في مقالته «التقليد والموهبة الفردية»، كتب ت. س. إليوت عن المعتمد (الكانون) الأدبي بوصفه «نسقاً من النُصُب». ومع أن العديد من النصب التذكارية التي ليست جديرة بالاحتفاء - نصب لروبرت إي. لي، كرستوفر كولومبوس، وآخرين - نشرت مؤخراً، فإن إعادة تقييم الأعلام في الأدب عملية مستمرة منذ عدة سنوات: إليوت نفسه، الذي هيمن على المشهد الأنغلوفوني مثل تمثال رودس، يبدو الآن أقرب إلى متحدث بليغ وغريب الأطوار باسم التقاليد الإمبراطورية.
لقد تحقق لبول فاليري (1871 - 1945) القدر الملتبس في التحول إلى أحد النصب التذكارية أثناء حياته، أن يجسد «رجل الأدب»homme des lettres) ) في جوهره. بوصفه عضواً في الأكاديمية الفرنسية، كان ممثل فرنسا الثقافي في عصبة الأمم والمحاضر المعلق الذي لا يكل. المناصب الأكاديمية التي احتلها مما ينوء به نصف دزينة من الأساتذة. الكتب التي نشر تربو على 20 كتاباً في أجناس مختلفة؛ شعره، الذي ينهض عليه معظم سمعته، يعد جزءاً بالغ الصغر من الكل.
كان فاليري في بدايته مساعداً لبطريرك الرمزية ستيفان مالارميه، ومشاركاً متحمساً في الحركة «الانحلالية» - الصنعية، الجمالية المفرطة - التي تزعمها ج. ك. هايسمانز. قصائد «مجموعة أشعار قديمة» (1920) التي كتبت قبل أزمة 1892 الفكرية التي قادت فاليري إلى التخلي عن الشعر لعقدين، هي تمارين شكلية مذهلة ودقيقة، مكتنزة بزخارف نهاية القرن: شخصيات كلاسيكية (هيلين، فينوس، أورفيوس، نارسيسوس) تتخذ أوضاعاً وتلقي خطباً؛ شخصيات أنثوية واهنة تومئ في نشوة جامدة؛ وكثيراً ما يعثر المرء على «اللازوردي»، تلك الزرقة الشعرية المهيمنة على نهاية القرن التاسع عشر.
في عام 1912 أعاد أندريه جيد والناشر غاستون غاليمار، فاليري، إلى الشعر، مقترحين جمع أعماله المبكرة. بدأ ينقح قصائده التي تعود إلى ما قبل عشرين عاماً، وبدأ ما رأى أنه وداعية للشعر في 40 سطراً. بعد أربعة أعوام، صارت الأربعون قصيدة «بارك الشابة» ذات الـ512 سطراً، أعظم قصائده وواحدة من روائع الأدب الفرنسي المعروفة.
مثل قصيدتي مالارميه «هيرودياد» و«بعد ظهيرة إله الريف الأسطوري»، تأخذ قصيدة «بارك الشابة» شكل مونولوغ تتحدث فيه إحدى «الأقدار»، أو البارك. هي فتاة على شرفة البلوغ، ممزقة بين الذاكرة والمعرفة المسبقة، مستيقظة على غوامض الرغبة الجنسية:
أيتها الأشباح العزيزة الصاعدة، التي يتماهى عطشها مع عطشي،
رغبات، وجوه مضيئة... وأنت، يا فواكه الحب،
هل منحتني الآلهة هذه الأشكال الأمومية،
الانحناءات المشعة والثنيات والكؤوس،
لكي تعانق الحياة معبد اللذة
حيث الروح الغريبة تمتزج بالعودة الخالدة، وتستمر البذرة والحليب والدم بالتدفق!
إنني مملوءة بضوء الرعب، بالانسجام الفاسد!
حركة القصيدة أوبرالية، مسرحية، حسب تحرك (بارك) عبر الأحلام والذاكرة والتطلعات. إنها تفكر في الانتحار وترفضه، مسمّرة دائماً بمفارقة وجودها: أن هذه الروح الخالدة، القادرة على أكثر التصورات كمالاً، مربوطة بجسد فانٍ، ممزقٍ بالانفعالات والعواطف.
لم ينجز فاليري مرة أخرى ذروة الطاقة والتوتر كما في «بارك الشابة»، مع أن «المقبرة البحرية»، القصيدة المركزية في ديوان «تعاويذ» (1922) تحقق ربما قدراً أكبر من العمق. أشهر قصائده تأملات حول قضايا «كبيرة»: الحياة والموت، التقاليد، الذاكرة، الحنين، وجودنا الجسدي في علاقته بكمالنا الروحي الذي يبدو أن الفن يمنحنا لمحة منه. مونولوغ يقوله ثعبان الجنة، «تخطيط لثعبان» Ébauche d’un Serpent) ) عبر (الشاعر الإنجليزي) و. ه. أودن عن إعجابه به قبل أن يعده «محاكاة ساخرة» بعد 25 عاماً، ينجح الثعبان في استقطار معظم الحجج اللاهوتية التي يقولها (الثعبان) في قصيدة جون ملتون (الفردوس المفقود) - وأكثر منها - في أسطره المائتين وخمسين (....).
إذا كان «أستاذه» مالارميه، الكاهن الأكبر في ديانة سحرية، خيميائي اللغة، فإن فاليري تطلع إلى أن يكون الكيميائي، مكتشفاً علمياً شديد التدقيق للكلمات مجتمعة. في عام 1889، وهي فترة مبكرة، قدم فاليري «مفهوماً للشاعر جديداً وحديثاً بالكامل. إنه لم يعد المجنون الأشعث الذي يكتب قصيدة كاملة في ليلة واحدة محمومة؛ هو عالِم هادئ، عالِم جبر تقريباً، في خدمة حالِمٍ مرهف»، بتعبير إليوت في مقالته «من بو إلى فاليري»، «لقد أعيد تنسيق البرج العاجي ليصير مختبراً».
المفارقة في هذه الفكرة الحديثة في ظاهرها حول العالم - الشاعر هي الموضوعات التقليدية، بل التي عفا عليها الزمن، التي يطرحها فاليري بإلحاح - الحب، الموت، القدر، الجمال - وعالم الحداثة الذي يرفضه في الغالب. قد يستغرب القارئ المعاصر لانقياد فاليري بقوة، ليس فقط للأشكال التقليدية من الشعر الفرنسي، وإنما لمفردات معقدة والتفافية، لنوع من المجازية المتواصلة والمحيرة أحياناً. الشمس التي تمشي فيها «قدر» (بارك) ليست «الشمس sol» بالفرنسية السهلة، وإنما هي «الإله المشع» («le dieu brilliant»)، نفس الأشواك التي تمزق فستانها هي «ورد بري متمرد» («la rebelle ronce»).
مختارات ناثانييل رودافسكي الجديدة من قصائد فاليري، «فكرة الكمال: شعر ونثر بول فاليري» (2020)، إضافة تأتي في وقتها. ترجماته أكثر طزاجة من أي ترجمة إنجليزية سابقة، أكثر صحة من حيث اللغة السائدة من ترجمة ديفيد بول، مترجم برنستون/ بولنجن. لقد اضطلع رودافسكي - برودي بمهمة بالغة الصعوبة. ففاليري لا يكتب فقط أبياتاً مقفاة ومنتظمة إيقاعياً، ولكن شعره يمثل أيضاً (بعبارة المترجم) «نسيجاً كثيفاً من السجع، القافية الداخلية، المعاني المزدوجة، الصور المتحركة، تشابهات تشع بين كلمة وأخرى في أبيات متباعدة».
ليس بوسع رودافسكي - برودي سوى أن يوحي بالنسيج المتأصل في الأصوات الفرنسية في ترجمته الإنجليزية. لحسن الحظ أنه لا يحاول إعادة إنتاج الأشكال الشعرية كما هي لدى فاليري. في حين أن ترجماته تأتي في أوزان إنجليزية منتظمة - قرار يقول عنه إنه «ذو صلة بمواجهته مجموعة مشابهة من القيود الشكلية، من الممارسة، كتلك التي تتسم بها أعمال فاليري، مثلما تتصل بإيجاد ما يشبه إيقاعاتها المعقدة» - فإنه يحجم عن محاولة محاكاة قوافي فاليري (وهذه قمة إفرست التي تتناثر حولها جثث مترجمين سابقين).
«فكرة الكمال» عنوان مناسب، لأن فاليري كان من الساعين إلى الكمال، لا يكف عن «سمكرة» قصائده. اشتهر بعبارته أن القصيدة لا تنتهي، وإنما تُترك فقط. كان على ناشره عملياً أن ينزع مخطوطة «بارك الشابة» من يده. كتب إليوت في مقدمته لمجموعة «فن الشعر» الصادرة عام 1958 عن فاليري: «لقد كان أكثر الشعراء وعياً ذاتياً»، وإلى حد بعيد كان الموضوع الرئيس لفاليري هو ما يفعله إحساسه. يتضح ذلك في عودته المستمرة إلى شخصية نرسيس، الشاب المذهول بانعكاس صورته. في القصيدة النثرية «الملاك» («L’Ange»)، وهي آخر أعماله (مع أنه كان يراجعها منذ 1921)، ينظر الملاك إلى صورته في النبع، ولا يستطيع أن يوفّق ما بين مرأى «رجل يبكي» وهويته الفكرية. كتب: «قال الملاك: الكائن الخالص الذي هو أنا، الذكاء الذي يمتص بسهولة كل الخليقة دون أن يؤثر فيه أو يغيره أي شيء من ذلك، لن يتعرف على نفسه في هذا الوجه الطافح بالحزن...».
من الإضافات المهمة في «فكرة الكمال» - والتي تبرر العنوان الجانبي «شعر ونثر» - سلسلة من الاقتباسات المتسلسلة تاريخياً من «أعمال» فاليري، أو مذكراته. بدأ فاليري يكتب مذكراته عام 1894، وكان يضيف إليها كل صباح طوال ما تبقى من حياته. تغطي المذكرات كافة اهتماماته الشاسعة - ومنها الشعر، الفلسفة، علم النفس، علم الجمال، الموسيقى، الفن، السياسة - ولم تُحرر صفحاتها الثمانية وعشرون ألفاً بالشكل المناسب حتى الآن. الجزآن الضخمان من الأعمال في طبعة «بلاياد» عالية القيمة (1973 - 1974) تضم 10 في المائة فقط من الكل.
ربما تكون الاقتباسات التي تضمنتها مختارات رودافسكي - برودي في 57 صفحة الأكبر بين ما أتيح لقراء الإنجليزية من المذكرات. التأملات في علم النفس والحنين، والسبحات الفلسفية، ستكون مألوفة لقراء مقالات فاليري. لكن بعض المقاطع تظهر الشاعر من حيث هو ملاحظ مدقق لتفاصيل الواقع الطبيعي والمدني. تمنحنا هذه لمحة عن عالِمٍ - شاعرٍ مختلفٍ جداً: الشاعر الأميركي وليم كارلوس وليمز الذي سيقارن ممارسته (في القصيدة الطويلة «باترسون») بممارسة ماري كيوري، استقطار واقعٍ مشاهَد في جوهره المشع مثلما استخرجت كيوري الراديوم من معدن البتشبلند.
تظل «بارك الشابة» و«المقبرة البحرية» أعمالاً رائعة، مدهشة وعميقة. ومع ذلك فإن كلاسيكية فاليري الشكلية الجديدة تبدو أكثر ابتعاداً عن القارئ المعاصر من أعمال معاصريه الأصغر سناً. أندريه بريتون، بليز سيندرارس، حتى غيّوم أبولينير (الذي توفي عام 1918): يبدو هؤلاء أكثر حداثة وانسجاماً مع عالم في حركة مستمرة واتصالات جماهيرية. ومع ذلك سيكون من الخطأ إلقاء فاليري في مقبرة للنصب المهملة. ذلك أنه ليس من شك في جمال وقوة أفضل كتاباته، والمآزق الإنسانية التي تتناولها أعماله - الموت، التجسد، الحنين إلى الكمال - تظل مهمة بالنسبة لنا.
- عن «هايبر أليرجيك»،
8 أغسطس (آب)، 2020.