بجيدها الطويل ، كسيجارة مالبورو الأمريكية ، كانت سيلفيا تشرئب من شرفتها المطلة على شارع سانتوان دي لا بيري بحي الأندلس . وبالقرب من قنطرة طارق بن زياد ، تقف كرجل واحد ، أشجار نخيل باسقة في شموخ وكبرياء أزلي . فقبل الظهيرة ، كانت سيلفيا تلقي التحايا ، وتوزع ابتسامات مستقيمة ، من ثغر مبسام ، على العابرين في زمن عابر .
تتردد سيلفيا على حي الأندلس ، وهي ذات الأربعة
عشر ربيعا تعلقت بجدها الأكبر ، الذي استقر، منذ أن عاد من حرب الهند الصينية ، بحوافي
ضياعات المروج المطلة على عرائش الصنوبر في غابة المعمورة . ومن خصاصات البيت
الخشبي ، كانت سلفيا تراقب الجد الأكبر ، وهو ممدد على السرير ، يحمل حماما من دواء
لرجْل فقد ساقها في مجاهل غابات تونكين . كالظل كالماء كالشمس كالحياة ، تقف لميمة
فاليري خلف لوحات فان كوخ الشهيرة ؛ " آكلوا البطاطس " و " الأب
تانغي " و " الطائر والقمح " المصلوبة على الجدار الأملس ، وهي تبصر بعينيها
المائيتين والدامعتين بقايا رجْـل ملفوفة في ثوبها القطني الرطب . ما أن يتقلب
الجد الأكبر على السرير حتى تجد لميمة فاليري ، بشعرها الأشمط ، منتصبة كالصفصافة .
هي ذي فاليري المرأة
الحديدية ، المرأة الفولاذية ، بلباسها العريق ؛ بتنورتها المسدولة على جسدها
النحيف ، تطوف أرجاء بيتنا الخشبي ... خببا ، تمشي دائما ، كالخيول البرية المجنونة
. جلبها جدي الأكبر لميمة من أحراش جبال الريف ، تائهة بين عروق المورسكيين
النازحين من غرناطة و إشبيلية ، إثر الاضطهاد الذي تعرضوا له بفعل جرائم القشتاليين
، ومحاكم التفتيش ... هو الحديد والصليب ، إذن ، والنار . والتعذيب . والسحل . في
الساحات العمومية .
لميمة فاليري تعلمت
الأمازيغية بسرعة جنونية في زمن قياسي ، وعشق أبدي للريف . كانت تنظر إلى جدي
الأكبر كالمنقذ من الضلال ، وتحب دائما أن تناديني باسم الدلع والشوق و الصبابة :
ـ سيلفي ... سيلفي ... يا نوارة الشمال .
بالشمال أكثر كان مرتعنا أكبر
، ونحن صبايا و ولائد صغار ؛ على طول الخط ، الذي يربط بين تطوان والخميس أنجرة ، كنا
نقف عند مزرعة خيول برية جنب الرصيف ، وتبدأ فاليري من خلف الحواجز و المتاريس
الخشبية ، بموال عشق وصبابة لذات الحوافر الذهبية ، وهي تركض في الجنة بين أشنة و
غياض . تقول ببحة صوتها الدافئ الوهج :
ـ " زوادة ... زوادة عمري ...
ـ نسيتك بالأندلس ... وها أنت ... في مرمى حجر من عيوني ...
ـ نسيتك صغيرة ... وعشقك صار أكبر ... كالجبل الجليدي العائم "
قالت لي :
ـ الحلم فيك يكبر يا سيلفي .
بهذا الحي الذي يطل على
ساحة النصر ، كان مستقر جدك الأكبر بين القديسين والشرفاء . فبعد ما تأثر بمرضه
جراء القذيفة اللعينة ، التي أصابته في الحرب المدمرة ، حملناه على وجه السرعة إلى
العين الحمراء ، في مجاهل الريف ، حيث تذرف في سخاء ماءها كالدم القاني . عند نزولنا
في منعرجات الجبال الوعرة ، كانت المنحدرات تشي بالجبروت والقساوة . نفسه الحارة والباردة تزفر داخله
وتتحشرج كوعل مذبوح ، ما أن استنشق هذا الأريج ؛ رائحة الزعتر الساخنة الفائحة ، والشيح
البلدي الذي غطى سفوح وقنة الجبال ، حتى
عادت إليه الروح ، التي غادرته إلى حين .
في زفرات الريح ... وهبوبها
.
مطين هذا المكان ، يستقبل
العرين بالنصر ، يستقبل هذه الأضواء البعيدة على مشارف التيه . في المنحدرات ، في
قلب التاريخ ، هذه سيلفيا ترتدي معطفها الأسود ، وشالا أسودَ أيضا ، وقبعة مكسيكية
تخفي ملامح وجهها الأندلسي ، تنظر إلى الحفرة في مقاس جدي الأكبر ، هي التي
ستستقبله ... تحتضنه إلى الأبد .
مع الفقيه تردد كلمات وتتمتم
. بما يرفع بها عقيرته ... من الذكر
الحكيم ... وبين الفينة والأخرى ، يبتسم الفقيه
على ثنيتين فضيتين ... ويرحل .