مع
استعادة الحياة تدريجيا طابعها العادي، وتجاوز دهشة المفاجأة، تطرح العديد من
الإشكاليات التي تسائل تعاملنا مع الحالة الراهنة ومدى استيعابنا لإكراهاتها
ورسائلها: فهل استطاعت كورونا أو الفيروس التاجي تغيير معادلات القيم والفكر كما
غيرت معادلات الاقتصاد والسياسة؟ وهل
استطاع هذا الموت القادم من الشرق أن يعيد الاعتبار إلى قيم المواطنة والانتماء في
زمن الحجر والحصار الجماعي؟ وقبل ذلك هل
غيرت كورونا بوصلة النقاش العمومي أم أن الأمر مجرد سحابة مرت بمرور الوقت؟
لا
ينبغي الإنكار أن حالة الهلع التي أصابت العقل الوطني والعالمي أمام الجائحة
الغريبة والفريدة قد غيرت العديد من معالم السلوك البشري. منذ انتشار الفيروس عمت حالة من الخوف التي غيرت
سلوك المجتمعات وساءلت العديد من الحقائق الإنسانية كالوطن والحدود والهوية والانتماء
والفوارق الطبقية وغيرها من المفاهيم التي تغيرت وفق عدالة وبائية تؤشر على عدالة
الأصل الإنساني. فبعد سيادة الخوف الذي سكن العقول والذوات حيال
حالات "اللافهم" و"العجز" المادي والمعنوي للقادم الغامض،
قامت الدول بالعديد من الإجراءات التي تسائل مفاهيم الوجود الإنساني والعلاقات بين
الأفراد بحيث تعيد ترتيب الأولويات ويغدو البحث عن "الحياة" مقدما على الاستمتاع بها. فصور الشوارع والمنتديات ودور
العبادة والأسواق والملاعب والمسارح التي غدت مهجورة تذكرنا بأصل الاجتماع
الإنساني، لكنها تسائل سياسات الخوف والهلع التي سنتها الحكومات، حتى غدا الجميع
مهووسا بأمنه قبل وجوده. وفي المقابل كلنا عاش حالة من
التضامن بين المجتمع والدولة التي عبر عنها وزير الداخلية المغربي بقوله: نحن في
مركب واحد إما أن ننجو جميعا وإما أن نغرق جميعا. وأمام
هول الحدث بدأنا نتلمس عودة قيم التضامن المجتمعي وفكرة الجماعة بدل الفرد،
وانبعاث الترابط المؤطر عقديا ودينيا في أعماق النسيج المجتمعي. عاد الدين بقوة في
تفسير الظواهر، وعادت أخلاق الجماعة في ضبط العلاقات، ومعها عودة الثقة في الدولة
وفي مؤسساتها، وإعادة ترتيب الأولويات الاجتماعية حيث غدا نجوم اللحظة هم الأطباء
ورجال الأمن والسلطة وأصحاب المهن الحرة والبسيطة ورجال التعليم. هذه هي الصورة التي عشناها وتمثلناها منذ
أسابيع خلت.
الكثير
من الدراسات المتناسلة الاعلامية والأكاديمية كانت تحدثنا عن ما بعد كورونا
وتبشرنا بعالم جديد حيث الأخلاق غير الأخلاق، والإنسان غير الإنسان، والعالم غير
العالم. وحين نقرأ هذه التنبؤات كنا نحسب أننا سنستيقظ يوما ما، على الصيغة
الهوليودية السينمائية، لنجد أنفسنا أمام عالم جديد له مواصفات جديدة . لم يكن
الأمر منحصرا في تنبؤات المفكرين والباحثين بل سبقهم لذلك السياسيون الذين تصوروا
العالم بعد كورونا خلاف ما قبلها. ففي سياق ضغط الأزمة بدأت خطابات العبرة تتوالى.
ففي فرنسا، أكد ماكرون أن "هذه الفترة علمتنا الكثير"، وأن كثيرا من
الأمور اليقينية والقناعات ستتلاشى. وفي ألمانيا، توقع وزير
خارجيتها السابق زيغمار غابرييل أن يكون الجيل الجديد أقل سذاجة فيما يتعلق
بالعولمة. وفي هونغ كونغ، كُتب على أحد الجدران "لن تعود الأمور إلى ما كانت
عليه". هي تصورات حالمة صاغتها الأزمة. وفي المغرب لم تكن الصورة مغايرة
كثيرة بل طغت على النقاش العمومي في بداية الأمر خطاب الأزمة وسبل مواجهتها وبعث
القيم الجماعية في سياق المواجهة. فتعبأ الجميع لخلق حالة من الحصار المجتمعي
المؤسس على التنازل الطوعي عن الحرية لصالح الأمن . "حيث غدت الأيام، كما قال
هوغو، مثل الليالي".
لكن الواقع أن ما دفع السياسيين
والإعلاميين للحلم بعالم جديد هو ضغط الأزمة وفجأة الوباء، وبمجرد أن استقر الأمر
عادت الأمور إلى سالف الأزمان. لذا ظهرت للوجود تقارير استخباراتية تؤكد انشغال
العديد من الدوائر الاستعمارية بالاستعداد لما بعد كورونا. في
حين عادت خطابات الاصطفاف الايديولوجي والهوياتي في المغرب، والمنطقة العربية،
لتطفو من جديد مؤذنة باستمرار فصل الاستقطاب بين الأطياف المجتمعية. والأمثلة
كثيرة على ذلك: كان آخرها النقاش الجاري حول تحويل آيا صوفيا إلى مسجد ، وقبل ذلك
الصراع حول المساجد والحريات الفردية وقيمة الصحابة...وكلها نقاشات مؤدلجة بلبوس
سياسي. مما يسائلنا: هل فعلا نعيش أزمة كورونا أم أن الأمر عاد إلى ما قبل الحديث
عنها؟ وهل ما عشناه حقيقة تقوية للدولة وانبعاث لقيم جديدة اصيلة أم مجرد مرحلة
انتهت كما بدأت ؟
كورونا -شأنها في ذلك شأن الكوارث
الطبيعية والبيولوجيةـــ تلعب دورا مهمًّا في هزّ الجمود وتحريك التوازنات داخل الدول
وفيما بينها، وإظهار بعض القيم المغيبة، لكنها لن تستطيع تغيير طبيعة الوعي السائد
وموقعه في بنية الجماعة. فالجماعة التي اختارت لنفسها الحياة خارج الأطر المؤسسة
لوجودها من مفاهيم وقيم، وظلت حبيسة الاستقطاب المؤدلج لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى اللحظة واستيعاب
رسائلها في تقوية المناعة الجماعية .