بعد غياب دام سنوات، عاد زكريا تامر إلى دمشق
مرة أخرى آتياً من مغتربه الانجليزي. وكان تامر منذ حوالي السنتين، بدأ يزور دمشق
زيارات قصيرة ومتقطعة، ويبدو هذه المرة انه سيمضي فيها فترة أطول.
يرى البعض في هذه العودة نوعاً من المصالحة مع المدينة التي خاصمها يوماً، رغم أنه كتب فيها وعنها أجمل القصص! ويؤكد هو أنه وهو في البلد البعيد (اكسفورد) لم يغادر مسقط رأسه في الحي الدمشقي القديم، حي البحصة. وليس هذا مجرد كلام، فالمدينة مدينته، وموطن صباه وشبابه.
وهو دمشقي حتى العظم. ولا بد لكل إنسان من أن يكون له مسقط رأس يستطيع الذهاب إليه، حسب رأي ديوستفسكي. حاجة زكريا تامر إلى العودة، ليست نابعة من الحنين إلى مسقط الرأس، وأرض الطفولة، فهو قوي وقاس، وأكبر من أن يستهلكه الحنين، بل هو دافع الفضول والرغبة بالاكتشاف، لأنه يريد ان يتحقق بنفسه، ويخترق الأقنعة، أقنعة المدينة وأقنعة البشر.
هذه اللوثة المعرفية التي تصيب المبدعين عادة، هي التي تجعل زكريا تامر يتجول في كل مكان في دمشق، مستنفراً كامل حواسه، يريد أن يعرف ما الذي جرى، وما الجديد في المدينة، بعد غيابه عنها، وكيف يعيش الناس فيها ويتدبرون أمورهم! زكريا تامر يزور المكاتب التي عمل بها سابقاً، ومقهى الروضة، ويجالس الأدباء الجدد الذين تعرف عليهم للتو.
لا أعرف كل الأماكن التي زارها في دمشق، لكنني أعرف أنه تجول كثيراً في شوارعها وأحيائها القديمة والجديدة، ترافقه في كثير من الأحيان زوجته السيدة ناديا أدهم. جمعتنا سهرة في بيت أحد الأصدقاء في دمشق، حضر زكريا وناديا مع صديق آخر، دون موعد مسبق، وتحدث عن حياته في اكسفورد، وعن ذكرياته في دمشق، وعن الأدب والأدباء، وعن أسعار الخضار وأسعار البيوت.
عايش زكريا الحياة الأدبية السورية منذ الخمسينات وحتى مطلع الثمانينات من القرن الماضي، بفاعلية كبيرة، وكان من أبرز وجوهها، ليس بسبب المواقع التي استلمها، وهي كثيرة، بل لكونه مبدعاً، أثار جدلاً منذ أول قصة نشرها عام 1957 في مجلة النقاد الدمشقية لصاحبها سعيد جزائري.
بصراحته المعهودة تحدث هذه المرة، عن تلك الفترة وعن كتابها، الأحياء منهم والأموات، عن سعيد حورانية، وحنا مينة، وصدقي إسماعيل، وعلي الجندي، وسعد الله ونوس .. وكان قاسياً في بعض الأحيان، فهو لا يهادن ولا يجامل.
ويستطيع بطريقته الحكائية الآثرة، ولهجته الشامية (الزكرتاوية) أن يكون من كبار الظرفاء. وعلى طريقته في كتابة القصة الموجزة والمكثفة، يروي أحداثاً صغيرة ولماحة. في هذا الجو الحميم، جدد زكريا موقفه السلبي والقديم من النقاد العرب والسوريين بشكل خاص.
قال: لا يهمني النقد، سواء أكان سلبياً أو إيجابياً، كلاهما يضر بالكاتب. وهو مثل الأرجنتيني بورخيس، لا يقرأ ما يكتب عنه.
وقال أيضاً: ناديا تقرأ ذلك وتلخصه لي. وتذكرت أني قرأت حواراً معه نشر عام 1972 في مجلة المعرفة السورية، جاء فيه: «معظم الذين يكتبون نقداً، ينطلقون من العواطف التي لا يقف وراءها رصيد فكري صلب وواضح، فيأتي نتاجهم تعابير سطحية عن انفعالات مائعة.
وحتى المحاولات التي توهم القراء بأنها تملك الخلفية الفكرية المنشودة، هي محاولات سجينة لأطر جامدة، وكليشات جاهزة، ومخططات ذهنية، وتقع فريسة لآلية تتنافى وبديهيات الخلق الفني، آلية تشنق الفن باسم الفكر المتطور المتقدم».
ويقول تامر، لقد اقتنعت بالسير في عالم يخلو من النقاد، وخاصة بعد أن عرفت نقاداً هم الفصل المبتذل في مسرحية هزلية. ويرى أن النقد فاعلية أدبية تابعة وقاصرة، رغم صداقته المعروفة لكبار النقاد العرب والسوريين، مثل: محيى الدين صبحي، وحسام الخطيب، وجلال فاروق الشريف، وخلدون الشمعة، وكمال أبو ديب، وغيرهم، ومعظم هؤلاء كتبوا عن قصصه! بلغت أعمال زكريا تامر حوالي عشر مجموعات قصصية، وثلاث للأطفال، وكتاب مقالات قصيرة، هو: هجاء القتيل لقاتله.
ربما يعد هذا النتاج قليلاً بالنسبة لعمر زكريا الإبداعي، ولكنه نوعي ومؤثر! وزكريا تامر من المبدعين العرب الذين أنقذوا فن القصة القصيرة من الانقراض، من خلال إصرارهم على كتابة هذا الفن. واعترف زكريا انه لم يحاول كتابة الرواية، ويعتبرها فن الثرثرة بامتياز، وهو أيضاً في هذا الموقف يتقاطع مع بورخيس، وقال، انه يحب القصة، لأنه يستطيع أن يقول فيها كل ما يريد وبشكل طريف.
وقال انه لا يجهد نفسه في كتابة القصة أو الخاطرة الأدبية أو الزاوية الصحفية، يمكنه أن يكتب في أي مكان، في الطريق أو في السوق أو في البيت، ومن العادات التي اعتاد أن يمارسها هناك، أن يركب القطار مسافة ساعة، ويعود، فقط من أجل السفر، وأن نشاطاً ذهنياً يمنحه إياه هذا السفر المجاني. وهو يحب اكسفورد لأنه يتجول فيها بحرية وبعيداً عن أعين الناس، وهناك لا يضطر أن يهتم كثيراً بمظهره وهندامه مثلما يفعل هنا.
وتحدث عن طريقة غير دارجة نهجها في كتابة القصة هناك، وإن كانت ليست نادرة في آداب العالم، استخدمها السورياليون، كما استخدمها بعض الشعراء العرب القدامى، مثل: أبي العبر، وأبي الشمقمق، كلاهما من العصر العباسي. طريقة زكريا في أن يغمض عينيه ويفتح القاموس، ويمرر سبابته على الصفحة ليختار كلمة يقيم عليها قصة. قد يعتبر البعض أن في ذلك مثلبة تحسب عليه، لكنها طريقة في الإبداع، وعلينا بالثمرة أولاً، ثم يأتي الناطور لاحقاً.
سئل عن الكتاب الذين أثروا فيه، وأجاب: أنا ابن تجربة حياتية بالدرجة الأولى، اكتشفت القراءة بنفسي منذ سن مبكرة، كنت أقرأ أي كتاب يقع بين يدي حتى لو كان في الزراعة أو في الاقتصاد أو في العلوم العسكرية أو في الأدب. منذ سن الثالثة عشرة جذبني شكل الكتاب، والحرف المطبوع، وقرأت الشعر والسير الشعبية وتأثرت بها.
لا يكفي أن نقول عن قصص زكريا تامر ان عالمها طريف وحسب، بل لا بد من الإشارة إلى عمقها وأصالتها النادرة، وقد اخترق منذ بداياته تقليدية السرد القصصي العربي، وفتح لنفسه أفقاً ميزه عن الجميع، ووسم قصصه بالتفرد، والأصالة والجدة في آن، بالإضافة إلى شاعريتها وكثافتها.
ولكل هذه الأسباب، استحق هذا العصامي، والحكواتي البسيط أن يكون كاتباً عالمياً. وحين نقلت له ما قاله هاني الراهب عنه، قبل أيام من رحيله، أنه يعتبره من أهم مبدعي القصة في العالم.. اغتبط زكريا ونظر إلى السيدة ناديا بسرور، وقال: أنا أعرف رأي هاني بي، وسبق أن قاله لي.
وعن تكريمه رسمياً في سورية، قال: إن أفضل تكريم بالنسبة لي أن يعيش المواطنون حياة كريمة، وهذا ما قاله للمسؤولين السوريين أيضاً. كتب زكريا تامر للأطفال وللكبار، وميز في كتاباته بين اللغة الموجهة لكل منهما، لكنه ظل في معظم ما كتب طفلاً يخاطب أطفالاً.
من دنيا الطفولة وما تزخر به من عذوبة، وخيال، وشقاوة، وأحلام، اغترف زكريا تامر، ولكن أي عمق في هذا الطفل الذي رسخ صورة الحاكم الجائر المستبد، كوحش شره ونهم، وصورة البطل في التاريخ كمأساة، والإنسان كرهينة تتطلع إلى الحرية.
في قصصه الشخصيات واقعية، لكنها تمضي في حقول غير واقعية، فالأحياء يكلمون الأموات، والأشجار تتحدث للنهر، والمذبوح يحاكم الجلاد. وكما في خيال الأطفال، كل جماد يمكن أن يتحول إلى حي ناطق. وكما يبرع في التكثيف وخلق الحدث الحكائي، كذلك يبرع في الحوار، حيث يبدو أحياناً عادياً إلى درجة السذاجة، وبريئاً إلى حد البلاهة، لكنه، ومن حيث هو كذلك، في غاية الرشاقة والتأثير، والمفارقة الأهم عنده، تكمن في التمازج بين الطفولة والقسوة، بين ما هو طري وجاف.
وهذه هي شخصية زكريا تامر كما أراها، القاسي واللين. وعن جانب الشراسة فيه، كتب صديقه محمد الماغوط: «بدأ زكريا تامر حياته حداداً شرساً في معمل، وعندما انطلق من حي البحصة في دمشق بلفافته وسعاله المعهودين ليصبح كاتباً، لم يتخل عن مهنته الأصلية، بل بقي حداداً وشرساً ولكن في وطن من الفخار، لم يترك فيه شيئاً قائماً إلا وحطمه، ولم يقف في وجهه شيء سوى القبور والسجون لأنها بحماية جيدة».
أضيفت في 25/06/2005/ خاص القصة السورية / عن الشرق الأوسط 24 يونيو 2005