نزل البرد قارسا هذه الليلة .
طلـَّتْ من الشبابيك الصغيرة على الفناء ،
فلم تجد نونو أبدا . صعدَتْ درجا رخاميا ضيقا إلى الأعلى ، ففتحت الباب بعد صرير
أزعج الجيران .
ـ نونو يا أمي لم تعد .
ـ وما عساك أن تفعلي ؟
ـ نونو رحلت عنا بعيدا ... يا أمي .
ليس
بالبعيد ولا بالقريب ، غرق الممر المعْتم في سكون قاتم ، إلا من خطوات مترنحة
عائدة كما يؤوب الغياب .
قرأت في بعض القصص القديمة ، عندما تحب
حيوانا أليفا ، إلى حد الجنون ، من الواجب عليك أن تأكله ؛ لأن المحبوب يدخل الجسد
، ويلاعب أمعاءه .
فيتحد الجسد بالجسد ...
مرت فصول وفصول على غياب نونو ، قطتنا
المشاكسة اللعوب ، ظهورها في الساحة والفناء أحدث فرحة وحبورا عارمين . كنت على
بينة من أمري ، أن نونو لا تطيق العيش من دون دلع ، ومن دون رقص على موزار و شوبان
. كانت ذات الرداء الأحمر تجلس إلى البيانو ساعات طوال ، تستحضر ميلودي بيتهوفن
...
وتقلد سمفونيته التاسعة ...
وما أن تصل إلى منعطفاتها الطروب ؛ صاعدة نازلة ... حتى تجيء نونو غـُنْجا
ودلالا ، فتحس ذات الرداء الأحمر بالسعادة تغمر قلبا طاهرا ، بأناملَ من ذهب تزحف
على ما تبقى ... من نوتات وشذرات سمفونية ... هكذا كانت تعيش ، ومن حولها نونو
المِغْناج .
في
ليلة قامرة كانت ممددة على سرير البيت ، فلم تشعر إلا و نونو تلحس راحة يدها
اليمنى ... نهضت ملسوعة تجري ، وتتعاثر في
تلابيبَ طويلة من الفانيلا الرقطاء ، وتصيح :
ـ أمي ... أمي ... نونو تقرأ الكف .
لم تدر ما أحست به الأم ، وهي تتأمل ما تقول
، اسأليها إذن عن مصير أبيك الزعيم . طال الغياب ... وطال الانتظار . عندما يعود ...
أظن أنني سأسمع أنه دُفن منذ ثلاثين عاما ، ركب الأوهام ، انتظر السراب ، فهناك
سقوط وانتظار دائم . خيالي اللجوج يسافر بي كي أعثر على بقايا الحكاية ... فلا
نونو تستطيع أن تملأ حفر الزمن ، ولا تقدر أن تشد عضد هذا البنيان . إذا كان قدره
أن يموت ها هو قد مات ... سعلت شديدا حتى انتفخت أوداجها المهترئة .
تذكرني نونو راقصة بيتهوفن و موزار بعرافة
كوماي ، تلك هي السيبيلا عند جبرا إبراهيم جبرا ، فعالمنا بلا خرائط ، يذهبون ولا
يعودون . وعندما يشتد وطيسٌ تتكلم الموتى من تحت الأجداث . ولا يخافون ، أبدا ، عندما
سيعود الخوف و القـُداد إلى أبيك الزعيم .
فكرت ذات الرداء
الأحمر جيدا ، وقررت أن تفعل ما فعله سالفادور دالي الرسام الإسباني الشهير وزوجته
غالا بأرنبهما الفاتن المدلل ، عندما أكلاه ؛ فالتحم جسد الأرنب بجسديهما إلى
الأبد . فلا أستطيع أن آكل عرافة كوماي ؛ لأنها تعشق الموسيقى ... وإلى الأبد .