سقوط شيخ الأزهر محمد الطيب في رده على رئيس جامعة القاهرة محمد عثمان الخشت لم يكن سقوط شخص، بقدر ما كان سقوط مرحلة بكاملها توهّم فيها التيار
التقليدي على مدى قرن كامل بأنه يستطيع بناء نهضة حضارية انطلاقا من الماضي وفكر الماضي ومنطقه ومبادئه وثوابته ونصوصه ومتونه وحواشيه. فلعلّ أكبر درس تُعلمه الحضارة المعاصرة هو أنه لا أحد يتقدم بالعودة إلى الوراء، لأن التقدم عملية محكومة بالتجاوز لا بالاجترار، وبالنقد لا بالإتباع والتكرار، وبالاكتشاف لا بالعنعنة والحفظ والاستظهار.
تعكس مداخلة رئيس جامعة القاهرة جُرحا بليغا وغائرا في الذات الإسلامية منذ قرون، بينما يمثل تعقيب شيخ الأزهر العزاء والمخدّر، ولهذا صفّق الحاضرون كثيرا لشيخ الأزهر وامتعضوا من كلام رئيس الجامعة وشنوا عليه حملات التشهير كما هو معتاد، فالوعي الإسلامي ليس بحاجة إلى من يضع أصبعه على الجرح، بل فقط لمن يُهدّئه وينسيه إلى حين.
قال رئيس جامعة القاهرة خلال ندوة نظمت تحت شعار "دور المؤسسات الدولية والدينية والأكاديمية في تجديد الفكر الإسلامي"، بأن المسلمين ما زالوا يشترون الأسلحة بأبهظ الأثمان ليقتلوا بها بعضهم بعضا، باعتماد الطائفية والعقيدة والمذهب الديني، وأنهم يخلطون بين المقدس وما هو بشري، ويحولون أفكار البشر إلى أصنام تعبد، ثم يُرهبون من يخالفهم في الرأي، وقال إن "اللاهوت المركب يعمل على تشتيت الناس" ولهذا فهو لا يطابق الوعي المواطن بل يغتاله ويمحوه، ثم قال بأن لدى المسلمين ضعف كبير في "الاحتكاك بالدوائر المعرفية الأخرى"، والاستفادة من الانفجار العلمي الحادث في العالم، ما جعلهم ينكفئون على أنفسهم ويعيشون عالة على الحضارة المعاصرة، وقال كذلك "إنّ المؤسسات الأكاديمية لن تستطيع الإتيان بخطاب ديني جديد إلا إذا غيرت المنهجيات والأسس الإبستمولوجية للدراسات الدينية"، حيث من البديهي أن نفس المقدمات والقواعد تؤدي حتما إلى نفس النتائج دون تغيير، وقال إن الدين بدأ بسيطا بينما حوله الناس اليوم إلى فخفخة ومظاهر احتفالية وبهرجة وتبذير لا ينتج شيئا لأنه تديّن بدون محتوى إنساني. ثم أكد على أنه "لا بد من دراسات جديدة تتخلص من سيادة العقائد الشرعية وتكوين رؤية جديدة للعالم"، منتقدا بقاء المسلمين منغلقين في دائرة الفكر الأشعري الذي يعود إلى 12 قرنا خلت.
وجاء تعقيب شيخ الأزهر على رئيس جامعة القاهرة منكرا كل الانتقادات الموجهة إلى الفكر الديني التقليدي، ما جعله تعقيبا يصلح أن يكون منطلقا لتحليل عميق لأزمة العقل الإسلامي وأمراضه المزمنة، وإليكم عناصر هذه الأزمة المستحكمة:
1) أن هذا العقل لا يعرف أنه في أزمة، ولا يعترف بتقصيره، ولذلك يرفض الانتقادات الموجهة إليه، ويعتبرها مجرد "مزايدات على الأمة" كما قال شيخ الأزهر لرئيس جامعة القاهرة.
2) أن هذا العقل لا يقبل التحديث والتغيير بل يقول بـ"التجديد" التي يعتبرها "كلمة تراثية" كما قال شيخ الأزهر، بينما يعلم من قام بتدقيق المفهومين بأن الفرق بين التحديث و"التجديد" أن الأول تغيير لمنطق الفكر وقواعده وتثوير في النظرة إلى العالم والإنسان من منطلق العصر الذي نحن فيه، بينما "التجديد" يتم في ظل نفس الثوابت والقواعد الفقهية القديمة، وقد كذب شيخ الأزهر عندما قال إنّ المسلمين لا يقدّسون التراث، وأنهم يجدّدون في الفكر الديني لأن ذلك لو كان صحيحا لكان أمرهم اليوم مختلفا تماما.
3) أنه عقل تحت الوصاية، وصاية الموتى من القدامى إذ لا يستطيع التفكير في استقلالية عمّا قيل وكُتب منذ أزيد من ألف عام، ولهذا رفض شيخ الأزهر مطلب رئيس جامعة الأزهر بترك فكر الأشاعرة وقواعدهم في التفكير بسبب تخلفها، حيث ما زال شيخ الأزهر يعتقد في صحّة هذا الفكر ونحن في القرن الواحد والعشرين، مع العلم أن الكثير من أوضاع التخلف في الفكر والممارسة والعلاقات الاجتماعية والتشريع والإفتاء مصدرها فكر الأشاعرة والمذاهب الفقهية القديمة التي جمّدت المجتمعات الإسلامية وحكمت عليها بالتخلف الأبدي.
4) أنه عقل يقبل التناقض ويعتبره أسلوبا حكيما في التفكير والسلوك، ومن ذلك اعتباره الإسلام دين تسامح وحضارة ودفاع عن النفس، وفي نفس الوقت اعتبار الغزو والاحتلال واسترقاق الشعوب فيما سمي بـ"الفتوحات" من مظاهر "عزة الأمة" و"نهضتها" و"مجدها". من جانب آخر فهو عقل يعتبر الفتنة بين المسلمين سببها السياسة ويعارض في نفس الوقت أي فصل بين الدين والسياسة، وهو بذلك يختار استمرار الفتنة إلى الأبد، فقد اعتبر شيخ الأزهر أن "الفتنة الكبرى من عهد عثمان، هي فتنة سياسية وليست تراثية، والسياسة تختطف الدين اختطافا في الشرق والغرب" والرجل لا ينتبه إلى أن الصحابة قد اقتتلوا مستعملين الدين في قتالهم، ورافعين المصاحف فوق الرماح، كما لم ينتبه إلى أنّ ما يقوله يعني بالواضح ضرورة الفصل النهائي بين الدين والسياسة، بين العقيدة والدولة، لأن الحكامة في تدبير شؤون الدولة الحديثة لا يكون بالعواطف الدينية و"النصوص الثابتة" بل بالعقل والعلم والحنكة والتكوين في علوم العصر. هل تم ذلك اليوم فقط أم من طرف الصحابة ؟
5) أن العقل الإسلامي لا يفهم الأثر السلبي لعمله على المجتمعات الإسلامية، فقد قال شيخ الأزهر إن مشكلة المسلمين الحقيقية اليوم هي "أن يجتمع الرئيس الأمريكي "ترامب" مع رئيس إسرائيل "ناتانياهو" ولا يوجد أي عربي أو مسلم معهما"، إذ لا يفهم الشيخ بأن سبب غياب المسلم بين الرئيسين المذكورين هو عجز المسلمين عن الدخول في نادي الكبار بسبب تردّيهم في مهاوي التخلف والانحطاط الحضاري الكبير وتكريسهم للجهل والاستبداد السياسي منذ قرون طويلة إلى اليوم، حيث لم تستطع حتى الصفعة الاستعمارية أن توقظهم من سباتهم، كما يبدو أنه لا يعلم بأن قوة أمريكا وإسرائيل ليست في دين أو عقيدة أو تراث قديم أو مذهب فقهي أو لحية أو عمامة أو خمار، بل في العلم والعمل والعقل والتدبير المُحكم. فلا أحد في إسرائيل أو أمريكا يقول إن في التوراة أو الإنجيل كل الحلول لمشاكل عصرنا، ولا أحد منهم يعود إلى فكر أنتج منذ 12 قرنا ليستمر في العمل به واعتماده إلى اليوم. فمن لا يؤمن بأن ضعفه في أسلوب تفكيره لا يمكن أن يتقدم ويصبح قويا فقط بالعقيدة أو المال أو الخطابة والبلاغة.
فعندما يقول شيخ الأزهر "الذي نهوِّن من شأنه اليوم خلق أمة كاملة وتعايش مع التاريخ"، فهو لا ينتبه إلى أن ما يقصده من نهضة حضارية لا يعود إلى اجترار الفكر الديني، بل إلى الترجمة والبحث والنظر ونقل علوم اليونان والسريان والفرس إلى العربية، وإلا لما ظهر الخوارزمي وجابر بن حيان وابن الهيثم والرازي وابن فرناس وابن النفيس وغيرهم، فهؤلاء لم يأخذوا شيئا عن كتب الدين أو الفقهاء بل اعتمدوا علوم الأوائل من الحضارات القديمة وزادوا عليها في الطب والرياضيات والفلك والطبيعيات، ما يفسر اتهامهم جميعا بالزندقة والإلحاد من طرف الفقهاء، وقد انطفأ وهج الحضارة الإسلامية بسبب الإقبال على التقليد والاجترار ونبذ العقل وعلومه وتكريس الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والتفاوت، وأن ذلك تم بناء على نظام شرعي إسلامي حرسه الفقهاء من أمثال شيخ الأزهر، الذين قرءوا نصوص الدين اعتمادا على قواعد لا تسمح بالتغيير ولا بالتطور، واستمروا في اعتمادها حتى اليوم.
هذه أهم أعطاب العقل الإسلامي الذي يعاني من تخمة التراث، مع جوع شديد في المعرفة العلمية، ومن مظاهر تهافته وضعفه المجهود الكبير الذي بذله تيار التقليد على الانترنيت لإثبات أن شيخ الأزهر قد "أفحم" رئيس الجامعة و"أسكته"، فالعناوين التي وضعت لهذا الموضوع لاستجلاب العامة هي عناوين انتقامية من رئيس الجامعة، الذي تجرأ على انتقاد التراث ومنهج المقلدين وعلى رأسهم الأزهر نفسه، وهو ما يعني في اللاشعور الإسلامي أن التقليد والتراث الفقهي انتصر على الحداثة، بينما الحقيقة أن الذين فعلوا هذا لا تهمهم الحقيقة المُرّة بل فقط "الإفحام" و"الدحض" و"التشهير" و"التشنيع على المخالفين"، وهي ثقافة من بقايا عصور الانحطاط والجهل، ولهذا فإن الجهد الذي يبذله تيار التقليد ليحافظ على الواقع كما هو أكبر آلاف المرات من أي جهد للتجديد الذي يزعُمه.
إنّ كلمة رئيس جامعة القاهرة تقول إن هناك معضلة حقيقية في فكر المسلمين وعقولهم، ولهذا فشلوا في الخروج من التخلف، بينما يأتي تعقيب شيخ الأزهر ليجهض كل الانتقادات ومعها كل أمل في التغيير، وليؤكد على أنه ليس هناك إمكان أبدع مما كان، وأن كل نقد هو مجرد مزايدات علمانية على أمة المسلمين المطمئنة إلى أمجادها الغابرة، وأن كل شيء على ما يرام، وأن المسلمين لديهم في تراثهم ودينيهم أجوبة لكل شيء وليسوا بحاجة إلى أحد. وهو خطاب ظل المسلمون يروّجونه فيما بينهم منذ سنة 1928 مع ظهور "الإخوان المسلمين" إلى اليوم، دون أن يصنعوا منه حضارة أو يغادروا به الصفوف الخلفية في نادي البشرية.