يتعلّق السؤال الذي أثيره بصيغة الاستفهام “هل انتهى اللاهوت السياسي؟”، بـ السلطة السياسية. ينبغي إذن تعريف وتحديد موقع السلطة السياسية بالنسبة إلى كلّ السلطات الأخرى. سيكون هذا موضوع القسم الأوّل.
السلطة السياسية: التبعيّة والتنسيق
يوجد مشكل السلطة حينما يتطلّب اشتغال تنظيم ما، وضع مراكز مسؤولية، ونفوذ وقرار تشغلها شخصيات مسخّرة لعمل هذا التنظيم. لقد مكّنتنا حصصنا السابقة المخصّصة لظاهرة التركيب complexité(1) من الوقوف على تنوّع كبير لمثل هذه التنظيمات. وتؤكّد سوسيولوجيا التنظيمات في هذا الصدد على خاصيّتين: الطابع السيستيمي للتنظيمات، أي حقيقة أنّ لعلاقات التنسيق والتبعيّة قوانين عملها الخاصّة، المستقلّة عن معيش المنفّذين والأعوان والفاعلين الاجتماعيين- وتعاش شخصيا كما بين- شخصيا interpersonnel . هكذا يمكن أن نتحدّث عن النظام التقني، والنظام الحقوقي والنظام البيروقراطي والنظام الاتّصالي، والنظام البيداغوجي، بل عن النظام العلمي، من حيث أنّ تخصّصات المعرفة مؤطّرة ضمن مؤسّسات لها قواعد نفاذ وترقية وتوقّف لكلّ مواقع النفوذ. ويخصّ الطابع الثاني وضع مواقع أو مراكز مسؤولية، ونفوذ وقرار يحتلّها كما ذكرنا، أشخاص مسخرين لخدمة … تطرح مسألة السلطة في هذه النقطة من التمفصل بين الطابع السيستيمي ومواقع النفوذ والمسؤولية. وأول ما نلاحظه، هو طابع التحكّم، والطابع التراتبي الذي يجعل من السلطة سلطة على: سلطة أولئك الذين ، بطريقة أو بأخرى، يمثّلون ما يعتبر نظاما système، سلطة تمارس على الفاعلين الاجتماعيين بوصفهم منفّذين. لكن لا يجب على هذا الطابع التراتبي والعمودي نوعا ما ، أن ينسينا الطابع الآخر، الأفقي إن جاز القول، أي التنسيق بين الأعمال coordination وتوجيه هذه الأعمال نحو اتجاه واحد- وباختصار، جماعة الهدف communauté d’objectif . و ستلعب فكرة المحور المزدوج، دورا مركزيا في عرضي: فكرة محور عمودي للتبعية– تبعيّة الإرادات- وفكرة محور أفقي للتنسيق – تنسيق الأعمال والغايات. ولكي أختزل، سأتحدّث عن سلطة – على وعن سلطة – مع pouvoir – sur et pouvoir – avec .اتضحت إذن المسألة التي ستأخذ مع السلطة السياسية أهمية محوريّة، أي مسألة أولويّة أحد المحورين على الآخر، والعلاقة التراتبية أو علاقة التعاون. وتأخذ مسألة المحورين الاثنين للسلطة، بالمرور من التنظيمات عموما إلى التنظيم السياسي، شكلا خاصّا ومتفرّدا تصبغ على أولوية المحور العمودي أو الأفقي طابعا مأساويا حيث سيندسّ سؤالنا عن اللاهوت السياسي.
يحمل التنظيم السياسي إسما، هو الدولة، وهنا أنقل تعريف الفيلسوف إيريك فايل لها:” الدولة هي تنظيم جماعة تاريخيّة؛ قادرة، بوصفها منظّمة في دولة، على اتخاذ قرارات”. (2)
يشير التعريف إلى شيئين : 1)- جماعة تاريخية، ( إذن جماعة) تجمع في أرض كلّ التنظيمات التي ذكرنا، والتي تصبح ببساطة جزئية؛ وفي المقابل (لها) بعد تاريخي: (هي) نتاج تاريخي، لآدابها وتقاليدها(وبالتالي) جانب إيتيقي- ثقافي. 2)- جماعة قادرة على اتخاذ قرارات ( إذن مع ) طابع إرادي ، إرادوي volontariste ، شبيهة بممثّل فردي فاعل على ركح العالم. يتضّح هذا الطابع الأخير في الأزمات والحروب، ويستوحي من كارل شميت: نتعرّف على الدولة من قدرتها على القرار في وضعيات قصوى.
يجعلنا هذا التعريف نتوقّع أولويّة العلاقة العمودية للتبعيّة على العلاقة الأفقية للتنسيق أو التعاون. لماذا؟ لأنّ مشكل السيادة souveraineté، أي السلطة العليا، هو وحده يطرح مشكلا مخصوصا،:” السيد، كما يقول روبار(3) هو من لا يتبع في مجاله أحدا”. ليس من الغريب إذن، أنّ يعرّف الرابط السياسي، في كلّ تاريخ الفلسفة السياسيّة، بالهيمنة domination. يميّز أرسطو إذن ( وهو أولّ من نظّر للسياسة، بعد أفلاطون) بين الأنظمة الثلاث القابلة أن تعاش على صعيد الهيمنة : هيمنة الواحد، وهيمنة البعض وهيمنة الجميع (تعني الجميع، البشر الأحرار ما عدا العبيد والغرباء). إنّ المسألة الوحيدة هي في تمييز الهيمنة السياسيّة عن الهيمنة – استعباد ( سيد- عبد) أو خادم ( سيد البيت- أهل البيت). فالافتتان شبه الحصري بمسألة الهيمنة هو جدّ قوّي بحيث أنّ الجميع ، وقريبا منّا أكثر، – وأتجاوز هوبس، ماكيافللي وهيجل وماركس، منشغل بسلطة الهيمنة -، يعطي مفكّر جدّ مستنير وليبيرالي كـ ماكس فيبر، في بداية هذا القرن، هذا التعريف القويّ:” الدولة علاقة هيمنة(Herrschaft) الإنسان على الإنسان، تقوم على توسّط العنف الشرعي”.(4) حقيقيّ أن الدولة الحديثة، المُعَسْكرة، تعترف بهذا، كونها قد سحبت من الأفراد الحقّ، بل والوسيلة والقدرة على أن ينصفوا أنفسهم بأنفسهم، وعلى الانتقام؛ وفي هذا المعنى فإنّ مصادرة الدولة للعنف الشخصي هو معيار حَسَن للدولة التي نقول عنها دولة الحقّ. إذ لا يستطيع التشريعي والقضائي، حتّى في الأنظمة السياسيّة التي تدّعي الفصل بين السلطات، وبالتالي تعدّدية في رأس الدولة، أن ينفّذ قراراته، ولا فرضها إلا من خلال الذراع المسلّحة للدولة، الماسكة بزمام العنف الشرعي في نهاية الأمر ودون رجعة. هنا يتمظهر الطابع المميّز:”تابع لشخص”. وليس لأنّه وقع تجاهل المحور الأفقي، بل إنّه لأنّه تابع بوضوح للمحور الأفقي للهيمنة. يُجسّد هذا في تاريخ أقدم الدول- الأمم للغرب في كون الأمّة، بما هي خلاصة كلّ العلاقات الأفقية ، بل أيضا حيّز التقاطع لكلّ السلطات الأخرى، هي إلى حدّ بعيد، اختراع الدولة. لكن حينئذ أطرح السؤال : ألا يكون اللاهوت السياسي أخذ اتجاها سيئا منذ البداية، بالتموقع في الجانب الوحيد للعلاقة التراتبية للهيمنة، التي كان مطلوبا من الدين أن يحمل إليه نفوذا إضافيّا، مشروعية بدونها ينقصه الضمان والتأسيس؟
لا أنكر أنّه من الصعب الخروج من هذه الإشكالية القديمة آلاف السنين؛ فنحن لم نشهد قطّ السلطة السياسية تشتغل على قاعدة القبول المتبادل لإرادة العيش معا. فكلّ شيء يحدث كما لو ، ونتيجة للسيادة ، أنّ السلطة السياسية تعني أولويّة الرابط العمودي على الرابط الأفقي، أولوية الهيمنة على التعاون أو المشاركة. ولدينا علامة على هذه الضرورة الظاهرة في الدور الذي تلعبه فكرة النفوذ autorité في الإطار السياسي. يبدو لي النفوذ مفهوما مختلطا، نتعرّف فيه على سمات تراتبيّة تربطه بالهيمنة وسمات مساواتية égalitaires تربطه بإرادة العيش معا. فمن جهة، يبدو النفوذ قادما دوما من بعيد ومّما هو أعلى من الممارسة التاريخيّة الراهنة للسلطة. يحلو للرومان هكذا القول:” السلطة في الشعب ، والنفوذ في مجلس الشيوخ”(5). مجلس الشيوخ يعني القدماء ، والأقرب فالأقرب، أو بالأحرى من الأقرب إلى المتباعد حتّى تأسيس المدينة Ville، كما لو أنّ طاقة البداية تُتَبادل من الأصول حتى اليوم، مانحة السلطة نفوذ تقليد القديم. وهذا جدّ حقيقي إلى حدّ أنّ كلّ سلطة في مسار التاريخ تستند إراديا إلى سلطة سابقة. ألم يستند ثوريونا، من دانتون إلى مارات، سان جيست وروباسبيار، إلى الرومان مثلما نقول بأنّ روما الثالثة تستند إلى الثانية والثانية إلى الأولى والأولى إلى الإمبراطورية الإسكندرانية، التي تستوحي بدورها من الحكم المطلق الآسيوي؟ ومن جهة أخرى لا أنفي الطابع الآخر للسلطة: ما من سلطة تقرّ بقيمة شيء غير معترف به، وأعني عدم الاعتراف بتفوّقه عليها. نقول عن عيسى بأنه يتكلّم عن نفوذ، غير أنّ هذا النفوذ لا يتميّز عن الإرغام إلاّ بالاعتراف الذي يمثّل قرار تلامذته بإتّباعه- ما يعبّر عنه الألمان ب”Nachfolge“- الطاعة للأمر” أنت، اتبعني”التي يضمنها الالتزام والمسؤولية، والجسارة وأخيرا شهادة الشهيد ( ) 6) témoignage du martyr.
يوجد هنا شيء جدّ محيّر يبدو أنّه متّصل بطبيعة السلطة السياسية، أعني أن تكون إحدى قواها هو أن تمنح ديمومة واستمرارية للأشياء الإنسانية كثيرة الانفلات والهشاشة. غير أنّه لو ردّت السلطة إلى إرادة العيش معا أو التعايش، لكانت هي بذاتها مفرطة في الهشاشة أو الضعف: يكفي النظر في سرعة انهيار أمّة حينما تغيب إرادة العيش معا. ينضاف إلى هذا أنّ إرادة الاستمرار في العيش معا تمرّ عادة دون التفطّن إليها؛ إنّها إذن جدّ خفيّة، و جدّ متوارية حتّى صارت مجهولة، كمنسيّ. لأجل ذلك لزم الدعم المرئي للنفوذ الذي، حسب الاشتقاق اللاتيني لكلمة auctoritas من الكلمة اللاتينية augere،” زيادة” “augmenter”-، زيادة السلطة، وحمايتها من الانحلال. على هذا النحو تبدو كل سلطة تساعد على إقامة كل فلسفة السّياسة على محور أساسي للهيمنة.
اللاهوت السياسي ونهايته: المَلِك عَاٍر
يفسّر هذا الضعف الحميمي للسلطة السياسية، حتّى في اللحظة التي تعلن فيها ذاتها صاحبة السيادة souverain، أي الأسمى، لا يعلوها أيّ إنساني، أنّ البشر يلجئون إلى الدين كي يمنحوا السيادة الأساس الذي تفتقر إليه من داخل.
أفصح في بداية هذا الجزء الثاني عن الاتجاهات. إنّ الأطروحة التي أودّ الدفاع عنها هو أنّ التصوّر اللاهوتي للسلطة الذي هو بصدد الموت، هو تقريبا متمحور حصريّا في أولوية علاقة الهيمنة على علاقة المشاركة أو التعاون. وإذا كان هذا هو الحال حقّا، فلن تكون نهاية اللاهوت السياسي هي الكارثة التي يرثى لها أعداء الحداثة والتي يحتفي بها المابعد- حداثيين.
لقد قام اللاهوت السياسي المهيمن منذ القديس أغسطينوس، وهذا أمر واقع، على تأسيس السيادة السياسية على السيادة الإلهية، التي يُعبّر عنها غالبا بوصفها تمام القدرة أو السيادة seigneurie ، في اللغة المعتادة لكالفان والكالفانيين حتّى كارل بيرث وهو أحدهم. ولا يتعلق الأمر هنا بفترة محدودة نسبيا من التاريخ السياسي للغرب، أي المَلَكِية المطلقة للحق الإلهي، بل بجوهر قديم يمكن أن نقول عنه بحذر، إنّه أسطوري أو إيديولوجي ونجده ماثلا لدى إمبراطوريات الشرق الأوسط القديم، المصري أوالميزوبوتاميان، والكنعاني، والهيتيتي والفارسي. إنّ سيادة الإنسان هي بطريقة أو بأخرى، ممثّلة، لا بل تمظهر للقدرة الإلهية: إله على الأرض، هذا هو اللاهوت- السياسي في حالته الخام. بيد أنّه- وهنا أحد ألغاز التاريخ الكبرى-، بقدر ما تتغيّر الظروف الاقتصادية – الاجتماعية والفكريّة عبر الزمن ، تميل بنية أساس السياسي إلى المثابرة وتكرار نفسها. هكذا إذن عند انهيار المدينة الإغريقية، تبنى الإمبراطورية المقدونية لفيليب وخاصة لإسكندر على نفس الأسس اللاهوتية- السياسية التي يضمنها إله سلطة السيد للملك.
يجب أن نمرّ من الاسكندر إلى القياصرة، ومن قياصرة روما الأولى إلى قياصرة بيزنطا، وإلى قياصرة موسكو. وفي الغرب، كانت مُهمّة الأطباء الشرعيين لفيليب لوبال، ثمّ الاستشاريين القانونيين للقرن 16 م و17م، هي صناعة – و لا أجد كلمة غير هذه- لاهوت لغرض مخصوص، والذي كان مشكله تربيع الدائرة بما هو : كيف يمكن استخلاص قوّة الملك من جبروت الإله دون المساس بتعالي الإله و بجبروته؟ نلحظ إذن الدروس التي يقدّمها بوسيي Bossuet للدلفين، الجمع بحذق بين التواضع المناسب لسيد مسيحي والسلطة العليا التي يستلزمها التواضع بدقّة. (7) نجد في النسخة الأنجليزية للأطبّاء الشرعيين لإليزابيت 1، مذهبا غريبا جعله كانتوروويسز Kantorowicz معروفا، ويتعلّق بجسمَيْ الملك، أحدهما منيع بمعنى أبدي، والآخر فان بمثل أي جسد. لقد لعبت تأمّلات من هذا القبيل دورا في النقاش حول قتل الملك régicide وعدم قابلية شخص الملك ذاته للعطب. (8) في النسخة الفرنسية وبالخصوص انطلاقا من إبطال مرسوم نانت Nantes، مثلما بيّنته اليزابيت لابروس وجانين قاريسان(9)، يقع استبدال إجراءات حسنة كما يقال، بين الكنيسة الكاثوليكية والملكية، تمنح الأولى- مسحها onction الظّاهر فيزيائيا- وتمنح الثانية القوة المرغمة السلطة المدنيّة للنفوذ الكنسي. وتظلّ قدسيّة الملك راسخة في الأذهان إلى حدّ بدا فيه الحكم بالإعدام على الملك لويس الثامن، لأولئك الذين أقرّوا بذلك ونفّذوه ، بمثابة انتهاك للحرمات أو ترجيس. وكان لابد أولا من إزالة المَلَكية حتّى يصبح بالإمكان اتّهام المواطن كابات Capet، غير أنّ الهالة القدسية ظلّت تحوم حوله وفوق رأسه، حتّى أن روباسبيار وسان -جيستSaint -juste لم يقدرا على منع الشعب من استعادة مَلِكِهم على حافّة الموت في صورة المسيح الشهيد. لن أضيف شيئا في خصوص الوظيفة الايديولوجية لللاهوت السياسي.
ما سيأتي يستحق الانتباه. ما أودّ بيانه- وأطرحه للنقاش بيننا-، هو أن الأطروحة المذكورة سابقا، أي بقاء انقلاب اللاهوت السياسي، بشكل أساسي، ثورة داخل علاقة الهيمنة. الشعب حلّ محلّ الإله، لكن كمصدر للسيادة، دون أن توضع بالأساس العلاقة العمودية للهيمنة والرابط الأفقي للتعاون، موضع شكّ. هذا ما سأحاول الآن بيانه، بغاية الوصول إلى السؤال الذي هو في النهاية رهان الجزء الثالث من مداخلتي- أي السؤال عن معرفة ما إذا لم يكن للجماعات المسيحيّة بممارستها الخاصّة للسلطة ، دورا في تعديل الميزان بين الهيمنة والتعاون. ولكن ما يشغل أولا البرهنة التي تحتل كامل هذا القسم الثاني، كون اندحار اللاهوت السياسي يظلّ في حدود تصوّر للسياسة يبقى على نحو واسع في حدود تصوّر للسياسة متمحورا أساسا حول علاقة الهيمنة. ولنتناول نظريات التعاقديين، هوبس وروسّو. يتعلّق الأمر للوهلة الأولى بتأسيس علاقة الهيمنة على علاقة أفقيّة: اعتبار التعاقد كفعل افتراضي، فرضي وخيالي، بواسطته يتّفق أعضاء جماعة على نقل حقوقهم المسمّاة طبيعيّة التي يملكونها قبل التعاقد، لفائدة صاحب سيادة.
نعم: لقد حلّ التعاقد محلّ التفويض الإلهي، وفي هذا المعنى، حلّ الشعب محلّ الإله.هذه هي نهاية اللاهوت السياسي. ولكن- بالنسبة إليّ ، المقابل هو الأساسي: وظيفة العقد، غائيته هي تأسيس العلاقة العموديّة للهيمنة، على نحو أمتن، وغير قابل للنقاش أكثر و أكثر شفافية للأذهان. الأمر واضح لدى هوبس في اللافياتون. الجميع متّفقون على التخلّي عن قوّتهم وحقوقهم – وهو نفس الشيء- لفائدة طرف ثالث خارج التعاقد، هو الملك. لماذا؟ لأنّ الغائية السياسية المهيمنة ليست الحريّة، بل الأمن، والخوف من الموت بوصفه الدافع الأقصى للدخول في الجسم السياسي.ربّما قلتم لي إنّه لم يوجد لدى روسّو طرف ثالث خارج التعاقد، هوالملك، لا أحد فوق الشعب، وإنّ غائية التعاقد ليس الأمن بل الحريّة. هذا صحيح: روسو ليس هوبس. ولكنّ السيادة ليست وقفا على إرادة متعالية هي متأتّية من جمع إرادات فرديّة. إنّها امتياز الإرادة العامّة متأتيّة من تنازل ، وتخلّي كلّ فرد عن إرادته. أقرأ صياغة العقد الاجتماعي: ” يضع جميعنا شخصه وكامل قدرته تحت القيادة العليا للإرادة العامّة؛ ليكون كلّ عضو بمثابة جزء لا ينفصل عن الكلّ.”
الشعب حلّ محلّ الإله. هو ذا نهاية اللاهوت السياسي.
من هنا كانت المفارقة التي يحوم حولها تفكيري: يظلّ رفض الأساس اللاهوتي للسلطة السياسية حبيس حدود نظرية هيمنة هي في الظاهر لاتتغيّر. لم يعد الإله هو الأصل بل الشعب. غير أنّ ما هو مؤسّس، هو السلطة بوصفها هيمنة، أي علاقة تراتبية للسلطة، علاقة إرادة مهيمنة بإرادة مهيمن عليها، وإذن علاقة تبعيّة.
هل علينا إذن أن نتخوّف من نهاية اللاهوت السياسي إذا ما كان اللاهوت السياسي هو تكليف منحته فكرة الجبروت الإلهي لطموح الجبروت الإنساني القائم في علاقة الهيمنة؟ ألا يجب بالأحرى اعتباره مكسبا، كون الديمقراطية المعاصرة، لا تتجاوز الأساس الديني فحسب بل تطعن فيه؟ ها هي السلطة بوصفها هيمنة قد أضحت عارية، وردّت إلى بعدها الإنساني، المفرط في الإنسانية. أتفق في هذا الصدد تماما مع هذه الفكرة عن الديمقراطيّة لأحد كبار علماء السياسية عندنا، وهو كلود لوفور،: ستكون هذه ( أي الديمقراطية ) أوّل نظام سياسي سيّء التأسيس، أو بالأحرى غير المؤسّس، وبالتالي عرضة باستمرار لأزمة الشرعية.(10) وهذه الأزمة للشرعية هي الطابع السياسي للظاهرة العامّة للعلمنة أو الدهرنة sécularisation: وقد يقال لنا إنّه بمثل ما تجاوز العلم الدين، رفضت السياسة أيضا وصاية النفوذ الكنسي ومن وراء هذه الوصاية، كفالة الجبروت الإلهي. الملك عار. والملك العاري ليس ملكا، وفي المعظم هو مدبّر ضعيف لشؤون بشرية.(…..)
يميل الداء السياسي بوصفه هيمنة ،إلى الجبروت.
إنّ خلاصة هذا النقد…للحلم السياسي للجبروت، هو ردّ السياسي إلى مقياس الأشياء الإنسانية ، المفرطة في الإنسانية.(…) ردّ السياسة إذن إلى مسؤولية البشر، مع ما يتصل بذلك من خطر سلطة سياسية سيئة التأسيس، لأنّها مؤسسة ذاتيا بواسطة المصادر الوحيدة للنفوذ المريب، ومنتزعة من الأسس القديمة ، وشيئا ما أسطوريّة.
* هذاالمقال جزء من نص مداخلة لبول ريكور. 1992 ( مجلة فكر -جانفي – فيفري 2021 عدد 471
الإحالات:
1- إشارة إلى حصص سابقة حول البعد التركيبي للسلطة
2- إيريك فايل ، فلسفة السياسة باريس فران 1956 ص 131
3- معجم روبار
4- ماكس فيبر “مهنة وشغف رجل السياسة” 1919 ” العالم والسياسي” ترجمة جوليان فرند باريس بلون 1959 ص 101
5- سيسرون – مقالة في القوانين 3، 12،38
6- إشارة إلى كتاب ديتريش بونهوفر :” ثمن العفو” 1937
7- أنظر جاك بينينيو- سياسة مستخلصة من كلمات الكتاب المقدس ،.
8-إشارة إلى ارنست كونتوروفيسك ” جسما الملك ، محاولة في اللاهوت السياسي في القرون الوسطى، 1957
9- انظر إليزابيت لابروس” إيمان ، قانون، ملك” ..” باريس جينيف 1985
10- إشارة إلى كلود لوفور ” الاختراع الدجيمقراطي ، حدود الهيمنة الكليانية” باريس فايار 1981