مقدمة
عندما نتحدّث عن “الأغنية” العربية، أو الموسيقى العربية عمومًا، فلا يكون الحديث بعد مارسيل خليفة كما كان قبله؛ هي مسيرة أربعين عامًا من الإنتاج المُثابر، الغنيّ والمتنوع، الذي قد نحبه وقد نختلف فيه أو عليه، لكن، ما من أحدٍ يُمكن أن يتغافل عن هذا الحضور الذي يضجّ بصمته، ويصرخ بأناقته، ويُقاوم بحنانه.
من “الالتزام” بالحالة الجماعيّة إلى الرّهان على الذات، هي مسيرة مارسيل. وربما هي مسيرة جيلٍ بأكمله، أرهقته السياسة، وأثقلته الحروب، وخذلته المقولات الكُبرى والشعارات الرنّانة. فمن “الأغنية” المعفّرة بغبار الحرب، إلى تأليف الموسيقى الآليّة الصّامتة الأنيقة، ومن الصوت الواحد ونقرة العودِ يُخاطبُ الجموع والقضايا “الكبرى”، إلى جموع الكورال والأوركسترا يهمسُ بها في أذن الإنسان وفردانيّته؛ ومن “صوتٍ” يُخاطب جماعةً تعيش بصيغة المُفرد، إلى صوتٍ مُغترب يُخاطب الإنسان الفَرْدَ الذي يحيا بصيغة المُتعدّد.
في زمن “الما بعد”؛ مابعد الحداثة، وما بعد الكولونياليّة، “يتورّط” مشروع مارسيل الموسيقي، كغيره من المشاريع الفنية الأخرى، كلٌّ على طريقته، بالأسئلة الهامة التي يطرحها علينا هذا العصر: أسئلة التفاوض والهجانة والأصالة والبَيْنيّة وهجرة المفاهيم واستنبات الموروث وإعادة تموضُع الهُويّات في “حيّزها الثالث”، ربما، بحثًا عن “أصالةٍ” ما في بريّة الوجدان الإنسانيّ قبل كلِّ أصالةٍ هي بالضّرورة هجينة.
يقول دَسْتَيِفْسْكي: “من السّهل أن تُحبّ البشريّة، لكن من الصّعب أن تحبّ إنسانًا بعينه”. ويقول مارسيل: “عمرُ “الالتزام الفني” قصيرٌ، لأنه يتوخّى من السياسة أكثر ممّا يتوخّى من الإنسان، ويستهدف المجموعَ المُبهمَ أكثر ممّا يستهدف الفردَ المتعيّن”.
سوف أكتب عن نصوص مارسيل الموسيقية وعن مشروعه المتنوّع لاحقًا. ولكي أترك المَتْنَ هنا له، فلا أزاحمه، سأكتفي بإفشاء سرٍّ واحد من كواليس هذا الحوار: مارسيل قلقَ من الحوار، وأنا أكثر منه. فمن جهته، يسألني: “هل تخشى، مثلي، أن يشي هذا الحوار ببَوْحٍ…؟”، ومن جهتي، أتساءل: كيف يحاور الشخصُ قطعةً من وجدانه؟ كيف يحاور الموسيقيُّ الموسيقيَّ بلغةٍ غير الموسيقى؟ كيف يكون عفويًا صادقًا دون أن يسقط؟
أردته حوارًا موسيقيًّا علميًّا موضوعيًّا، يرتدي نظارة سميكة، يُعنى بالنصّ لا بالشخص. فهزمني النصُّ، وهزمني الشّخص.
“أكثر ما كان يعنينا هو إنسانية الحوار، لا استحضار المهارة”، هكذا أراده مارسيل المُتعب من الأسئلة والأجوبة الجاهزة؛ أراده “عودةً إلى الدّيار”، لا غربة جديدة.
أرسلت إلى مارسيل مجموعة من الأسئلة الأوّلية، وهو العالق في “جزيرته النائية” منذ بدء الجائحة. وعادت إليّ الإجابات، عادت “مُستشهدة” – مُستشهدةً بذاتها المعتّقة، خالعةً ثياب الأسئلةِ كلّها، متحرّرة من كلّ قيد؛ عارية مزمّلة، مشتّتة متماسكة، ثابتة متحوّلة، تارةً تحسبها شيخًا لم يُغادر بيته يومًا، وتارةً تجدها تائهة مُغتربةً ناقصةً كمن لا وطن له غير المنافي؛ إجاباتٌ، لا تتناسج الأفكار فيها إلا بخيوط الوجدان والذاكرة، ولا تتشابك إلا بأشعة العفويّة والطفولة والوفاء، ولا تتحابك إلا بكثيرٍ من الخيباتِ، وأكثر منها الآمالُ، وعدم الاستسلام…
في هذا الحوار، لم أجد فرقًا بين مارسيل المتكلّم ومارسيل الموسيقيّ، فتأكّدت أن الصّدقَ سيّدُ الحضور.