أي عمل روائي، يثبت أن هذا الحقل الإبداعي ـ السردي- مترامي الأطراف. وهو بذلك غير متناه في الصياغة الجمالية والاحتمال. طبعا، لا يتأتى ذلك لأي كان، بل يتخلق في قبضة الروائيين الإشكاليين، الذين يتغذون على القلق وأفق السؤال المشرع على الحياة والوجود. إذا حصل، ترى الروائي يعيد النظر باستمرار في التقنيات السردية، على ضوء السياق وكذا التطورات الجمالية. في هذا الصدد، لا بد من تلك الخلفية الفكرية والأدبية، لبناء الشخوص والأمكنة والأزمنة.. إنها مكونات تصاغ ضمن طريقة حكي، يختارها الكاتب، عبر سارد يقدم المسارات والبرامج السردية. حضرتني هذه الفكرة المركبة، وأنا أتصفح قراءة العمل الروائي المعنون بـ«حين يزهر اللوز» الصادر عن دار فاصلة للنشر مؤخرا، للمسرحي والروائي محمد أبو العلا. عمل يضع فيه الكاتب كله، أعني انغراسه في المكان، استنادا إلى مقروء وإبداع موجه بالسؤال وإعادة التركيب والبناء. لهذا جاءت هذه الرواية مشتلا يتخلق على أسئلة مؤرقة. منها علاقة المسرحي بالسردي، المركز والهامش، إضافة إلى سؤال الواقع والسلط، فضلا عن السجلات المتنوعة والحوارات المنتجة.
المتن الحكائي
على الرغم من لعبة الواقع والإيهام، فالكاتب يختار فكرة المتن الحكائي. بهذا المعنى، فالفكرة غير مطروحة في الطريق؛ بل ينبغي استحضارها بالمعايشة والتأمل. الفكرة التي يستطيع من خلالها الكاتب تمرير رسائل، قصد خلق جدل وحوار مع التاريخ والمجتمع. وقليلة هي الأعمال حقا التي تمتلك هذه المقدرة والكفاءة. في هذا الباب، فرواية «حين يزهر اللوز»، اختارت فكرة الهامش في الواقع والفكر معا، فتجسد تفكيرا في تصوير بلدة المنجم في الأطلس المغربي.
هنا تكمن وحدة العمل، هذه المتمثلة في تقديم البلدة عبر شخوصها، وهي حكاية برؤوس متعددة. فسعت الرواية بعين طفل يتشكل ويتكون في الواقع والفكر. من خلال حضوره إلى جانب الشخوص، معايشا إياها، انطلاقا من نافذة البيت اليتيمة، ضمن مسكن بسيط مقذوف لقدره؛ إلى بروز علامات الامتداد في العيش كالسوق ووسائل النقل والعلاقات الاجتماعية… اختلالات تشكلت في صراع مع اللقمة وقساوة الطبيعة، فضلا عن حراس المكان والعباد. في هذا السياق، يحظى المكان باعتباره أحد المكونات الأساسية لأي عمل إبداعي، بأهمية قصوى حيث يلجأ المبدع لهذا الوسيط؛ ليس فقط كمساحة تقع فيها الأحداث، وإنما كفضاء لا يخلو من حساسية ورمزية. وغالبا ما تشدنا القطعة الأدبية بأسماء أمكنتها وأصنافها التي تحيل بقوة التاريخ والثقافة على معالم محددة. الشيء الذي يحفز على التساؤل: هل المبدع يتعامل مع المكان كمكان واقعي، أم مكان متخيل؟ فالإجابة قد تجسد الإشكال المنهجي في نوعية تقديم المكان (واقعي، رمزي، متخيل) وهذا ناتج عن اختلاف التصورات النظرية والمفاهيم الإجرائية.
المكان بهذا التحديد، في رواية «حين يزهر اللوز» ليس إطارا أو خشبة مستقلة؛ بل إنه متداخل مع الإنسان كحمولة. فيغدو تقديم المكان وتصوير عناصره وحيثياته وتفاصيله، بمثابة تقديم للإنسان المنغرس فيه جسدا وقيما (جبيلو، العالية، رحال، السهلي، ياسمين، العربي ستيام، المقدم علي). وطالما أن الأمكنة متعددة ومتنوعة، تبعا لزوايا النظر؛ فإنها تشكل مدخلا للتعرف على أنماط مختلفة من النماذج والتجارب البشرية. وقد أدى ذلك التبادل بين الصور الذهنية والمكانية إلى ذلك التداخل والتشابك بين الإنسان والمكان، الذي يصعب معه فك أحدهما عن الآخر. فيكون بذلك المكان امتدادا طبيعيا للشخصية. كما أن نشاط الشخصية وتحولاتها، لا يتم إلا بالمكان. وفي الآن نفسه تحضر نافذة التأمل وطرح السؤال، لكشف المستور والمسكوت عنه في الحياة والتاريخ، الذي تعاد صياغته هنا بجمالية ووعي متحرر؛ قد يقبض على المنسي والساقط، أو ما لم يقله التاريخ المؤدلج. نقرأ في رواية «حين يزهر اللوز»: «كثير من الحكي يتبخر في الهواء إلا هذا المثخن بالموت، فقد كان يعبر بي إلى عوالم غامضة مشرعة على سؤال الكينونة، تتداعى هنا كل لحظة أمام حتف داهم، كما يتداعى للسيل جرف هار، حكي يحرض على تحبير ما يعبر الدماغ من وميض قد يخبو للأبد ما لم يدون للتو، أليست الكتابة قيد صيد كما يقولون؟».
الصياغة السردية
يعتبر هذا العمل، على انخراط عميق، في مسعى صياغة بلدة بشرية كمظهر من مظاهر الهامش المتعدد البقع. ولكنه يطوي على مشتركات كالفقر والمعاناة. ويبدو أن هذه الرواية، ركزت على بقعة الأعالي الجميلة عينا والقاسية عيشا، أي أنها تمارس وجودها على حافة الموت بأشكاله كما ترصد الرواية. فسعت هذه الأخيرة لامتصاص خصوصية هذا الهامش،على مستوى التفاصيل التي تنبع منها الروح.. الكاتب تناول ذلك بعين السارد المشارك. ومن صفاته التأمل وطرح السؤال. كأن المعطيات المسرودة مطروحة للبحث عن ما يعتمل وراء الأشياء من خفي وسلط… في العلاقات بين الشخوص، وبينهم وبين الدولة في شكل ممثليها (القائد، المقدم..). لهذا تنوعت أوجه الصراع بين الشخوص وقساوة الطبيعة، بين الشخوص والدولة…كما سلف فهذه الرواية حررت نوعا ما الحدث من معالم المكان والزمان. لذا نراها سابحة في التاريخ الحديث بين الماضي والحاضر، سعيا لكشف المفارقات والتبدلات. وهو متخيل ذاتي يسعى إلى التحرر من الأيديولوجي في الرصد. تركيزا على الأحداث الصغرى. الرواية هنا تؤرخ سرديا لما لم يقله التاريخ. فامتد ذلك لصوغ مظاهر الشخوص وهي تعمل وتفعل: في الإحساس، في التفكير، في الاستعمال اللغوى، ما أدى إلى حضور تعدد لغوي طغى عليه الاستعمال الدارج. فضلا عن مقطوعات غنائية شعبية وأقوال موازية.. سمح كل ذلك، بحضور تعالقات عديدة من قبيل تداخل السردي والمسرحي، بين الدارج والفصيح، وقد يجنح ذلك لاستعمال ثالث أو تفصيح الدارج. ومن جهة أخرى تعالق الشخوص والمكان، حتى غدا هذا الأخير امتدادا طبيعيا للشخوص. فكلاهما يدل على الآخر. ضمن هذا الهامش العالق والمتأرجح، سعيا لإضافة البعد الحركي والمشهدي للسرود، بهدف ـ في تقديري ـ الحفاظ على حرارة وطراوة اليومي. كما أن الكاتب من حين لآخر يقيم في السؤال المتعلق بالكينونة بين السلط، بما فيها سلطة الطبيعة كأن بلدة المنجم رقعة مقذوفة لقدرها تصارع من أجل معنى الحياة ومعنى أن يحيا إنسان الهامش بهذه الطريقة (طريقة حياة ووجود أيضا). وهو ما سمح في هذه الرواية بتعالق بين حكاية الواقع وحكاية السرد.
عودة للعنوان وبلاغته، فبلدة المنجم تلك، معروفة بموسم اللوز؛ وأن العمل اختار هذه الفاكهة كاستعارة، تعمق معنى الهوية، أو انغراس الإنسان في المكان، أو ثمار المكان بعد أن يخرج من ظلمات القحط والجدب. ويحيل ذلك بقوة على نصوص غائبة، مجدت هذه الفاكهة بين طعنتين، طعنة الانكسار والفقد. من ذلك ما قاله محمود درويش في «كزهر اللوز وأبعد»:
لوصف زهر اللوز
تلزمني زيارات إلى اللاوعي
ترشدني إلى أسماء عاطفة معلقة على الجدران
وفي معنى متصل بما هو رمزي، يقول نيكوس كازانتزاكيس: «ذلك الصباح قالت شجرة اللوز، حدثيني عن الله؟ فأزهرت شجرة اللوز». يقول سارد «حين يزهر اللوز»: مررنا بمحاذاة المنجم فبدت أهراماته عالية أكثر من أي وقت مضى، وإلى جواره بدا الجبل أعلى، الجبل الذي تحدى شامخا من اعتلاه كمن اعتلى حذوة فرس جامح قبل أن يطوح بالراكب مهشما مثلي ومثل ياسمين، أو مثل السهلي جثة هامدة. لم أكلم العربي ستيام و لم أسع إلى ذلك، بل آثرت أن ألوذ بالصمت. ساهما مسترجعا ما مرّ بي سريعا، كما يمر الآن عبر المرآة الجانبية شجر اللوز الذي كان قد أثمر.
أتت رواية «حين يزهر اللوز»، لتعزز خانة الهامش واقعا وسردا، واقعا من خلال طرح وبعث الرسائل ولو للتاريخ الذي ينام على تاريخه. وسردا من خلال صياغة جمالية غنية بالاستعمالات والتوظيفات، كتعالق المسرحي والسردي، وحضور السجالات والتعاليق، فضلا عن تعدد لغوي، إضافة إلى رمزيات… طبعا وراء هذا العمل رجل نشهد له بالعمل الدؤوب والمقروء المتنوع بين الأدب والفكر. والأعمق والأبقى أن كل ذلك يمتد لأعماله القلقة والمتسائلة. لهذا يمكن فتح عدة زوايا في تناول وحوار عمله المقتدر هذا. من ذلك، فتح هذه الزاوية التي سعت إلى إبراز أضلاع العمل فكرة وصياغة جمالية.
٭ شاعر وناقد من المغرب