المنصهر فيها والفاعل فيها،
أي المثقف العضوي بتعبير "غرامشي". إنه صاحب قضية ودور ورسالة ومسؤولية.
ولذلك، فهو لا يتردد في تسمية الأشياء بمسمياتها، وفي فضح الفساد المستشري في كيان
المجتمع وفي الكثير من أجهزة الدولة، فساد في التسيير وفي الإدارة وفي طرق تدبير
المال العمومي؛ مقدّماً أمثلة حية على ذلك من نماذج سيئة جرى رصدها خلال السنين
الماضية، تمثلت في وجود إدارات فاسدة على رأس مؤسسات عمومية وشبه عمومية وخاصة.
ويلاحظ كاتبنا أنه على الرغم من توفر المغرب على آليات عديدة لمراقبة المال العام
قائمة على صرح تشريعي متميز، فإن تلك الآليات بقيت معطلة لفترة طويلة، إلى أن
استطاع الفساد اختراقها وتجاوزها في الزمان والمكان، وأصبح منظومة تتداخل مع
الإدارة والسلطة، وتتجاوز القانون والسلطة والأخلاق. ولذا كما يقول أديب فإن
التغيير مهما كانت أسئلته ملحة أو طارئة أو محرجة، لا يمكن أن يكون مطلبا يُطرح
على الدولة التي لم تحسم بعد روح الفساد الذي يسكن معظم دواليبها، فهو مطلب دائم
تتطلبه الحياة في سيرورتها اللامتوقفة، حتى في المجتمعات التي تسكنها روح الفضيلة
العامة، والتي لا تتردد في معاقبة الذين يمسون بها، أو الذين تسوّل لهم أنفسهم
بذلك.
كما يرى أن انتقال المغرب إلى قلب العصر الجديد، لا
يشترط فقط إصلاح وتغيير ثقافة السلطة وثقافة الحكم وثقافة السياسة، وإنما يشترط
قبل كل شيء أنظمة قادرة على تفعيل هذا الانتقال وإنجازه حضاريا وفكريا واقتصاديا
وسياسيا واجتماعيا، وهي المسألة التي شغلت اهتمام النخب المغربية المتعاقبة على
مشهد القرن الماضي، مشيرا بهذا الصدد إلى كتابات ونضالات علال الفاسي ومحمد حسن
الوزاني والمكي الناصري وعبد الله كنون ومحمد العربي العلوي ومحمد عابد الجابري
والمهدي بنبركة والمهدي المنجرة ومحمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي وطه عبد
الرحمن... ويقول مؤلف الكتاب إن مساهمات هؤلاء وغيرهم اهتمت بشكل ومضمون الانتقال
المطلوب لمغرب تحكمت ثقافته الجامدة في جموده، حيث سادت ممارسات سلطوية استبدادية
على الجسد المغربي لعقود طويلة من الزمن، تارة باسم الدين، ومرات باسم الظرفية
الوطنية والدولية، فكانت هذه الممارسات السبب المباشر لجمود الثقافة ولتخلف الأمة
ولترهل الدولة ولتراجع موقعها بين الأمم والشعوب.
ومن هنا، يعتقد محمد أديب السلاوي أن المغرب، رغم وجوده
القوي بقلب وعقل عالم القرن العشرين الذي طُبع بثورات العلم والاتصال والتواصل،
فرضت عليه ظروفه المحلية والإقليمية والدولية، أن يظل على صلة وثقى بتاريخه
الماضي، لم يقطع مع دولة "المخزن" ولا مع ثقافة "المخزن"، ولم
يقطع أيضا مع تراثه الحضاري والثقافي والديني، ولا مع قيمه الاجتماعية العريقة، بل
جعلت ظروفه السياسية والتاريخية هذا التراث حيا في وجدانه، وجعلته حيا نابضا في
ثقافته وفنونه ومجتمعه، وجعلته يعيد إنتاج هذا التراث في أحزابه ومؤسساته ومجتمعه
المدني، رغما عن الصيحات المتكررة المطالبة بالتجديد والتحديث وبالقطع مع ما يعتري
هذا التراث من تعثرات وشوائب.
ويقف المؤلف كذلك عند بعض مظاهر التسلط الذي مارسته
الدولة المغربية في مراحل ما بعد الاستعمار، ملاحظا أنها عمدت إلى ابتلاع المجتمع
المدني ومحاصرة مجاله العام، وأيضا إلى إخضاع الأحزاب لمشيئتها الخاصة، حتى لا
تطرح القضايا الحقيقية المستجدة والمركزية، ومن ثم شلت حركتها وجعلتها غير قادرة
على زرع القيم الديمقراطية، وليست لها أية إنجازات تنظيمية هيكلية تذكر وغير قادرة
على التعبئة، ولا تتمتع بمصداقية الشارع المغربي، ولا تصنع الرأي العام ولا تتحكم
فيه، بل أبعد من ذلك أصبحت غالبيتها تلتزم "ثقافة" الصمت تجاه الفساد
متعدد الصفات والمواصفات، "تقتات" من فتات السلطة ومن عطاءاتها المجزية.
وبالإضافة إلى انحصار دور الأحزاب، يَلفت الكاتب الانتباه إلى مظاهر الفساد والشطط
في استعمال السلطة ومن مظاهر التفاوت المريع ما بين الفئات والجهات، حيث تدني
مستوى العيش والتعليم والقضاء وتصاعد وتيرة البطالة التي أصبحت تمس خريجي المعاهد
والجامعات والمدارس العليا وكذا هجرة العقول نحو البلدان المتقدمة، علاوة على
انتشار الجريمة وتوسع آفاق الرشوة والبغاء والتشرد.
ويقول محمد أديب السلاوي أيضا: إن ما يحدث يوميا على أرض
الواقع من تجاوزات على يد السلطة وأدواتها في حق الشباب العاطل من حملة الشهادات
الجامعية العليا وكذلك في حق الحركات الاحتجاجية الاجتماعية السلمية، لا يعطي فقط
صورة منافية لقيم الديمقراطية ولدولة الحق والقانون ولأحكام الدستور، ولكنه يؤكد
بالملموس وبالأدلة القاطعة، أن لا الأحزابَ السياسية ولا البرلمانَ ولا جمعياتِ
المجتمع المدني قادرةٌ على حماية الخيار الديمقراطي الذي تنص عليه مقتضيات
الدستور، وهو ما يعني في نهاية المطاف برأيه أن الديمقراطية في المغرب لا تزيد عن
كونها كلاما أسود على ورق أبيض.
ويخلص السلاوي إلى القول إن التغيير في المفاهيم العلمية
والحضارية، وحتى السياسية، لا يمكن أن يكون فوقيا يمس التنظيمات والقوانين فحسب،
بل هو مجموعة عمليات تهدف قبل كل شيء تغيير الأفراد والجماعات والتنظيمات والمناهج
والسياسات، لأن الأمر في اعتقاد الكاتب يعني الانتقال من مرحلة استنفدت إمكاناتها،
وبدأ يطبعها الجمود، إلى مرحلة أخرى أكثر استيعاباً لطبيعة المرحلة، وهو ما جعل
حكومة التناوب (التي ترحم عليها) عاجزةً عن الاقتراب من الشعار الذي حملته على
رأسها (أي التغيير) دون أن تدرك ثقله وخطورته ومتطلباته.
أخيرا، تحية تقدير وعرفان ومحبة للمحتفى به اليوم محمد
أديب السلاوي، على هذا الجهد الفكري الموصول الذي يبذله في سبيل الجهر بالحقيقة
وتنوير الرأي العام والتوثيق لجراحات الوطن... لعل صوتَه، صوتَنا جميعاً، يكسر
جدران الصمت والفساد والإحباط! ومتمنياتي له بالشفاء العاجل إن شاء الله تعالى.