-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

قصة قصيرة جدي الأكبر ... ومجاهل النسيان - ذ . رشيد سكري


 بجيدها الطويل ، كسيجارة مالبورو الأمريكية ، كانت سيلفيا تشرئب من شرفتها المطلة على شارع سانتوان دي لا بيري بحي الأندلس . وبالقرب من قنطرة طارق بن زياد ، تقف  كرجل واحد ، أشجار نخيل باسقة في شموخ وكبرياء أزلي . فقبل الظهيرة ، كانت سيلفيا تلقي التحايا ، وتوزع ابتسامات مستقيمة ، من ثغر مبسام ، على العابرين في زمن عابر .

   تتردد سيلفيا على حي الأندلس ، وهي ذات الأربعة عشر ربيعا تعلقت بجدها الأكبر ، الذي استقر، منذ أن عاد من حرب الهند الصينية ، بحوافي ضياعات المروج المطلة على عرائش الصنوبر في غابة المعمورة . ومن خصاصات البيت الخشبي ، كانت سلفيا تراقب الجد الأكبر ، وهو ممدد على السرير ، يحمل حماما من دواء لرجْل فقد ساقها في مجاهل غابات تونكين . كالظل كالماء كالشمس كالحياة ، تقف لميمة فاليري خلف لوحات فان كوخ الشهيرة ؛ " آكلوا البطاطس " و " الأب تانغي " و " الطائر والقمح "  المصلوبة على الجدار الأملس ، وهي تبصر بعينيها المائيتين والدامعتين بقايا رجْـل ملفوفة في ثوبها القطني الرطب . ما أن يتقلب الجد الأكبر على السرير حتى تجد لميمة فاليري ، بشعرها الأشمط ، منتصبة كالصفصافة .

  هي ذي فاليري المرأة الحديدية ، المرأة الفولاذية ، بلباسها العريق ؛ بتنورتها المسدولة على جسدها النحيف ، تطوف أرجاء بيتنا الخشبي ... خببا ، تمشي دائما ، كالخيول البرية المجنونة . جلبها جدي الأكبر لميمة من أحراش جبال الريف ، تائهة بين عروق المورسكيين النازحين من غرناطة و إشبيلية ، إثر الاضطهاد الذي تعرضوا له بفعل جرائم القشتاليين ، ومحاكم التفتيش ... هو الحديد والصليب ، إذن ، والنار . والتعذيب . والسحل . في الساحات العمومية .

  لميمة فاليري تعلمت الأمازيغية بسرعة جنونية في زمن قياسي ، وعشق أبدي للريف . كانت تنظر إلى جدي الأكبر كالمنقذ من الضلال ، وتحب دائما أن تناديني باسم الدلع والشوق و الصبابة :

ـ سيلفي ... سيلفي ... يا نوارة الشمال .            

   بالشمال أكثر كان مرتعنا أكبر ، ونحن صبايا و ولائد صغار ؛ على طول الخط ، الذي يربط بين تطوان والخميس أنجرة ، كنا نقف عند مزرعة خيول برية جنب الرصيف ، وتبدأ فاليري من خلف الحواجز و المتاريس الخشبية ، بموال عشق وصبابة لذات الحوافر الذهبية ، وهي تركض في الجنة بين أشنة و غياض . تقول ببحة صوتها الدافئ الوهج :

ـ " زوادة ... زوادة  عمري ...

ـ نسيتك بالأندلس ... وها أنت ... في مرمى حجر من عيوني ...

ـ نسيتك صغيرة ... وعشقك صار أكبر ... كالجبل الجليدي العائم "

قالت لي :

ـ الحلم فيك يكبر يا سيلفي .

    بهذا الحي الذي يطل على ساحة النصر ، كان مستقر جدك الأكبر بين القديسين والشرفاء . فبعد ما تأثر بمرضه جراء القذيفة اللعينة ، التي أصابته في الحرب المدمرة ، حملناه على وجه السرعة إلى العين الحمراء ، في مجاهل الريف ، حيث  تذرف في سخاء ماءها كالدم القاني . عند نزولنا في منعرجات الجبال الوعرة ، كانت المنحدرات تشي بالجبروت  والقساوة . نفسه الحارة والباردة تزفر داخله وتتحشرج كوعل مذبوح ، ما أن استنشق هذا الأريج ؛ رائحة الزعتر الساخنة الفائحة ، والشيح البلدي الذي غطى سفوح  وقنة الجبال ، حتى عادت إليه الروح ، التي غادرته إلى حين .

   في زفرات الريح ... وهبوبها .

  مطين هذا المكان ، يستقبل العرين بالنصر ، يستقبل هذه الأضواء البعيدة على مشارف التيه . في المنحدرات ، في قلب التاريخ ، هذه سيلفيا ترتدي معطفها الأسود ، وشالا أسودَ أيضا ، وقبعة مكسيكية تخفي ملامح وجهها الأندلسي ، تنظر إلى الحفرة في مقاس جدي الأكبر ، هي التي ستستقبله ... تحتضنه إلى الأبد .

مع الفقيه  تردد كلمات وتتمتم . بما يرفع بها عقيرته  ... من الذكر الحكيم ...  وبين الفينة والأخرى ، يبتسم الفقيه على ثنيتين فضيتين ... ويرحل .      

                                                                                                                         

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا