-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

ماالأدب ؟ ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

لكن ينبغي أن نتوخّى مكامن الحذر في هذه الموضوعة الإشكالية: إذا كان الأدب مماثلًا ليكون محادثة حوارية حيّة فينبغي، إذن، أن يُعاني المعضلات والمخاطر السياسية التي تكتنف كلّ محادثة عامّة؛
إذ نعلمُ جميعنا أنّ بالمستطاع دومًا استبعاد الناس من المشهد العام، أو التعدّي عليهم بوسائل شتى، أو رفض الإصغاء لما يتطلّعون إليه، أو إنكار مطالبهم ومطامحهم، أو الاقتصار على سماع ما نرغب في سماعه دون سواه. إذا كانت المحادثة الحوارية في الأدب فاعلية حية فيمكننا - بسهولة - أن نُميتها: إنّ أية محادثة حوارية معقولة هي محادثة مفتوحة بين متكافئين، وإذا ما كان الأدب في جوهره محادثة فينبغي لنا أن لا نجعل تلك المحادثة ذات طبيعة حصرية مقفلة على أناسٍ بعينهم. أتساءلُ بدهشة: ما الذي يعنيه أن لا يكون المرء مشاركًا في هذه المحادثة الحوارية، أو أن يُستَبعَدَ منها؟ أو أن يكون قادرًا على المشاركة في أبسط الأنماط الحوارية فحسب؟ ثم: ما الذي يعنيه أن تستبعد نفسك من هذه المحادثة؟ (سأناقشُ هذه الموضوعات في الفصل 3) . إنّ واحدةً من الوسائل التي تستهدفُ – ويا للسخرية المُرّة - استبعاد الناس من المشاركة في المحادثات الحوارية التي تنطوي عليها الأعمال الأدبية هي في فرط الإطراء وكَيْل المدائح المطوّلة لها، ولقد سبق لي أن أشرتُ إلى فكرة "المُعتَمَد الأدبي" من قبلُ - تلك الفكرة التي ترسّخُ القناعة بوجود قائمة من الكتب التي يتوجّب على كلّ فردٍ منّا قراءتها. إذا ماشئنا الكلام في سياق عام فسنقولُ إنّ فكرة المُعتَمَد الأدبي هي واحدةٌ من أكثر الموضوعات الخلافية في الأدب لأنها تنطوي على قضيّتين: الأولى تختصّ بفكرة القيمة الأدبية (أي الترويج لقناعة مفادُها أنّ هذا الكتاب عظيم!)، والثانية توظيف السلطة المؤثرة للسياسة (إقناع القارئ بأنّك يجب أن تكون على هذا المثال إذا ماشئت التميّز والنجاح الأدبي)، وتلتقي القضيتان لتشكّلا نوعًا من عبارة آمرة (كلّ فردٍ منّا ينبغي أن يقرأ هذا الكتاب ليكون على الشاكلة التالية "التي نرغب، والتي تؤهّل للنجاح ونيل الامتيازات"). تكمن الإشكالية في هذا السياق بأن ليس ثمة من موقعٍ محايد تمكن منه مساءلة القيمة الأدبية؛ فأنت لا تستطيع النفاذ بجلدك خارج أسوار مجتمعك من أجل مساءلة نصّ أدبي، ثمّ أنّ الأسس المعتمدة في نيل مباركة المعتَمَد الأدبي أو الاستبعاد منه هي أمور مسيّسةُ politicized في الغالب وليست فعالية تتّسِمُ بالشفافية؛ فالنصوص الأدبية التي تكتبها نساءٌ - على سبيل المثال - أو يكتبها مؤلفون من بلدان أخرى (خارج نطاق المركزيات الأدبية المهيمنة، المترجمة) قد يحصل أن تُستبعَدَ في غالب الأحايين، فضلاً عن أنّ "قائمة الكتب العظيمة" التي يضمّها المُعتَمَد الأدبي توطّدُ أركانها لكي تنتهي إلى نوعٍ من العطالة الكابحة لأيّ جديد لأنها لا تلبث تعزّزُ مواقعها عبر توقّعات الناس المسبقة وتأكيدهم على هذه الأعمال دون سواها (لقد قرأنا دومًا هذه الأعمال، ومازلنا نعاوِدُ قراءتها!! هذا ما يتقوّلهُ الناس بصورة مستديمة)، ثمّ يأتي العامل الاقتصادي ليعزّز مكانة المعتَمَد الأدبي؛ فالمدارس لا تستطيع شراء مئاتٍ عدّة من الكتب الجديدة، والناشرون من جانبهم لن يتكفّلوا عبء طبع كتاب لا يحقق لهم مبيعات مقبولة. إنّ واحدةً من الوسائل المُتاحة للتعامل مع معضلة المُعتَمَد الأدبي تتأتّى من فكرة كون الأدب محادثة حوارية؛ فقد يستطيبُ البعض مسألة "إقرأ وتجاوز الفكرة إلى الأفكار التي بعدها" عند قراءة نصّ أدبي؛ لكن لو جاءت القراءة الأدبية في إطار محادثة حوارية فنحنُ لا نقبلُ - ببساطة - تمرير الأفكار بقدر ما نتوقّفُ لكي نسائل، وندقق، ونحاكم، ونستجيب، بدفعٍ من اللجوء إلى إبداعنا الشخصي الخلّاق الخاص بنا، وهذا هو بالضبط ماينبغي أن نفعله عند قراءة الأعمال المعتمدة في "المُعتَمَد الأدبي"؛ إذ ينبغي أن نتساءل دومًا: لماذا؟ كيف؟ مَنْ؟. ينبغي أن نتفكّر في النص المقروء ونخضِعه للمساءلة ثمّ نمضي لآفاق أبعد منه.
كلّ ما كتبتُهُ في المقاطع السابقة ينبثق من جوهر الاستعارة المجازية بشأن "كون الأدب محادثة حوارية حيّة"، وبالإضافة لكونه محادثة حوارية فالأدب هو فعلٌ تواصلي يمكن أن يتناول أي شيء. الأدب - شأنه في هذا شأنُ كلّ محادثة حوارية تتجوهر أهميتها في (ماذا نقول ؟) و(كيف نقوله؟) - يشكّلُ تجربتنا البشرية ويمنحُ المعنى عبر الشكل الأدبي، والإبداعُ في الأدب (مثلما هو الحال في أية محادثة) لا يتأتى من طرفٍ واحدٍ فحسب بل في صيغة حوارية نضعُ كلّ جوانب شخصياتنا المميزة فيها. تتغيّر استجاباتنا التفاعلية إزاء الأعمال الأدبية مع الزمن، ومثل أية محادثة حوارية فإنّ الأدب ليس شيئًا مجاوزًا للزمن ومتعاليًا عليه ومفارقًا له بل هو موضوعة مكتنزةٌ بالقيمة الزمنية؛ فهو ينطوي على ماضٍ مرئيٍ لنا بوسائل عدّة منها السياق التأريخي للعمل الأدبي، وكذلك "شجرة الأنساب العائلية الأدبية" الخاصة بالتأثير الأدبي والنوع الأدبي. ثمة أيضًا حاضرٌ (يأتي بصيغة "الآن" دومًا) للعمل الأدبي، وكذلك مستقبلٌ يتمظهر بك - أنت القارئ - عندما تصبحُ طرفًا في المحادثة الحوارية. الأدب - مثل كلّ الحواريات المناسبة التي تومئ لنوعٍ من المساواة المُكافئة لأٌقدار الناس ومقاماتهم بعيدًا عن أيّ تراتبيات - يمتلك رابطة مع الحرية الشخصية والسياسية، ومثل كل محادثة حوارية فإنّ هذه الحرية الشخصية والسياسية في سياق قراءة الأعمال الأدبية يمكن أن يطالها الفساد من جانب الآخرين أو من جانبنا نحنُ إذا ما استبعدنا أشخاصًا محدّدين من فضاء قراءتنا الأدبية، أو رفضنا الإصغاء للناس أو وضعنا محدّدات أو موانع تمنعهم من الكلام الحر الصريح.
قلتُ فيما سبق أنّ الاستعارات المجازية هي أدواتٌ للفكر، ومثل كلّ الأدوات فإنّ الاستعارات مفيدة لنا: المطرقة تساعدُنا في أعمال البناء، والكاميرا تحفظ لنا الزمن في شكل صورة؛ لكنما الأدوات هذه قد تكون أيضًا خطيرة أو مضلّلة؛ فالمطرقة التي تُستَخدَمُ بطريقة سيئة تكون سببًا في إيذاء مُستخدِمِها؛ غير أنّ الأمر الأكثر دلالة هو أنّ مستخدِم المطرقة يمكن أن يرى في كلّ ما يراه شيئًا شبيهًا بمسمار، وبالكيفية ذاتها فإنّ الصورة التي في جهاز هاتفك قد تبدو محتوية على المشهد الكامل لك في حين هي ليست كذلك. إنه أمرٌ صحيحٌ للغاية أيضًا أنّ الاستعارة المجازية المضمرة في عبارة (الأدب محادثة حوارية حيّة) تشتملُ على حقيقة أنّ الكتب ليست كينونات حيّة بذاتها؛ لذا فهي عاجزة عن أن توفّر إجاباتٍ لأسئلتك. القراءة فعلٌ شبيهٌ بالتكلّم، وليس من يدٍ تخرجُ من الكتاب حقًا وتمتدُّ لكي تشتبك مع يدك وتأخذك إليها. إنّ هذه الاستعارة المجازية تتخطّى حقًا واحدةً من أكثر التقنيات قوة التي نمتلكها في جعبتنا: الكتابة، أي القدرة على الاحتفاظ بالكلمات والمعاني وجعلها تتخطّى حواجز الزمان والمكان. تشتمل هذه التقنية القديمة (الكتابة) على العديد من تقنياتنا المعاصرة (بل وحتى تقنياتنا التي يُساءُ استخدامها؛ إذ أنّ "الأخبار المزيّفة" ليست مُبتدعًا جديدًا في عالم الأدب) . الكتابةُ تعني أنّ "الجزء الحيّ من الاستعارة المجازية هي أقلُّ إقناعًا من القراءة"، والسبب في ذلك أنّ الكتابة وبرغم كونها لا تزال شكلًا من المحادثة الحوارية (تفكّرْ في النصوص، والمنشورات الإلكترونية،) فهي ليست فعالية حوارية حية مباشرة (مثل القراءة، المترجمة)؛ لكن مع ذلك، وإلى حدود قد تبدو غير متوقّعة، فإنّ العمل الأدبي المكتوب يستجلبُ الاهتمام إلى فكرة أنّ الإبداع الخلاق في الأدب ليس شيئًا كامنًا في رأس الكاتب ذائع الشهرة فحسب بل فينا - نحن القرّاء - أيضًا. عندما تقرأ نصًا فليس مؤلّف النص هو من يتحدّث إليك كما لو كان شبحًا ظهر وسط الضباب وراح ينفث البخار في الفضاء؛ بل إنّ الصحيح هو أنّ النص يتحدّثُ عبر وسيط هو استجابتك الخلاقة لهذا النص.
اعتمد هذا الفصل على توظيف فكرة الإستعارة المجازية الكامنة في عبارة "الأدب محادثة حوارية حيّة" بقصد المحاولة للتفكّر في الطرق التي يتوسّلُها الأدب لينتِج أعمالًا لها معنى، وتبتغي هذه المقاربة أن تكون محاولة لتلمّس معالم الطريق في الغابة بدلًا من تقديم خارطة ترينا الطريق ذاته وحسب. دعوني أكُنْ نزيهًا وصادقًا في القول: لستُ آبهُ كثيرًا بشأن عدم القدرة على تقديم تعريف جامع مانع للأدب على الطريقة المدرسية التقليدية. قد يجد البعض في مسألة عدم تقديم عبارة تعريفية مؤطّرة للأدب قضية مُحبِطة، وقد يعني هذا الأمر أنّ شعورًا بالضياع والدوران في متاهة قد يلفّهُمْ، وهذا ماتستبطنه عبارة (عفوًا. هلّا أخبرتني أين أنا؟)؛ لكني أرى من جانبي أنّ هذه الخصيصة في كون الأدب مادة عصية على التعريف المدرسي هي بالضبط مايجعله مثيرًا ، مهمًّا ، وجزءًا حيويًا من مقدرتي في كيفية مساعدتك - قارئي العزيز - في معرفة من تكون، وهذا ماتستبطنه عبارة ("في مدينتنا، هذه هي الطريقة التي نقول بها مرحبًا"). الأدبُ هو ما يُضفي أهمية على الأمور التي قد تبدو بديهية. نحنُ نصبحُ ذواتنا من خلال الأدب - من خلال القصص، والقصائد، ومن خلال الاستخدامات الإبداعية والتفاعلية للغة. التفكير بالأدب عبر الإستعارة المجازية للحوار والمحادثة يساعِدُنا في تفهّم الكيفية التي تحصل بها هذه الوقائع فضلًا عن دلالتها وأهميتها الجوهرية. الأدب - في نهاية المطاف - جزءٌ حاسمٌ في حوارنا المستديم بشأن المسعى الإنساني الحثيث ودائم التغيّر في فهم الحالة البشرية التي تتجاوزُ سؤال (مانحنُ ؟) إلى سؤال (مَنْ نحنُ؟).


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا