منذ أن نظر صانع الزجاج الهولندي، أنطوان فيليب فان ليوونهويك، في مجهره (ميكروسكوبه) سنة 1668 ورأى كائنات حيّة في عدساته، ونحن نتقبل تدريجيا
حقيقة وجود جراثيم ( بكتيريا) عديدة تسكن في عالمنا. فهناك بكتيريا على الوسادة التي ننام عليها في الليل، وهناك بكتيريا على الملعقة التي نتناول بها فطورنا في الصباح. ويقدّر علماء الأحياء أن يد الإنسان الواحدة تستضيف 150 نوعاً مختلفاً من البكتيريا في أية لحظة. ومعظمها جراثيم غير ضارة، وبعضها مفيد، وبعضها قاتل إذا وجد طريقة يستطيع أن ينفذ بها في الجلد. وفي المدن المكتظة بالناس، حيث تستطيع هذه البكتيريا الخطيرة والأمراض الفتاكة الانتقال من فردٍ واحد إلى مئات الآخرين بمجرد لمس مقبض الباب، لا نبالغ إذا قلنا إن الصابون يجعل من المدن أكثر سلامة وصحة، بل إنه يجعل المدن ممكنة الوجود.
وبفضل قِدم الصابون، فإننا لا نعرف كم من حياة أنقذها، فحتى الإحصاءات المتحفِّظة تقدِّر أن الصابون أنقذ مئات الملايين من البشر. بل طبقاً لتقريرٍ لمنظمة الصحّة العالمية (اليونسيف)، يستطيع الصابون أن يخفّض الالتهابات التنفسية بنسبة 25% إذا غسل كلُّ طبّاخٍ يديه بالصابون عند إعداد الطعام. وهذا لوحده سينقذ أكثر من مليون إنسان كلَّ عام.
إن الاستهانة المستمرة بقيمة الصابون وأهميته نابعة من مشكلة جوهرية وهي: أنه ينظّف ويخلِّصك من شيء لا تستطيع رؤيته. وهذه قفزة مفهومية صعبة حتى لأكثر الناس تعليماً وثقافة. فطبقاً للمراكز الأمريكية المُتخصِّصة بالوقاية من الأمراض والسيطرة عليها، يغسل الأطباء أيديهم نصف عدد المرات اللازمة. وينقذ الصابون حياة الشخص السليم الذي لا يدرك أن يديه تحملان رصاصة قاتلة. وعلى الرغم من أن الصابون لا ينقذ أناساً أكثر من البنسلين فحسب، بل يجعل وجودنا الحضري الحديث ممكنا كذلك، فإننا نستخف بما هو ربّما أعظم اكتشاف طبي في تاريخ البشرية.
مَن الذي اكتشف وصفة الصابون؟
سأسميها نيني، على اسم إلاهة الطب عند السومرين، الإلهة نينيسينا. وسأدعوها بـ " هي" ، لأن من المحتمل أن مكتشفة الصابون اشتغلت في صناعة النسيج المتنامية في بلاد سومر، التي يقول عنها عالم الانثربولجيا جوي ماكورستون إنها صناعة تغلب عليها النساء.
لقد ولدت نيني قبل 4500 سنة فيما ما يسمى الآن جنوبي العراق، ربما في المدينة السومرية القديمة، جيرسو، حيث عُثِر على الرقم الطينية التي تشرح بالتفصيل صناعة الصابون. ولدت نيني في الوقت الذي بُنيَ فيه الهرم الأكبر بالجيزة، وفيما عدا أنها كانت أقصر قليلاً من إنسان اليوم المتوسط الطول، فإنها كانت حديثة في مظهرها. لقد نشأت نيني في مجتمع أبوي كئيب، طبقاً لما ذكرته الباحثة في تاريخ الرافدين، كارين نعمت نجاة، في دراستها " النساء في بلاد الرافدين القديمة". كان أبوها هو ربَّ الأسرة ومارس سلطته عليها حتى وفاته أو حتى زواجها، الذي يمكن أن يكون قد حصل عندما كانت مراهقة، وأحيانا قبل المراهقة.
ففي ترتيلة، تصف الإلهة إيولا حياة المرأة السومرية بعبارات بسيطة:
أنا ابنة،
أنا عروس،
أنا زوجة،
أنا ربة بيت.
من المحتمل أن تكون نيني قد نشأت وترعرعت في الطبقة الدنيا من المجتمع، لأنه بالإضافة إلى كونها ربّة بيت، فأنها كانت تضطلع بدَورٍ أكثر حداثة. فمن بين هدايا أهالي الرافدين القدماء العديدة للإنسانية، اختراعهم للعمل الشاق في مصانع النسيج. فقد كانت تلك المصانع الكبيرة التي تملكها الدولة تعتمد على العمل بالسخرة، وعمل المديونين، وأشباه المستخدمين، للقيام بجز الصوف من الأغنام، وخياطة المنسوجات الصوفية، وصباغتها، وتصديرها إلى المدن السومرية العديدة.
وفي الوقت الذي اشتغلت فيه نيني، كانت مصانع النسيج في مدينة جيرسو، مراكز إنتاج على نطاقٍ كبيرٍ مثيرٍ للإعجاب حتى في مقاييس عصرنا الحاضر. فقد أحصى عالم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، دانيال بوتس، 203.310 من الأغنام التي جُز الصوف منها خلال ثلاثة أشهر فقط في مدينة جيرسو وحدها، وهو عدد أكثر إثارة للأعجاب إذا ما علمنا أن العمل أُنجز قبل اختراع إلة جز الصوف. وطبقاً لعالم الآشوريات بنجامين ستودفنت ـ هيكمان، فإن الفضل يعود إلى مصنع واحد فقط في مدينة أور يشتغل فيه عشرة آلاف عامل في إنتاج أربعمئة طن من الصوف في سنة واحدة. ويبدو أن نيني كانت واحدة من هؤلاء العمال.
إن أول وثيقة عن استعمال الصابون وجدت في أحد الرقم الطينية المكتوبة بالخط المسماري عُثِر عليها في مدينة جرسو. وطبقا لعالم الأنثروبولوجيا الكيميائي مارتن ليفي، فإن ذلك الرقيم قد كُتِبَ قبل 4,500 سنة ويتناول غسل وصباغة الصوف. فلكي يستطيع الحائك أن يصبغ الصوف بشكل صحيح، يتوجب عليه إزالة شحم الصوف من النسيج، التي تتم بصورة أسهل باستعمال الصابون. وحتى في يومنا هذا، يغسل الحائكون الصوف الذي جُزَّ حديثاً بالماء والصابون، لإزالة شحم الصوف.
قد لا تكون نيني أول شخص استفاد من التفاعل الكيميائي بين القلويات والشحوم، أو ما يدعوه الكيميائيون بالتصبين (المعالجة بالصابون). فهذه العناصر كانت شائعة ومعروفة بحيث أن معظم الكيمائيين يشكّون أن شخصاً قبل نيني بمدة طويلة قد توصل إلى ذلك بالمصادفة، وذلك طبقاً للدكتور سيث راسموسن، أستاذ الكيمياء في جامعة شمال داكوتا الحكومية الذي تحدّثتُ معه. فالقلويات توجد في رماد الأخشاب المحروقة، وكثير من الباحثين يعتقدون أن الناس الأوائل استخدموا الرماد لتنظيف آلات الجزارة، ودون أن يعلم الذي يقوم بالتنظيف أن الرماد عندما يُمزج بشحم الحيوان يصنع صابوناً بسيطاً غير نقي.
وحقيقة أن الرماد الرطب يزيل الشحم ربما كانت معروفة كذلك لدى الحائكين الأوائل، الذين من المحتمل أنهم استخدموها لتنظيف منسوجاتهم، طبقاً لهيو سالزبرغ، مؤلِّف كتاب " من إنسان الكهف إلى الكيميائي". فالرماد يمتزج بشحم الصوف ليُطلِق عملية التصبين.
ومع ذلك ثمة سبب للاعتقاد أنه لم يتوصل أحد إلى صناعة الصابون نفسه، الصابون الذي يمكن أن يغسل الإنسان يديه به، قبل 5000 سنة، كما يرى راسموسن. لأنه لا يوجد ذِكر للصابون خلال الألف سنة الأولى من الكتابة في بلاد الرافدين، فمعظم الباحثين يعتقدون أن الصابون قد اكتُشِف قبل وقت قريب من ذِكره في الرقم الطيينية قبل 4,500 سنة. وأخبرني راسموسن :" إذا كان الصابون معروفاً قبل السومرين بوقت طويل، فنحن نتوقع أن نجد له ذِكراً في سجلاتهم، ونحن لم نجد ذلك."
من المحتمل أن ضربة عبقرية أصابت نيني لحظة اكتشافها أن شحم الحيوان كان هو السبب في أن الرماد أصبح عاملَ تنظيفٍ جيّد، ومن المكن إضافته إلى ماء الرماد لصنع سطل من الصابون السائل. قد تبدو تلك خطوة صغيرة، ولكنها تعني أن نيني لم تعُد تعتمد على الشحم مهما كان نوع ما تغسله لمساعدة حصول ذلك التفاعل. وبدلا من ذلك، كان في إمكانها صنع المخلوط المثالي من الشحوم والقلويات لتغسل به أي شيء ـ خصوصاً والأكثر أهمية، يدي الإنسان.
ويفترض سالزبرغ أن أول صابون صنعته نيني قد يكون ببساطة سطلاً من الرماد، والماء الشحمي. وبعد ذلك أدركت نيني، أو شخص غيرها، أن بالإمكان تصفية الرماد وكريات الشحوم، (والتخلص منها بالترشيح)، فيما يقوم الماء بامتصاص القلويات من الرماد بعملية تدعى الارتشاح. لأن قليلاً من الناس كانوا مستعدين لغسل أنفسهم بماء الرماد، فالارتشاح كان خطوة مهمة أخرى في تشجيع الناس على استعمال الصابون، لغرضه الأكثر نفعاً. وأخيراً، وخلال العصور الوسطى، قام صانعو الصابون بالتخلي عن عملية التصفية وذلك بغمس أكياس الرماد في الماء مثل أكياس الشاي.
أول وصفة معروفة لصنع الصابون تتطلب ربع غالون من الزيت تقريباً، وستة أرباع من البوتاس (البوتاسيوم المستخلص من رماد الأخشاب). وطبقاً لراسموسن، فإن ذلك بعد خلطه يصنع لنا سائل صابون غير نقي ولكنه مفيد. وباستخدام تلك الصيغة الأولية لإنتاج مائها بالشحم والرماد، صنعت نيني أعظم منتوج طبي لإنقاذ الحياة في تاريخ البشرية.
ما عدا أنها لم تدرك ذلك. لأن تأثير الصابون في إنقاذ الحياة، يصعب ملاحظته، ومن غير المحتمل أن نيني حظيت بالاعتراف والثناء في حياتها، أو كانت لديها أية فكرة عن أهمية ما فعلته.
ومن المؤكَّد تقريباً، أن السومريين لم يغسلوا أيدهم بالصابون لنفس الأسباب التي غالبا ما يفشل الأطباء المعاصرون في غسل أيديهم ــ لأن أيديهم تبدو نظيفة. ولمئات السنين بعد اختراع الصابون، لم يوجد دليل على استعمال أي شخص للصابون لتنظيف جسمه. فبدلاً من ذلك، استُعمل الصابون لتنظيف الصحون أو الملابس التي ظهرت عليه بقع شحمية. وأول دليل على استعمال أي شخص للصابون لتنظيف جلده وصلنا في رقيم طيني عُثِر عليه في عاصمة الحيثين، بوغازكويا (تقع في الأناضول في تركيا اليوم) وقد كُتب بالخط المسماري ألف سنة تقريباً بعد نيني.
جميع التقنيات ـ مهما كانت أهميتها وأهمية الاختراق العلمي الذي حققته ـ تتطلَّب وقتاً للانتشار بين السكان. ويطلق الاقتصاديون على هذه الظاهرة اسم " الانتشار التكنولوجي"، وقد عانى اكتشاف نيني وقتاً مطولاً من هذه الظاهرة. وكما نرى اليوم فإن التبني الشامل للصابون، لا يزال لم يكتمل.
............................
* نُشر هذا المقال في مجلة تايم الأمريكية يوم 5/5/2020 واستأذنتُ المجلة في ترجمته إلى العربية. ولمعرفة المزيد عن دور السومريين في الحضارة العالمية، يُنظر كتابي " العراق في القلب: دراسات في حضارة العراق"، الطبعة الثالثة، بغداد/ بيروت: الدار العربية للموسوعات.