كان أول الآثار الثقافية الجانبية للاستفتاء على الخروج البريطاني من حظيرة القارة الأوروبية "بريكست" هو دخول كلمة Brexit نفسها في "قاموس أوكسفورد" في 2016، لتصبح بالتالي كلمة إنجليزية معتمدة رسميا. وهي، لمن لا يعلم، كلمة مركبة من British Exit (الخروج البريطاني) فأخذ حرفا Br من الأولى وأضيفا إلى الثانية. وصارت في ذلك العام أبرز الكلمات المضافة إلى القاموس الانجليزي العريق على الإطلاق بفضل المعاني الجبارة التي تحملها في طياتها كونها إشارة إلى أكبر وأهم تفويض شعبي في تاريخ بريطانيا السياسي.
خلال أيام، وتحديدا يوم الجمعة 31 يناير (كانون الثاني) 2020، سنشهد الطلاق البريطاني - الأوروبي الذي يجر معه مضامين تاريخية هائلة تمس بالتغيير سائر أشكال الحياة في المملكة المتحدة من أعمدة البلاد الاقتصادية الكبرى، مرورا بلوائح الهجرة ووفرة الدواء في الصيدليات، وحتى بتناول المواطن كوبا من الشاي في مقهى على الطريق أو بشرائه رطلا من الطماطم.
لن تجد شيئا بريطانيا محصنا ضد عواقب هذا الطلاق. وإذا كان بين المستوردين والمصدرين وأصحاب الأعمال التجارية المتوسطة والصغيرة من يتوجس خيفة من إغلاق الجسور القائمة مع أوروبا، فإن حالة من الجزع العميق تجتاح الساحة الفنية والأدبية. فهي - من الناحية الاقتصادية البحت - الأكثر هشاشة وهامشية بين سائر الساحات الأخرى، على الأقل لأنها (وإن كانت في دولة متقدمة) ليست بين اوليات العيش كالإسكان والغذاء والتعليم والرعاية الصحية والأمن، وغيابها أو تدنيها لا يقود إلى التمرد والانتفاضات والثورات وتغيير النظام. وخذ ايضا أن حسابات الربح والخسارة فيها – حتى في وقت انتعاشها - تتعدى المادي المحسوس المعدود بالجنيه والدولار واليورو، لأن مفرداتها مصممة لمخاطبة القلب والروح والمزاج في المقام الأول.
حقائق وأرقام
تشير الأرقام الواردة في تقرير أعده مجلس الفنون الانجليزي لعناية مركز البحوث الاقتصادية والتجارية إلى أن حجم التداول المالي على الساحة الفنية والأدبية بلغ 21.2 مليار جنيه استرليني (حوالي 26.5 مليار دولار) في عام الاستفتاء وحده (2016). وجاء فيه أن النشاط الثقافي البريطاني وفر 137 ألفا و250 وظيفة جديدة، ودفع أكثر من ستة مليارات جنيه تعويضات وظيفية. وعندما تؤخذ الآثار المباشرة وغير المباشرة في الحسبان يرتفع حجم التداول المالي الثقافي إلى 48 مليار جنيه والتعويضات المالية إلى 13.4 مليار.
وفي 2017 بلغت مساهمة المنظمات والجمعيات العاملة في مجال الثقافة نحو 30 مليار جنيه في عجلة الاقتصاد البريطاني (وفرت صناعات الموسيقى والسينما والتلفزيون 25 مليارا منها). ومن الأرقام الأخرى (المستقاة من مصادر عدة) ما يلي:
* 85 مليار جنيه (حوالي 108 مليارات دولار): متوسط حجم ما تدره صناعات السينما وتجارة اللوحات الفنية والأعمال التلفزيونية على الاقتصاد البريطاني سنويا وفقا لفيدرالية الصناعات الإبداعية (CIF). ويعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر مستورد لهذه الصناعات في العالم.
* 90 ألفا: عدد العاملين في المتحف والغاليريهات والمكتبات العامة في العام 2018.
* 269 ألفا: عدد العاملين في مجالات الموسيقى والفنون المرئية والاستعراضية (1.1% من إجمالي عدد العاملين بمختلف المجالات الأخرى في عموم البلاد).
* 4: عدد المتاحف البريطانية المحسوبة بين العشرة الأكثر استقبالا للزوار في العالم.
* 21.5 مليون: عدد زوار تيت موديرن وناشونال غاليري والمتحف البريطاني وقاعة ألبرت هول وفقا لإحصاءات 2018.
* 15.5 مليون: عدد مرتادي مسارح الويست إند في لندن وحدها خلال العام 2018 حصلت منها الخزانة العامة على 127 مليونا فائض القيمة المضافة فقط.
* 2.01 جنيه: حجم العائد على الاقتصاد القومي عن كل جنيه يدفع راتبا للعاملين في مجالات الفنون المرئية والاستعراضية.
* 856 مليون جنيه: متوسط ما ينفقه السياح الأجانب في مشاويرهم الثقافية.
* 57%: نسبة السياح الذين يقولون إن التاريخ والثقافة هما السبب الرئيسي في قدومهم إلى بريطانيا.
*0.4%: مساهمة قطاع الفنون والآداب في إجمالي الناتج المحلي البريطاني.
* 5%: النسبة التي تزيد بها رواتب العاملين في المجالات الثقافية عن متوسط الرواتب في البلاد.
شك ويقين
بين نصف البريطانيين الذين صوتوا في استفتاء 2016 لصالح الخروج من الحظيرة الأوروبية من يقول إن الفنون والآداب ستزدهر مع ازدهار البلاد وهي تخرج من حضن القارة إلى أحضان العالم أجمع. لكن هذا تفكير لا يخلو من قدر كبير من التمنّي، على الأقل على الأمدين القريب والمتوسط. فالمؤكد الوحيد هنا هو إعتام الرؤية وبالتالي غياب اليقين إزاء نوع المستقبل الذي ينتظر البلاد اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
فليس بوسع أحد أن يقطع بالقول إن بريطانيا ستبدأ بعد 31 من الشهر الحالي مشوارها إلى الازدهار والثراء أو إلى الفقر وربما الفقر المدقع. لكن ثمة حقائق أساسية منطقية ماثلة للعيان ولا يكمن نكرانها أو تجاهلها، وهي أن فترة السنين القليلة المقبلة ستقاس بمدى قدرة البلاد على امتصاص صدمة الاستقلال الكامل عن اوروبا كمؤسسة اقتصادية واجتماعية وثقافية، وعلى هذا الأساس يمكن قياس الازدهار أو الفقر. وإذا كان هناك ما هو مؤكد في حالة الفنون والآداب تحديدا فهو أن الأرقام الوارد ذكرها أعلاه ستتضاءل قليلا أو كثيرا... ودعنا نقل بشيء من الإطمئنان "كثيرا".
سلعة كغيرها
معظم الأصوات الثقافية المهمة التي أدلت بدلوها في استباق مستقبل الفنون والآداب البريطانية بعد بريكست خرجت وهي تهتز بالخوف والتشاؤم. ومن هذه الأصوات عمالقة المسرح ايان مكالين وباتريك ستوارت وديريك جاكوبي وعمالقة الشاشة مايكل كين وبنيديكت كمبرباتش وادريس ايلبا ودانيال كريغ (007) ونجمي الكوميديا ايدي ايزارد وستيف كوغان. ومن عمالقة الغناء التون جون وبلوما فيث، وفي مجال الرواية مؤلف الأعمال البوليسية والجاسوسية جون لو كاريه وجيه كيه رولينغ مؤلفة سلسلة هاري بوتر، وفي الفن التشكيلي داميان هيرست إضافة إلى مصممة الأزياء فيفيان ويستوود... على سبيل المثال السريع وليس الحصر المستحيل.
منبعان للخوف
الخوف العميق في الدهاليز الثقافية إزاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يأتي من منبعين، أحدهما معاملة الفنون والآداب وكأنها سلع في مقام القمح والسيارات وغيرها من الماديات وإخضاعها للأقفاص البيروقراطية على شاكلة لوائح التعرفة والجمارك، وثانيهما نزع حرية الحركة بين بريطانيا ودول القارة من الفنانين والأدباء إضافة إلى الأدوات التي يتعامل بها هؤلاء. فاعتبارا من اول فبراير / شباط 2020 سيخضع جميع البريطانيين لشروط الحصول على تأشيرات الدخول إلى دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين ولن يحصل أحد على استثناء وإن كان فنانا ذا موهبة خارقة والأكثر شهرة في العالم.
الخوف العميق في الدهاليز الثقافية إزاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يأتي من منبعين، أحدهما معاملة الفنون والآداب وكأنها سلع في مقام القمح والسيارات وغيرها من الماديات وإخضاعها للأقفاص البيروقراطية
وهناك التعقيدات المتصلة بمواقيت الحفلات الأوروبية وبالمعدات وترحيلها وايضا بخضوع المداخيل للضرائب وقائمة طويلة من التعقيدات والقيود البيروقراطية... وكل ذلك حدا بشركات الانتاج الموسيقي والسينمائي والتلفزيوني لإعادة النظر في قواعدها البريطانية. وخذ على سبيل المثال انسحاب "باسيفيكا فينشرز" من مشروع ضخم وُلد في 2018 لإقامة ستديوهات سينمائية في شرق لندن. وخذ أن ويز مايبي، وهو بلجيكي الأصل يعتبر أحد أشهر المنتجين الموسيقيين في بريطانيا ومن أكبر المساهمين في شهرة نجوم من وزن سيلين ديون وستينغ ويو بي 40، يشكو من "المهانة التي يجرها بريكست على الفنانين" ومن عدم اليقين الذي يحيط باستديوهاته اللندنية الآن.
انسحبت "باسيفيكا فينشرز" من مشروع ضخم وُلد في 2018 لإقامة ستديوهات سينمائية في شرق لندن... ويشكو المنتج الموسيقي ويز مايبي من "المهانة التي يجرها بريكست على الفنانين"
جفاف منبع التمويل الأوروبي
بالنسبة للمتاحف والمسارح وغيرها من دور الثقافة البريطانية فإن تاريخ 1 فبراير 2020 يعني جفاف أحد أهم منابع التمويل. ويتمثل هذا في "برنامج أوروبا الخلّاقة" الذي حصلت منه تلك الدور على أكثر من 1.5 مليار دولار في الفترة 2014 – 2020. ولا يقف الأمر عند هذا الحد لأن هناك "الإعانات الهيكلية والقروض الميسرة" التي تقدمها بروكسيل لترقية الثقافة في القارة وتحسب بمليارات الجنيهات وسيتوقف جريانها إلى بريطانيا بعد الخروج.
فقر الدم
حتى بافتراض أن ثمة منافع ستجنيها بريطانيا من انعتاقها من قبضة أوروبا – ربما تجلت في استقلال القضاء وحرية صيد الأسماك مثلا – فلا أحد ينكر أن ثمة أعضاء في الجسد - كالفنون والآداب والأنشطة الثقافية عموما – تتهيأ الآن لما يمكن أن يسمى "مرحلة فقر الدم" أو - بعبارة أخرى - "شح المال". ولأن الهزة ترقى إلى مقام الزلزال الاقتصادي في البلاد فلن يكون هذا المريض ضمن الأولويات سواء لدى خزانة الدولة أو جيوب المستثمرين.
وبالطبع فالحديث ليس عن "موت المريض" لأن الثقافة لا تموت وإن أغلق في وجهها طريق وجدت آخر، وإنما عن فترة رقاد المريض على الفراش. هل تطول أم تقصر؟ من يعلم؟
عن أندبندنت عربية