في
نفس الحافلة وطيلة سنين ممتدة من العمر، كان ذاك الرجل الهرم يواظب على حمل باقة
أزهار متفتحة تغري الناظر بملاطفتها بالشم والتفحص الجمالي ولو من بعيد. كانت
تلك
الباقة المرتبة بالشكل الاحترافي تحمل تنوعا من ألوان ورد زاهية تفوح عطرا ممتدا
مع مشية الرجل الحثيثة. باقة تتحرك بخفة الأزهار وبقلة سرعة حاملها ، حتى أن سائق
الحافة منذ عشرين سنة وهو يألف التوقف بمهل أمام تلك المحطة القصية كل صبح أحد
ليحمل راكبا لا يزيد عن كلامه المختصر إلا أهلا بكم، وعند النزول والترجل يستدير بمهل
وبتحية يواكبها قول: استودعكم برحمة الرب.
لم
يخلف هذا الرجل موعد الحافلة لما يزيد عن خمس قرن، لم يتأت له نسيان تلك الباقة
المزهرية المصففة برونق الذوق الباريسي كل يوم أحد حتى ولو كان الجو ممطرا وباردا،
لم يقدر السائق أن يستفزه بالحديث يوما لمن يقدم تلك الأزهار الأنيقة دون إخلافه
للموعد الدقيق بالساعة والزمن المضبوط. كل التكهنات كان تلف تخمينات السائق
والراكبين الدائمين في ذاك الخط الآتي من منطقة لا تبعد عن دوشة المدينة مسافة، كل
من جلس بجانب الرجل الذي دخل عقده السابع كان يستمتع ولو لمحطات قصيرة من السير بريحان
الزهر وتنوع الألوان ولو بسرقة الرؤية الخاطفة .
في
تلك المحطة غير النائية بالبعد عن دوشة المدينة صعد الرجل ببطء حركة سنه، صعد إلى
الحافلة والابتسامة الخفيفة لا تخفيها نظارته السميكة. كان ذاك المكان الفارغ
للجلوس من حسن الصدفة الباسمة بجوار شابة متفتحة في سنها العمري مثل الزهر الذي
تحمله ذراعه اليمنى. جلست الباقة البهية بجوار الجمال الأشقر، جلس الرجل وقد بات
عظمه يحمل عودة الحياة من رميم العظام بقدرة ربانية، جلس بعد أن ابتسم في وجه شابة
زينة الحياة، فكانت التحية مماثلة بين العيون المخفية من وراء النظارة السميكة،
والنظارة الشمسية الشبابية.
من
حسن التناظر الناظم والسريع بين القلوب والإحساسات ولو بحد المفارقة العمرية
بالتباعد، أن تلك النظارات المعبرة عن السدود التفاوتية في سن العمر لم تعد تخفي
تلك العيون الزرقويتن، لم تعد حائلا سميكا بين فوارق الأجيال، كانت الشابة الوسيمة
تلامس الزهر برفق، ومرات عديدة آثرت على أن تتذوق شم ريحان كل زهرة على حدا، لم
يكن يمنعها من ملامسة تلك الزهرات المصففة بانتظام ،بل كان هو منشغلا في تأمل عشق
الحياة، كان يتفحص من داخله طيبوبته زينة الحياة ، والحلم الباسم بانطلاقة مستقبل
متجدد ومفرح.
لم
تطل المحطات بالركض وسرعة الحافلة المحدودة، وإلا وقد توقف السائق بنفس المحطة
التي ألف الرجل أن تكون آخر محطة له بالنزول وبانتظار العودة مساء. لأول مرة لم
يسرع الرجل الخطى نحو الترجل من الحافلة، بل وضع تلك النظارة السميكة بعينيه و
ألقى ابتسامة نحو الشابة الشقراء ثم انحنى برفق السن، وقبل أن يغادر الحافلة قدم
لها باقة الورد مع ابتسامة تفيض حبا، وهو يقول: تفضلي شابتي الأنيقة، هذه الأزهار
ربما أعجبتك لقد اشتريتها من أجل زوجتي، لكني لحظتها واثق من أنها تريد منك أن
تأخذيها. كل من في الحافلة بقي مشدودا لفعل الرجل العجوز وهو يتابع المشاهد المتحركة
برفق، وكيف تخلى عن أزهاره التي ألف أن يحملها لزوجته منذ عشرين سنة!!! ومن شدة
الملامح المتغيرة عند كل من امتطى الحافلة كان لمحات السائق أكثر حدة وتعجبا، ولم
يستطع أن يوفي الرجل تحية الوداع المألوفة، وبقي مشدودا لفعل رجل السن المتقدم.
استقبلت
الشابة الحسناء التي يماثل جمالها زينة باقة الورد البهية بفرحة تنط من ملامح
خدودها المحمرة بالخجل، وهي لا تعير ملمح عيون الركاب الحائرة و المستطيلة
اهتماما. لم تنته المواقف داخل ركح حافلة وثقل سرعة الحياة، بل آثر السائق أن
يتمهل عن الدوس على مضخة البنزين للتحرك، كل من كان في الجهة اليسرى نهض من مكانه
ليتمم آخر فصل من مسرحية حياة الحافلة، كان ينتظر من زوجة الرجل السبعيني أن
تعاتبه بحد لطمه على خده الأيمن ثم الأيسر عن عدم إحضار الباقة المعتادة بتراتبية
عشرين سنة خلت.
الكل
بدا مشدودا وقد نهض من مقاعده ينتظر النهاية السيئة للرجل الذي يمكن أن المراهقة
المتأخرة قد نالت منه شدا إلى العيون الزرق والشعر المتموج الأشقر. في قلة سرعة
تحرك الرجل يزيد الشوق إلى معرفة النهايات، من فرح الشابة بباقة زينة الحياة لمت
بيدها كمشة من ألوان أوراق الزهر وألقت بها في سماء الحافلة بهجة.
حين
تمكن الرجل من اجتياز الطريق كانت علامة التشوير قد كتب عليها باتجاه المقبرة،
حينها شد الألم كل من في الحافلة حين تيقنوا أن زوجة الرجل تسكن المقبرة، وبدت
بعيون الشابة دموعا نازلة برفق على خدها الأيمن، هنا علم الجميع أن الرجل بقي طيلة
حياته وفيا لروح زوجته التي ترقد تلك المقبرة، بقي وفيا حتى في نوعية الزهر
والورود الذي كان يقطفها من حديقة زوجته الباقية حياة وإزهارا بفسحة المنزل
الأمامية، بقي على الوعد خدوما وعلى حبه لرفيقة عمره صادقا. حينها علم الجميع عند
تحرك الحافلة أن الرجل احتفل بالحياة لا بالموت، علم الجميع أن الحياة زينة ومن
بهائها الأمل والحلم في الأفق الآتي، علم الجميع حكمة الاحتفاء بالحياة و أن لا
ننسى من نحب في قلوبنا.
(فكرة مقتبسة)