-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

قصة قصيرة: "بنادم اللي على سبة" عزيز رزنارة

أسرعت في إتمام وجبة العشاء، كانت الأجواء حوالي تحفز وتدعو كلها للعجلة. لم يتبق على دخول فترة الحظر سوى خمسة وأربعون دقيقة، وهي بالكاد كافية للتوجه للمرآب
وأخذ السيارة ثم العودة إلى البيت قبل الثامنة مساء، موعد بداية حظر الخروج، أو ما سمي هنا فترة التعقيم الإجباري. كان المطعم فسيحا، ولكن اجراءات التباعد الاجتماعي قلصت الطاولات إلى ستة تم رصها بشكل جعلها بعيدة عن بعضها البعض. كانت هناك إضافة إلى طاولتي، طاولة أخرى جلس إليها زوجان من مواطني البلد، وكانوا أيضا على وشك إنهاء وجبة العشاء. كانت الأطباق ومعدات الأكل كلها بلاستيكية ذات الإستعمال الواحد، كما تنص على ذلك الاجرءات الاحترازية التي طبقتها كل المطاعم المفتوحة. كان شكلها، العادي بالنسبة لمطاعم الوجبات السريعة، لا يتناسب مع ديكور وفخامة المطعم خصوصا فوق طاولة من خشب جميل. ولكن للضرورة أحكام.
أومأت بيدي مشيرا إلى النادلة أن تأتيني بالفاتورة، ثم باشرت إنهاء ما تبقى في طبقي من شريحة السمك المشوي الذي يشتهر به المطعم. بعد قليل وقفت النادلة عند رأسي ومدت إلي مطوية جلدية صغيرة طبع على وجهيها اسم ورمز المطعم، وبداخلها الفاتورة مع استمارة صغيرة حول ارتسامات الزبون عن مستوى خدمات المطعم وموظفيه وجودة الطعام ونظافة المكان. أسرعت بملء الاستمارة كما تعودت دائما خلال زياراتي السابقة لنفس المطعم، وأخدت الفاتورة للاطلاع على محتواها وثمن الوجبة. فغرت فمي عندما لمحت الثمن المكتوب على الفاتورة، كان المجموع 111 درهم. لم يكن السعر مبالغا فيه أو غير عادي، ولكن الرقم في حد ذاته كان بمثابة طلسم لفتح مغارة من الأفكار والذكريات أشبه بمغارة علي بابا. 
111، ليس رقما عاديا في ذاكرتي وحياتي. تعايشت معه أغلب سنين عمري وكنت أكتبه مرارا على كل الوثائق الإدارية والاستمارات والسير الذاتية وأظرفة الرسائل وغيرها، لأنه رقم "الزنقة" التي كنت أسكن بها، وحيث كان يوجد البيت الذي ولدت وترعرعت فيه، والذي ارتبط رقمه "7" برقم "الزنقة 111" في كل مراسلاتي ووثائقي الإدارية. 
بمجرد أن التقطت عيناي رقم 111، انفتحت مغارة الذكريات على مصراعيها، وانتقلت مخيلتي إلى "الزنقة 111" بحي "عين الشق" بالدارالبيضاء. كانت الزنقة تضم حوالي 24 منزلا يقطنهم جيراننا الذين شكلوا جزءا مهما من ذاكرتي لأن العلاقة معهم كانت وثيقة. كان للزنقة "رأسان" هما المدخلان إليها، ولأننا كنا نسمي الزنقة  ب"الدرب"، فقد كان "رأس الدرب" موقعا مهما في حياتنا كصغار وشباب، إذ كان يشكل فضاء اللقاء والسمر إلى ساعات متأخرة من الليل أو إلى أن تأتي "لاراف" لكي ترغمنا على الهرب إلى بيوتنا. 
كان للدرب رأسان إذن، وكنا نستعملهما أحيانا كمرمى لمباريات كرة القدم التي كانت تجرى بين الرأسين، وبدون حارس. وكان "رأس الدرب" كذلك المكان الأساسي للعبة "دينيفري" التي انقرضت حاليا من قاموس اللعب الشعبية. كان "رأس الدرب" الأساسي يطل على الشارع الرئيسي الذي يفصل تجزئة عين الشق عن "درب الخير"، وكان يشكل المدخل الرئيسي للزنقة، بينما كان "راس الدرب" الثاني يطل على فضاء خالي واسع أمام "دار العسكري" وكان يشكل أحد أهم ميادين كرة القدم في عين الشق، وكانت تقام به كل صبيحة أحد مباريات يشارك فيها بعض نجوم الفرق البضاوية آنذاك من الوداد، الرجاء، الراك، وغيرها. كان رأس الدرب الثاني هو فضاء اللقاء الليلي حيث كنا نلتقي للسمر والحكايات. كنت بالفعل في صغري أيام الدراسة الايتدائية حكواتيا مطلوبا، إذ كان الجميع يترقب حضوري للحلقة الصغيرة ويفردون لي مكانا في وسطها لأمارس سطوتي السردية غلى مخيلاتهم. 
بدأت أتصفح في مخيلتي بقايا وجوه من تذكرت من الجيران، وجرفني الخيال إلى داخل بعض البيوت التي كانت مفتوحة لنا طيلة الوقت، وكنت على وشك المرور عليها بيتا بيتا، عندما انتزعني صوت النادلة الفلبينية التي بقيت عند رأسي ولم أنتبه لها خلال شريط ذكرياتي :
- Please ???
كان ذلك أشبه بالتذكير منه بالسؤال ....، رفعت عيني إليها وأنا أتمتم بإنجليزية ركيكة:
- Sorry …
فتحت محفظة نقودي لكي أدفع لها ثمن الوجبة، كان لدي المبلغ نقدا لكني آثرت أن أدفع لها بالبطاقة البنكية فقط لأطيل زمن النظر والتملي برقم 111 واستعادة بعض الذكريات. أعادت النادلة لي بطاقتي واستأذنتها في الاحنفاظ بالفاتورة
في طريقي إلى السيارة، تساءلت مع نفسي عن رمزية بعض الأسماء والأرقام التي بمجرد حلولها بيننا تحيلنا إلى ركام من النوستالجيا والحنين والذكريات. من الأكيد أن هذه حالة جيلي ومن سبقني لأننا نشكل فصيلة آيلة للإنقراض، فصيلة قوية لكنها تنهار أمام هذه الرموز الجميلة التي تعيدنا إلى زمن جميل إنقضى ولن يعود.  كنت دائما أسميها فصيلة "بنادم اللي على سبة".
 
دبي في 11 يونيو 2020

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا