أضحت التحذيرات من اندلاع اشتباكات مسلحة قد تتطور إلى ما هو أسوأ مادة شبه دائمة في الأروقة وبين النخب السياسية والفكرية الأميركية، كمحصلة صراع موازين القوى الراهنة بين طرفي الانتخابات الرئاسية، وامتدادهما في المؤسسة الحاكمة بكل تشعباتها، وفي ظل حالة استقطاب حادة تهزّ أركان النظام السياسي برمته. تجاوزت خطورة المسألة "رفض الرئيس ترامب" الإقرار مسبقاً بنتائج ما تفرزه الانتخابات"، ورُصد أحد مسؤولي إدارته مغرداً على وسائل التواصل الاجتماعي متحدثاً بحرّية عن "شراء الذخيرة وتخزينها، استعداداً لأعمال عنف" تعقب الإعلان أو في فترة انتظارها وإبطاء الإعلان عنها (مساعد وزير الصحة، مايكل كابوتو، "نيويورك تايمز"، 14 ايلول/سبتمبر 2020).
الطرفان، الجمهوري والديموقراطي، منخرطان في تهيئة الاستعدادات للتوجه إلى المحكمة العليا، كل من وجهة نظره، رابحاً أو خاسراً، علماً أن قرارها شبه محسوم سلفاً لصالح الحزب الجمهوري، بحكم توازن القوى الراهن للقضاة.
ذهب بعض "المحللين والمراقبين" في العاصمة الأميركية إلى الترويج لمخاطر "حرب أهلية" من طراز القرن الحادي والعشرين، الذي يميّزه انتشار واسع ومنظم لمجموعات مدربة ومسلحة، بعضها بأسلحة ميدانية مدرعة، وهي تُكِنّ العداء للمؤسسة الحاكمة، وتتسلح بحقها الدستوري في اقتناء السلاح المرخص.
البيانات الرسمية العالمية تشير إلى كثافة مرعبة لحيازة الأميركيين أسلحة فردية بمعدل "120 قطعة سلاح لكل 100 فرد"، مما يترجم إلى استحواذ الأميركيين على 47% من مجموع الأسلحة الفردية في العالم بأكمله.
وقد تعاظم إقبال الأميركيين على اقتناء الأسلحة في العقدين الأخيرين، وخصوصاً منذ تسلم الرئيس ترامب مهام ولايته الرئاسية في العام 2016. جزء لا بأس به منها أسلحة عسكرية ميدانية وبعضها معزز بدقة تصويب بالليزر، ويقدر حجم الذخائر المخزنة للأسلحة الفردية والرشاشات الميدانية بمئات المليارات من الطلقات.
البعض يذهب إلى القول إن الأسلحة المتاحة لدى "الميليشيات الخاصة" اليمينية ربما تفوق بنوعيتها ما يتوفر لدى أجهزة الشرطة في عدد من الدول، ما يضاعف حجم التحديات أمام أجهزة الشرطة الأميركية في حال نشوب صدام مباشر بين الطرفين.
في الجانب المؤسّساتي، أعربت المؤسسة العسكرية الأميركية مراراً عن عدم نيتها الانخراط في مهام ميدانية داخلية، "بخلاف عقيدتها العسكرية من أجل الدفاع عن سيادة الوطن ضد الاطماع الخارجية"، بيد أن الميليشيات المسلحة المتعددة لا تخفي مراميها في الاستعداد لاشتبكات مسلحة، مطمئنة إلى قسط وفير من ازدواجية ولاء عناصر أجهزة الشرطة في مناطق متعددة، أقلها في توفير معلومات استخباراتية استباقية لأي تحركات معادية لها.
بعض النخب السياسية المؤثرة في القرار الأميركي تقول صراحة إنها "تستبعد استكمال عملية انتخابية سلسة، وخصوصاً بعد حدوث صدامات مسلحة مع أجهزة الشرطة منذ شهر ايار/مايو" الماضي، تعرضت فيها مبانٍ حكومية رسمية لاعتداءات غير مسبوقة، "ومن الصعب تصوّر نهاية لتلك الاضرابات واختفائها عن المشهد فجأة يوم الانتخابات"، وفق وصف "مؤسسة راند"، في 7 تشرين الأول/اكتوبر 2020.
أجمعت الأطراف المتنافسة على عدم قدرة أي طرف "التحكم" بتصرف أنصاره يوم الانتخابات، مرجّحة اندلاع "احتجاجات غاضبة" عفوية، وخصوصاً عند شعور أي منهما بحرمانه من حق التصويت، وهي مسألة تتجدد في كل دورة انتخابية، لأسباب عدة أبرزها تباين استيفاء الشروط الانتخابية بين كل الولايات، وحتى في بعض المقاطعات داخل الولاية الواحدة، إذ لا يزال بعضها متمسكاً بإثبات هوية الناخب مرفقة بصورة شمسية رسمية، كرخصة قيادة السيارة التي لا تتوفر للكثيرين، إما بسبب الفقر وإما عوامل أخرى.
"التهديد بوجود مواد متفجرة ومفرقعات" في مراكز الانتخاب للحيلولة دون استكمال عملية التصويت ليست مسألة مستبعدة، بل تتضاعف احتمالاته طردا مع حالة الانقسام والتجاذب الراهنة في المجتمع بأكمله، مع إدراك الأجهزة الأمنية جدية المسألة، نظراً إلى توفر تلك المواد في السوق التجارية. كما أن المشاعر العدائية والتصرف من وحيها لا تحتاج إلى إدارة مركزية.
والجدير بالذكر هو توفر حملة دعائية استباقية لدى وسائل الإعلام المختلفة، بعدم "التطرق إلى توصيف أعمال العنف بالإرهاب"، استناداً إلى توجيهات مشدّدة من مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي)، قائلاً أنه يتعامل مع "التهديدات الداخلية كظاهرة ملازمة لأفراد لديهم نزعة عدوانية، وليس كمنظمات"، بيد أن الواقع يناقض تلك التوجيهات، ولا سيما حين يتعلق الأمر بتوصيف المكتب لكل من له صلة بالمجموعات الليبرالية واليسارية وبعض المنظمات المستنسخة من حقبة عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم.
الجهاز الأمني الأبرز، أف بي آي، لديه سجلّ حافل برصد كل التحركات الفردية والجماهيرية وتصنيف المعلومات الخاصة بها، أفرادًا وجماعات. وقد سجّل نحو "50 إلى 60 حالة تفجير إرهابي سنوياً" في الولايات المتحدة في عقد السبعينيات، وهو يشتهر بعزوفه عن الإقرار بالدوافع السياسية للتحركات الشعبية، وحصرها في قوالب "اضطرابات مخلّة بالأمن العام" تستدعي تقديم مرتكبيها للقضاء.
وما التوجيهات الأخيرة التي رشحت لدى بعض المؤسسات الإعلامية سوى دليل على إصرار المؤسسة الأمنية على تجاهل الأبعاد والمطالب السياسية العامة التي اشتدت وتشعبت منذ بدء ولاية الرئيس ترامب بشكل خاص، باتساع رقعة المهمشين، وارتفاع معدلات البطالة، وانسداد آفاق الاحتفاظ ببيوت ومنازل أوشقق مؤجرة.
المنظمات اليمينية والعنصرية، بحسب تقييم جهاز "الأف بي آي"، استفادت من التجارب والمواجهات السابقة للتيارات الليبرالية واليسارية، واعتمدت على أسلوب بروز "مجموعات مناهضة مبهمة القيادة" كي تعقّد سبل ملاحقتها واستهدافها.
وأضاف الجهاز أن تبني اليمين المتطرف "لتلك الاستراتيجية أسهم في حماية قياداته من الانكشاف والتعقب، وكذلك كحاجز إضافي أمام محاولات الاختراق"، ما جعلها تتقن آليات تحركها ونشاطاتها ضمن حدود القوانين السارية، أبرزها حقها في التجمهر والتدرب على حمل السلاح.
في معرض مقارنة الجهاز المذكور لطبيعة المصالح المستهدفة من قبل المجموعات المسلحة المتباينة في توجهاتها، أكّد أن "المتطرفين اليساريين يميلون إلى مهاجمة رموز الاستغلال الرأسمالي واضطهاد مؤسّساته، بينما يميل اليمين المتشدد إلى استهداف الأقليات العرقية والإثنية، والمهاجرين ذوي البشرة الداكنة، واليهود والمسلمين، وكل من يعتبرونه أنه يساند مصالح الأقليات".
تتعدد هوية القوى والمجموعات المحتمل انخراطها في صدامات مسلحة، بين بعضها البعض ومع قوى الأمن الرسمية، وانزلاق الأوضاع إلى ساحات مواجهة مستمرة تقارب الحروب الأهلية.
قوى الأمن الرسمية، باستثناء القوات المسلحة النظامية، تشمل أجهزة الشرطة المختلفة وعناصر مسلحة من "الأف بي آي"، وقوات الحرس الوطني التي تخضع لسلطة حكام الولايات بالدرجة الأولى، لكن باستطاعة الرئيس، كرأس السلطة التنفيذية والقائد الأعلى للقوات، استدعاؤها إلى أي ساحة أو مدينة يراها ضرورية.
القوات المسلحة بكافة أفرعها، البرية والبحرية والجوية، ستلجأ إلى حماية منشآتها وقواعدها المنتشرة في عموم الأراضي الأميركية، وخصوصاً قواعد الأسلحة النووية، وتأمين الحماية التامة لمراكز السلطة السياسية في العاصمة واشنطن ومحيطها والدفاع عنها، لكن من دون الانخراط الفعلي في مواجهة "الاحتجاجات والاضطرابات سريعة الاشتعال".
برز في الآونة الأخيرة خلال اشتداد تنافس الحملة الانتخابية دخول عناصر "فيدرالية مسلحة" تأتمر من البيت الأبيض مباشرة، ثبت لاحقاً أنها مجموعات مدججة بالأسلحة من جهاز حرس الحدود الضخم، دخلت مدينتي بورتلاند وسياتل في أقصى الغرب الأميركي، من دون موافقة مسبقة من سلطات المدينتين أو حكام الولايتين، واشتهرت باستخدام القوة المفرطة واحتجاز المحتجين دون تقديمهم إلى المحاكمة. ويرجّح أن تؤدي دوراً محورياً في قمع المحتجين المناهضين للرئيس ترامب، سواء فاز في الانتخابات أو خسرها.
ازدواجية السلطة صاحبة القرار في نشر قوات الحرس الوطني، من مشاة وقوات محمولة، تخضع لحكام الولايات بالدرجة الأولى، لكن الرئيس ترامب لديه متسع من الصلاحية لتوظيفها بحسب ما يراه مناسباً، ما يؤشر على تصادم السلطتين، وخصوصاً في ولاية كاليفورنيا المناوئة بأغلبيتها للرئيس ترامب، وربما يلجأ حاكم الولاية الديموقراطي إلى إصدار أوامره لها بإعاقة تقدم قوات مسلحة رسمية، سواء من قوات سلاح البر أو حرس الحدود، مع إمكانية تدحرج المسألة إلى مواجهة محدودة بينهما.
ما يتبقى من قوات أمنية رسمية، وهي شرطة الولايات، قد يعهد لها بالتصدي لميليشيات اليمين المتطرف، على الرغم من ميل ميزان التسلح لصالح تلك الميليشيات، وخصوصاً في نوعية الأسلحة المتوفرة للطرفين: الشرطة بمجموعها مسلحة بأسلحة فردية ورشاشة، مقابل أسلحة ميدانية تتوفر لدى عدد كبير من الميليشيات.
لفت بعض المحللين الأنظار إلى فئة أمنية نادراً ما تستخدم في الصراعات مع الأجهزة الأمنية، وهي قوات الشرطة، لحماية مراكز السكان الأصليين، الهنود الحمر، والتي من المرجح أن تستغل الأوضاع لإقصاء الأجهزة الرسمية عن مناطقها، وربما إعلان بعضها الاستقلال الذاتي عن الكيان السياسي الأميركية. بيد أن طبيعة تسليحها ومستويات تدريبها المتدنية لا تشير بشدة إلى مسألة الانفصال.
في الطرف المقابل، تقف الميليشيات اليمينية المسلحة المتعددة والتي تزيد أعدادها على 370 مجموعة، وفق بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي للعام 2018، ويتميز عناصرها بالتأهل لتدريبات عسكرية تكتيكية ازدادت وتيرتها في الآونة الأخيرة، وهي تنتشر في معظم الولايات الأميركية.
وقد برزت إحداها إلى العلن قبل بضعة أيام عقب إعلان عناصر "الأف بي آي" اعتقال عناصر من "حراس الذئب" في ولاية مشيغان بعد وشاية من عنصرين داخلها (استطاعت الأجهزة تجنيدهما) بأقرانهما، اتهموا بالتخطيط لخطف حاكمة الولاية غريتشين ويتمر.
ويعد أخطرها، حسب تصنيفات الأجهزة الأمنية، قلة من الميليشيات المسلحة ذات انتشار واسع لأعضائها، معظمهم عمل أو لا يزال على رأس عمله في أجهزة الأمن الرسمية، وهم يتمتعون بالتدريب العسكري وحيازتهم للأسلحة الرسمية. وقد تصدرتها مجموعة "حراس القسم"، التي أنشئت خلال ولاية الرئيس السابق باراك اوباما، ودشنت حضورها بالصدام المسلح مع قوى "الأف بي آي" في العام 2014 خلال أزمة ذاك الجهاز مع المزارع المعتدي على الأراضي الفيدرالية كلايفن بندي.
يوازيها في الانتشار الواسع لأعضائها ميليشيا تدعى "3%" تضم عناصر أميركية وكندية تكنّ عداءً مزمناً للكيان السياسي الأميركي. وقد أطلقت على نفسها تلك الصفة لادعائها بأن "3%" من المستعمرين البيض الأوائل حملوا السلاح ضد البريطانيين، وارتدى عناصرها زياً حربياً خلال ظهورهم في مسيرة للعنصريين البيض في مدينة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا في العام 2017.
ثمة مجموعة أخرى مسلحة هي ميليشيا مشاة البحرية الاستعماري، ويقتصر حضورها على ولايات الغرب الأوسط "مشيغان وانديانا واوهايو وبنسلفانيا". وقد نشرت عناصرها مدججة بالأسلحة قبل بضعة أيام، تحسباً لاستهداف "الأف بي آي" لعناصرها بعد اعتقالها عناصر مجموعة "حراس الذئب" المشار إليها أعلاه.
تزعم المجموعة أعلاه امتلاكها "سلاح جو، وقدرات جوية متحركة، ووحدات مؤللة، ونظاماً لوجستياً متطوراً"، وباستطاعتها نشر عناصرها على وجه السرعة في أي ساحة تريد.
تشير بيانات "الأف بي آي" ايضاً إلى مجموعة محترفة حديثة النشأة تتوزع في ولايات "سلسلة جبال الروكي"، تدعى "قوة الدفاع الأميركية الموحدة"، تزعم أن بعض عناصرها أتى من صفوف "القوات الخاصة الأميركية"، وشارك في الهجوم الذي تعرضت له القنصلية الأميركية في مدينة بنغازي في العام 2012.
بموازاة الميليشيات اليمينية والعنصرية، أدت المواجهات الأخيرة مع أجهزة الشرطة المحلية منذ اغتيالها للمواطن الأسود جورج فلويد، إلى بروز مجموعة مسلحة من السود، NFAC، نشرت نحو 500 عنصر مسلح في مسيرة موازية لخصمها المتطرف في مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا مطلع العام الجاري، بيد أن المجموعة تتميز بولائها للسلطة والكيان السياسي الأميركي، بخلاف ميليشيات اليمين، رغم أن بعض أعضائها يحملون نزعات استقلالية لتشكيل ولايات خاصة بالسود (من أصول أفريقية).
تجمع الأجهزة الرسمية على أن مكامن الخطر للأمن والسلم الاجتماعي هي في المجموعات المسلحة التي لم تعلن عن هويتها بعد، والتي يتم رفدها بعناصر مدربة أنهت خدمتها العسكرية الرسمية. وقد تنخرط بشدة في المواجهات المسلحة المقبلة، والقاسم المشترك بينها هو عدم خشيتها من نشوب حرب أهلية جديدة.
تفشي جائحة كورونا وتنامي أعداد الوفيات والمصابين في أميركا من دون يقين بالتوصل إلى لقاح مضاد سيعزز من مخاطر الصدامات المسلحة، يواكبها انتشار خيبة أمل عامة من فعالية القادة السياسيين للبلاد، بصرف النظر عن هوية الفائز في الانتخابات المقبلة، وفتور الحماس العام "لنشر النموذج الديموقراطي" الأميركي أو الاعتزاز به.
تضاريس اللوحة السياسية الأميركية لا تبشر خيراً في الأيام المرئية المقبلة، ويعوّل كل طرف على قواه الذاتية ومناصريه للسيطرة على دفة القيادة السياسية للبلاد، واستعداده للصدام المسلح في سبيل بلوغ أهدافه.