(ما أغرب ما يحدث، قطيع يُجْهـِزُ على قطيع فهل هناك من ناج ٍ؟)منذ أربعين عاماً تماماً، أي مند اختياره الإقامة على مقربة من قمة هذا الجبل الشاهق،
كان يحس وهو يعمل بكل حيوية ونشاط ، دون أن يخبر بذلك أحداً، وكان عمله لتحقيق هدف واحد هو إحياء الإحساس بإنسانية الإنسان لدى هؤلاء الناس بعد عهود وعهود من الهوان ، وقد آلى على نفسه ، أن يجعل الدفاع عن الآخرين، شيئاً بدهياً، من بين أشياء أخرى، يحيا بها ولها، هو ومن معه، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فاستغرقه الأمر إلى حد أن أصبح الدفاع عما يقول به سلوكاً يوميا لديه، لا يثير فيه شيئاً، كما أنه استطاع أن يخفيه حتى تماهَى معه، فلم يعد مرئياً، او هكذا زعم لنفسه ، إلا أن الآخرين وقد لاحظوا تفَـوَّقه في سلوكه النبيل هذا، انقسموا بين من قدّرهُ لذلك، وأكْبرَهُ في صمت ، وبين ساخر كانت عهود القهر قد أيأسته من انتظار أي تغيير، وكلاهما انصرف عنه، حتى مرت الأيام التي كانت كأيام الناس جميعاً على هذه الأرض، إلا أن الزمن أخيراً صار يسوء شيئاً فشيئاً، حتى أظلم فلم يعد في طاقة الناس تحمل شدته، أو حتى مجرد الاهتداء إلى أية غاية يطلبونها تحت ظلمته.
اشتد ضيق العباد والبلاد بتصاعد الأسعار ، وسوء الخدمات، فكلما وقف أحد أمام باب أو تاجر أو مصلحة إدارية أو طبيب خصوصي أو عام، إلا ووجه بالطرد، أو بالتسويف والتأجيل ، وبكل معاملة غير مقبولة، إلى حد تصوَّر الناس أن ليس هناك من مصلحة تعمل بدون رشوة أو محسوبية، أو ما أشبه ، وكأن لا دولة هناك ولا قوانين عامة تنتظم الحياة، وإنما مخزن ظالم ورعايا أذلاء خانعون.
وحدث أن أحس أن بعينيه شبوباً لم يحس بمثله من قبل، ليس مؤلماً كما عهد أن تستشعر العين إذ أهاج قذاءها أمرٌ، ولكن ما حل به شيء بين اللذة المفرطة وسعادة الفرح من بعد معاناة، فكان يبدو للناس كأن على عينيه غشاوة ليست مما يصيب العين إذا عميت، وإنما مخايل كأنها مزاج قوس قزح فاتن الأطياف والألوان، فكان ينبهر لرؤية عينيهاللتيان صارتا تبثان ضوءاً وهاجاً لكن غير مؤذ فلا ينفر رائيه، وكان هو نفسه بعد حجب مقلتيه يرى ما لا يراه ذو العينين العاديين . فألف ما أنعم به عليه، كما اعتاد الناس، من أقربائه أو من الأجانب، رؤيته على ما أصبحت عيناه عليه، بل إن منهم من كانت يتضاعف ارتياحهم للقائه، هو الذي كان يكاد لا يمر بالأسواق وغيرها من الأماكن العامة إلا لماماً.
***
كان يرى في عيون الناس انطفاءً بل وظلمات بعضها فوق بعض ، لكنه لم يكن يدري ماذا يحدث للناس مع ذلك فقد كان كلما واجه عيناً منطفئةً، يفيض بعض ضوء ابتسام على شفتي صاحبها ، خافتاً في البدء ، ثمَّ لا يلبث أن يشرق، كلما أطال نظره إليه، وقد كان يستحيي فيبعد عينيه عن صاحب الابتسامة، يحوّل بصره بسرعة، ثم يسرع مبتعداً، حتى يبتلعه منعطف شارع ، أو تخفيه زاوية طريق قريبة، وهو في الحقيقة حار للأمر أكثر مما انبهر به غيره، إلا أن ما حار له حقاً هو ذلك السواد الذي كان يعلو وجه كل مسؤول أو صاحب مصلحة إدارية أو طبيب أو صاحب متجر يسيء إلى الزبناء. مع علامات رعب غير مفهومة.
لم يخف الأمر على الناس، رغم أنه وقد عرف شيئاً من ذلك اختار أن يختفي عن الأنظار مؤقتاً، إلا ان شيئاً كبوادر إعصار أو زلزال أو تغيير في الطقس العام بدأ يسود بين الناس. وانتشر خوف وتوقعات غير مطمئنة ، خاصة وأن كل مريب بدأ يتحسس رأسه، فوقع اضطراب في الأسواق ، وزيد في الأسعار كل المواد، وساءت الأحوال بسبب وبغير سبب. فتقد الناس صاحب العين المنيرة. وانتظروا ظهوره ، إلا أنه خشي أن يواجه بسوء ، فازداد اضطراب الناس، بل يمكن القول إن ظهوره فيهم من جديد كموجه وقائد اصبح ضرورياً. فقد زادت الدنيا ظلاماً ولا إمكان لأنارتها إلا بأضواء من عينيه المشرقتين. فكلما تأخرت عودته ازداد هياج كل شيء، والحقيقة أن مروره بينهم كان دائما سبيه مرور نسمة رخية، يكاد لا يتنبه لها إلا من يكون في ضيق، لكن مع ازدياد أعداد من ضاقت بهم الاحوال، كان عبوره بدكاكينهم أو أماكن إقاماتهم ، أو محلات أعمالهم ،أو عيادات مرضاهم ، وحتى الذين في زنازين السجون برداً وسلاماً مفاجئين ، يكاد كل من مسه نفع من ذلك إلا يشعر بأن ما حل به مع عبوره كان بسببه هو ، وليس لأي سبب آخر.
وتأكدتِ المعجزة، فمع الازدحام على باب جزار، في لحظة فوجيء الناس بغلاء ما يعرضه من لحم هو مما تراكم على وضم الدكان من أجسام قطيع منهم، قد قهرهم ذلك منه ، كان ظهوره في آخر مكان بين صفوفهم الواقفة مقهورة مغلوبة، كان حضوره بعينيه المشرقتين وهو يرى إلى شخص الجزار الذي ما أن رآه حتى اضطرب السيف البتار بين يديه، وهو ينظر إليه ، بين ما كان يجيش في نفسه، منبهراً، وقد غمر داخله نورٌ، لكن وجهه اسودَّ، ما جعل الصفوف تتراجع في رهبة ، حتى إذا التفتت لترى صاحب العينين المضيئتين يقف بينهم ، فلم يحتج إلى أن يدعو أحداً إلى الانسحاب عن تاجر قاهر ، فقد انسحب الجميع وملء نفوسهم رضا شامل، وأملٌ كبير في تغيير خطير موشك، وقد رأى صاحب السيف الكبير الذي كان يعمله في ما كان بين يديه من ضأن مذبوح وبقر، وكل ما يشتهون من لحوم طير، وهو يسير إليه . فصاح الناس مخافة أن يجهز على من ظهر فيهم منذ أربعين عاماً لتغيير أي منكر، مهما كان مصدره ، ومهما كان الذي يقف وراءه، فحاولوا أن يهبوا للدفاع عنه، لكنه رفع يديه باسمَ الثغر والعينين، ليروا بعد قليل الرجل الجزار، وهو يضع سيفه ورأسه بين يدي صاحب العينين المشرقتين ، شبه مغلوب أو مستسلمٍ ، طالباً الصفح. عارضاً عليه أن يأخذ ما يريد، هو وأهله، مما بالمحل من لحوم مختلفة بالسعر الذي يريد.
وهكذا عاد الناسُ إلى أخذ ما يحتاجونه من لحوم، وقد اشرق وجه الجزار الذي ما إن رفع عينيه ليرى صاحبه ذي العينين المضيئتين بين الناس ، حتى كان قد أدى ما عليه بسرعة ، وانسحب دون إشعار، لكنَّ تدفق الناس على المحل ظل يزيد ويزيد.
***
ومع سقوط سيف الجزار ، رفعت عن الناس كل الأضرار، مما كانوا يتعرضون له لدى كل إدارة أو صاحب دكان أو مخبزة، أو بيطار، أو طبيب كان بدوره شبيه جزار، إذ أصبحوا جميعاً ضاحكين مستبشرين ...
سمع من معه في البيت ضجة تعبر الشارع ، كانت ضجة القبيلة وهي تمر ، بعد اجتماعها في ساحة الكبرى التي تتوسط المدينة، بأجواق موسيقاها و خيولها ورجالها الذين يحمل كل منهم بارودته، وقد كانوا بين كل فترة وأخرى من سيرهم إلى ضريح "السيد" الذي يذهبون إليه سنوياً لتقديم الهبات حتى تجود سماء العام بالمطر، الذي يضمن عطاء وفيراً، ومحصولا عميماً، كانوا إذا استوفوا مسافة مقدرة أطلقوا بواريدهم التقليدية بينا يرددون أدعيتهم، مع زغاريد النسوة المصاحبات للركب، صائحين.
***
هكذا صحا وهو لا يكاد يتذكر من تفاصيل حلمه الذي لم يكن ليصدقه إلا قليلاً، بل هولا يكاد يستحضر مما رآه بوضوح غير صورة جزار، يسودُّ وجهه إذا رفع سيفا وهو يصلته على رقاب زبائنه طوعاً ، دون خشية من أي حسيب أو رقيب. أو يشرق محياه بابتسامة تكاد تضيء كل ما حوله.
لكنه بعد أن أفطر، وانتهى من كأس قهوة الصباح ، أحس أن شيئاً في أعماق نفسه يسخر منه، ومما عاشه في مرحلة سابقة من حياته، لا يزال يراها وهي تبتعد عنه، ولا يستطيع أن يعود ، إلى يوم بعيد فيها، حين كان يعتقد أن من يعيش بينهم يمكن أن يرتفعوا عن طبع القطيع ، فيرفعوا رؤوسهم وقد امتلكوا الإحساس بكونهم بشراً أسوياء كما كان يحب، فآلمه بشدة أنهم لم يتغيروا في شيء ، وزاد من ألمه أنهم باقون علة انتظارهم رحمة الذابح الذي مازال يلوّح بين يديه، وعلى مرأى من أغنامه المخدوعين، بأكثر من سيف، وأكثر من سكين. وازداد ألمه لشبوب مقلتيه من ألم، لم يكد يضع سبابته ووسطى أصابعه معاً على عينه اليمنى حتى سالتا بماء لزج سرعان ما تجمَّدَ ليملأ عينيه كلتيهما، ولتمتنع عليه رؤية ما حوله ، وكانت أمه من حيث تراه ولا يراها، تريد أن تناديه لكنها تذكرت أنها فقدت اللعة منذ غادرت دنياه إلى برزخ في انتظار قيامة أصبحت حلم الجميع ، وحتى حينما أرادت أن تتألم لندائه عليها، أو تهب إلى احتضانه:
ـ واأماه....
لم تسمعه حتى، لتضيع كل استغاثاته في ظلمة عالمٍ مسعف فيه يستجيب لحيٍّ، فكيف بميت انتهى أمرُه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
22.10.2018
كان يحس وهو يعمل بكل حيوية ونشاط ، دون أن يخبر بذلك أحداً، وكان عمله لتحقيق هدف واحد هو إحياء الإحساس بإنسانية الإنسان لدى هؤلاء الناس بعد عهود وعهود من الهوان ، وقد آلى على نفسه ، أن يجعل الدفاع عن الآخرين، شيئاً بدهياً، من بين أشياء أخرى، يحيا بها ولها، هو ومن معه، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فاستغرقه الأمر إلى حد أن أصبح الدفاع عما يقول به سلوكاً يوميا لديه، لا يثير فيه شيئاً، كما أنه استطاع أن يخفيه حتى تماهَى معه، فلم يعد مرئياً، او هكذا زعم لنفسه ، إلا أن الآخرين وقد لاحظوا تفَـوَّقه في سلوكه النبيل هذا، انقسموا بين من قدّرهُ لذلك، وأكْبرَهُ في صمت ، وبين ساخر كانت عهود القهر قد أيأسته من انتظار أي تغيير، وكلاهما انصرف عنه، حتى مرت الأيام التي كانت كأيام الناس جميعاً على هذه الأرض، إلا أن الزمن أخيراً صار يسوء شيئاً فشيئاً، حتى أظلم فلم يعد في طاقة الناس تحمل شدته، أو حتى مجرد الاهتداء إلى أية غاية يطلبونها تحت ظلمته.
اشتد ضيق العباد والبلاد بتصاعد الأسعار ، وسوء الخدمات، فكلما وقف أحد أمام باب أو تاجر أو مصلحة إدارية أو طبيب خصوصي أو عام، إلا ووجه بالطرد، أو بالتسويف والتأجيل ، وبكل معاملة غير مقبولة، إلى حد تصوَّر الناس أن ليس هناك من مصلحة تعمل بدون رشوة أو محسوبية، أو ما أشبه ، وكأن لا دولة هناك ولا قوانين عامة تنتظم الحياة، وإنما مخزن ظالم ورعايا أذلاء خانعون.
وحدث أن أحس أن بعينيه شبوباً لم يحس بمثله من قبل، ليس مؤلماً كما عهد أن تستشعر العين إذ أهاج قذاءها أمرٌ، ولكن ما حل به شيء بين اللذة المفرطة وسعادة الفرح من بعد معاناة، فكان يبدو للناس كأن على عينيه غشاوة ليست مما يصيب العين إذا عميت، وإنما مخايل كأنها مزاج قوس قزح فاتن الأطياف والألوان، فكان ينبهر لرؤية عينيهاللتيان صارتا تبثان ضوءاً وهاجاً لكن غير مؤذ فلا ينفر رائيه، وكان هو نفسه بعد حجب مقلتيه يرى ما لا يراه ذو العينين العاديين . فألف ما أنعم به عليه، كما اعتاد الناس، من أقربائه أو من الأجانب، رؤيته على ما أصبحت عيناه عليه، بل إن منهم من كانت يتضاعف ارتياحهم للقائه، هو الذي كان يكاد لا يمر بالأسواق وغيرها من الأماكن العامة إلا لماماً.
***
كان يرى في عيون الناس انطفاءً بل وظلمات بعضها فوق بعض ، لكنه لم يكن يدري ماذا يحدث للناس مع ذلك فقد كان كلما واجه عيناً منطفئةً، يفيض بعض ضوء ابتسام على شفتي صاحبها ، خافتاً في البدء ، ثمَّ لا يلبث أن يشرق، كلما أطال نظره إليه، وقد كان يستحيي فيبعد عينيه عن صاحب الابتسامة، يحوّل بصره بسرعة، ثم يسرع مبتعداً، حتى يبتلعه منعطف شارع ، أو تخفيه زاوية طريق قريبة، وهو في الحقيقة حار للأمر أكثر مما انبهر به غيره، إلا أن ما حار له حقاً هو ذلك السواد الذي كان يعلو وجه كل مسؤول أو صاحب مصلحة إدارية أو طبيب أو صاحب متجر يسيء إلى الزبناء. مع علامات رعب غير مفهومة.
لم يخف الأمر على الناس، رغم أنه وقد عرف شيئاً من ذلك اختار أن يختفي عن الأنظار مؤقتاً، إلا ان شيئاً كبوادر إعصار أو زلزال أو تغيير في الطقس العام بدأ يسود بين الناس. وانتشر خوف وتوقعات غير مطمئنة ، خاصة وأن كل مريب بدأ يتحسس رأسه، فوقع اضطراب في الأسواق ، وزيد في الأسعار كل المواد، وساءت الأحوال بسبب وبغير سبب. فتقد الناس صاحب العين المنيرة. وانتظروا ظهوره ، إلا أنه خشي أن يواجه بسوء ، فازداد اضطراب الناس، بل يمكن القول إن ظهوره فيهم من جديد كموجه وقائد اصبح ضرورياً. فقد زادت الدنيا ظلاماً ولا إمكان لأنارتها إلا بأضواء من عينيه المشرقتين. فكلما تأخرت عودته ازداد هياج كل شيء، والحقيقة أن مروره بينهم كان دائما سبيه مرور نسمة رخية، يكاد لا يتنبه لها إلا من يكون في ضيق، لكن مع ازدياد أعداد من ضاقت بهم الاحوال، كان عبوره بدكاكينهم أو أماكن إقاماتهم ، أو محلات أعمالهم ،أو عيادات مرضاهم ، وحتى الذين في زنازين السجون برداً وسلاماً مفاجئين ، يكاد كل من مسه نفع من ذلك إلا يشعر بأن ما حل به مع عبوره كان بسببه هو ، وليس لأي سبب آخر.
وتأكدتِ المعجزة، فمع الازدحام على باب جزار، في لحظة فوجيء الناس بغلاء ما يعرضه من لحم هو مما تراكم على وضم الدكان من أجسام قطيع منهم، قد قهرهم ذلك منه ، كان ظهوره في آخر مكان بين صفوفهم الواقفة مقهورة مغلوبة، كان حضوره بعينيه المشرقتين وهو يرى إلى شخص الجزار الذي ما أن رآه حتى اضطرب السيف البتار بين يديه، وهو ينظر إليه ، بين ما كان يجيش في نفسه، منبهراً، وقد غمر داخله نورٌ، لكن وجهه اسودَّ، ما جعل الصفوف تتراجع في رهبة ، حتى إذا التفتت لترى صاحب العينين المضيئتين يقف بينهم ، فلم يحتج إلى أن يدعو أحداً إلى الانسحاب عن تاجر قاهر ، فقد انسحب الجميع وملء نفوسهم رضا شامل، وأملٌ كبير في تغيير خطير موشك، وقد رأى صاحب السيف الكبير الذي كان يعمله في ما كان بين يديه من ضأن مذبوح وبقر، وكل ما يشتهون من لحوم طير، وهو يسير إليه . فصاح الناس مخافة أن يجهز على من ظهر فيهم منذ أربعين عاماً لتغيير أي منكر، مهما كان مصدره ، ومهما كان الذي يقف وراءه، فحاولوا أن يهبوا للدفاع عنه، لكنه رفع يديه باسمَ الثغر والعينين، ليروا بعد قليل الرجل الجزار، وهو يضع سيفه ورأسه بين يدي صاحب العينين المشرقتين ، شبه مغلوب أو مستسلمٍ ، طالباً الصفح. عارضاً عليه أن يأخذ ما يريد، هو وأهله، مما بالمحل من لحوم مختلفة بالسعر الذي يريد.
وهكذا عاد الناسُ إلى أخذ ما يحتاجونه من لحوم، وقد اشرق وجه الجزار الذي ما إن رفع عينيه ليرى صاحبه ذي العينين المضيئتين بين الناس ، حتى كان قد أدى ما عليه بسرعة ، وانسحب دون إشعار، لكنَّ تدفق الناس على المحل ظل يزيد ويزيد.
***
ومع سقوط سيف الجزار ، رفعت عن الناس كل الأضرار، مما كانوا يتعرضون له لدى كل إدارة أو صاحب دكان أو مخبزة، أو بيطار، أو طبيب كان بدوره شبيه جزار، إذ أصبحوا جميعاً ضاحكين مستبشرين ...
سمع من معه في البيت ضجة تعبر الشارع ، كانت ضجة القبيلة وهي تمر ، بعد اجتماعها في ساحة الكبرى التي تتوسط المدينة، بأجواق موسيقاها و خيولها ورجالها الذين يحمل كل منهم بارودته، وقد كانوا بين كل فترة وأخرى من سيرهم إلى ضريح "السيد" الذي يذهبون إليه سنوياً لتقديم الهبات حتى تجود سماء العام بالمطر، الذي يضمن عطاء وفيراً، ومحصولا عميماً، كانوا إذا استوفوا مسافة مقدرة أطلقوا بواريدهم التقليدية بينا يرددون أدعيتهم، مع زغاريد النسوة المصاحبات للركب، صائحين.
***
هكذا صحا وهو لا يكاد يتذكر من تفاصيل حلمه الذي لم يكن ليصدقه إلا قليلاً، بل هولا يكاد يستحضر مما رآه بوضوح غير صورة جزار، يسودُّ وجهه إذا رفع سيفا وهو يصلته على رقاب زبائنه طوعاً ، دون خشية من أي حسيب أو رقيب. أو يشرق محياه بابتسامة تكاد تضيء كل ما حوله.
لكنه بعد أن أفطر، وانتهى من كأس قهوة الصباح ، أحس أن شيئاً في أعماق نفسه يسخر منه، ومما عاشه في مرحلة سابقة من حياته، لا يزال يراها وهي تبتعد عنه، ولا يستطيع أن يعود ، إلى يوم بعيد فيها، حين كان يعتقد أن من يعيش بينهم يمكن أن يرتفعوا عن طبع القطيع ، فيرفعوا رؤوسهم وقد امتلكوا الإحساس بكونهم بشراً أسوياء كما كان يحب، فآلمه بشدة أنهم لم يتغيروا في شيء ، وزاد من ألمه أنهم باقون علة انتظارهم رحمة الذابح الذي مازال يلوّح بين يديه، وعلى مرأى من أغنامه المخدوعين، بأكثر من سيف، وأكثر من سكين. وازداد ألمه لشبوب مقلتيه من ألم، لم يكد يضع سبابته ووسطى أصابعه معاً على عينه اليمنى حتى سالتا بماء لزج سرعان ما تجمَّدَ ليملأ عينيه كلتيهما، ولتمتنع عليه رؤية ما حوله ، وكانت أمه من حيث تراه ولا يراها، تريد أن تناديه لكنها تذكرت أنها فقدت اللعة منذ غادرت دنياه إلى برزخ في انتظار قيامة أصبحت حلم الجميع ، وحتى حينما أرادت أن تتألم لندائه عليها، أو تهب إلى احتضانه:
ـ واأماه....
لم تسمعه حتى، لتضيع كل استغاثاته في ظلمة عالمٍ مسعف فيه يستجيب لحيٍّ، فكيف بميت انتهى أمرُه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
22.10.2018