-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

ممكنات الأدب - ذ . رشيد سكري


مع الرواد تجَددت فنون الحكي ، وبهذا اكتسحت القصة القصيرة ، كجنس أدبي حديث النشأة ، عوالم السرد ومستوياته وأشكاله . إنها لم تعد مجرد نقل لأحداث واقعية وعابرة ، يعيشها الإنسان ، ويتنفسها في اليومي ، بل استطاعت أن تزيح قشور الظلم الإجتماعي ، وتعري عبر التاريخ ، واقع الهذيان والاستبداد في العلاقات الإنسانية ؛ وأخيرا أن تخلق عالما من الألفة مع الذات و الواقع . تسافر ، بنا ، القصة القصيرة عبر الزمن الثقافي ، وما يكتنفه من تطورات وإبدالات  . فمع نيكولاي غوغول ، خلال القرن التاسع عشر ، بدأت القصة تتخلى عن عباءتها النمطية في البناء والتشييد والعمران ، فدخلت إلى عالم الحرية من أبواب متفرقة . لم يعد فيها الزمن زمنا حقيقيا ، ولم تعد الأحداث أحداثا ، ولا المكان مكانا ، ولا الفضاء فضاء ؛ عالم من الهذيان والتيه .

     مع غوغول دخلنا عالما استعاريا كبيرا مغريا وجذابا ، عندما تجاوزت القصة بناءها العمودي والكلاسيكي ؛ المتمثل في بداية وعقدة وحل . فغوغول أرسى عوالم هذا الفن الرائع .  وبهذا يعد عالم القصة القصيرة ، من خلال رائعته " المعطف " ، فاتحة لمستغلق الحكي ، خصوصا على مستوى البناء السردي ، الذي أثبت فيه غوغول صناعته القصصية ؛ إن اختيار الحدث والزمن والمكان والشخصيات الرئيسة والثانوية ، خدمة للرؤية التي يؤمن بها نيكولاي غوغول ، الغاية منه هو التعبير عن البؤس والألم والفقر . الشيء الذي ألهم ديستويفسكي ، عندما قال : إننا خرجنا من معطف غوغول . وفي هذه القولة رسالة وصف واضحة لواقع موبوء ينتظر الكشف ، وملئ بالأماني  والحسرات ، بالمقابل لازال هناك سقوط وانتظار وأمل في نهاية سرداب مدلهم . يتربص الفقر والحرمان بوجوه عابرة ، ويتمسحان بأرصفة ودروب ، في مجتمع تسكنه عاهات مستديمة ، ركب الهزء والسخرية ، كانتقاد لاذع لواقع مريض ومهيض.

  فيما تلا الحقبة الغوغولية ، اشرأبت القصة القصيرة بجيدها الطويل على مكتسبات غير مسبوقة ، حيث إنها متحت ، من فنون القول ، كالشعر ، صورا مجازية عبر المشابهة والمجاورة . فضلا عن ذلك استطاعت أن تتفاعل القصة القصيرة مع الفنون غير القولية ، معفرة وجهها الطفولي بألوان قوس قزح ، ولم يهدأ لها بال حتى ركبت فنون النجوى الجواني ... وكان المونولج ، في ذلك ، يبئر دواخل الشخصيات ، ويتعرى معها القلب والزمن ، كما قال محمد عز الدين التازي .

   في طلائع الفن القصصي توامق وتضاد بحسب قناعات كل كاتب وأديب ، فالروائي الفرنسي آلان روب غرييه عندما سافر إلى ألمانيا ، إبان الحرب الكونية الثانية ، كانت أول رحلة له خارج فرنسا خدمة للإمبراطور الفاشي ، وفي الوقت نفسه  توج هذه التجربة بمجموعته القصصية الوحيدة ، عنونها ب«لقطات» صدرت ســـــنة 1962 عن دار مينوي الباريسية.  لو جئنا نبحث عن أهميه كل الحوارات ، التي أجراها ألان روب غرييه  مع كبريات الصحف الفرنسية ، سنجد أن ماغزين ليترير استأثرت بحصة الأسد ، بغاية كشفت عن أهم الرؤى الجديدة ، التي جاء بها هذا الأديب في مجموعتة " لقطات " ؛ لأن غرييه رسم إطارا تتحرك فيه القصة القصيرة ، من خلال نقل أحداث واقعية إلى الفن .

   فإلى جانب ألان روب غرييه ، نجد ناتالي ساروت و كلود سيمون وميشيل بوتور ، حيث بدأ السرد يعرف من خلال أسلوبية  " تبادل الأدوار والأمكنة " . فانطلاقا من رواية " الغريب " لألبير كامو ، التي وصف فيها مسقط رأسه ، حيث الألفة والشمس والشواطئ والحمامات وأزقة الجزائر ، إلا أن الكاتب بالرغم من ذلك ، يعيش غربة واغترابا . بيد أن أندري مالرو ، وهو ابن البلد ، يشعر بنفسه بعيدا كل البعد عن فرنسا البلد الأم ، وذلك يُعزى إلى انخراطه المطلق في جبهة مقاومة الغطرسة والمد الفرنسي  عبر العالم . فتبادل الأدوار والأمكنة ، في العمل السردي ، استمد من حركة الكون والطبيعة . حيث إن هذه الأخيرة خاضعة لنظام التعاقب و التبادل الخاص ؛ فالنهار يتعاقب مع الليل ، والخريف مع الشتاء وهكذا . فكان الأمر طبيعيا أن يجسد الحكي هذه الحركة الكونية .

  وبانتقالنا إلى الأدب الإيطالي مع أمبيرطو إيكو ؛ المفكر والروائي و السيميولوجي الكبير صاحب رائعة " اسم الوردة " ، يرى نظام التعاقب ، في الأدب ، أمرا في غاية الأهمية . فمهما حاول الأديب العالمي أن يحصر زاوية تفاعله ورؤيته  للواقع  ، إلا أنه يجد في التجوال المعرفي والفكري ، هَما إنسانيا راقيا لا مناص منه ، ووجها من وجوه التبادل والتعاقب في السرد . فالمعرفة ، حسب إيكو ، تتنقل في نصوص تخترق طبقات و سجوف الفكر الإنساني عبر التاريخ ؛ كمثال لذلك : مورفولوجية الحكاية الشعبية لفلاديمير بروب . هذا الاختراق العمودي لكل الثقافات الإنسانية ، للحكاية الشعبية ، يوحد الأصول ومبعث للتأمل في الأصل المشترك ... فلا معرفة بهذا المستوى ، يحدها نظام الحقبة الزمنية ؛ لذا نجد أن إيكو يعكس الحاضر في لوحة من القرون الوسطى حسب تعبيره.

  في حوار أجرته صحيفة ماغزين ليترير مع البروفسور أمبيرطو إيكو ، بداية ثمانينيات القرن الماضي ، تحدث عن محاولة خلق عالم ممكن بالأدب ، حيث يحتل فيه التعاقب مركزا أسنى للخلق والإبداع . فمن خلال مؤلفاته : " بندول فوكو " و " جيمس جويس والعصور الوسطى " و " جماليات توما الأكويني " يزاول إيكو نشاطه الإبداعي ، والذي رأى أن ، في كتابة الرواية ، إخمادا لحرائق السؤال ، ورغبة جامحة في الحكي ، بيد أن الخروج عن هذه التقريرية استوجب تغير و إبدال نمط التأليف والكتابة والعيش أيضا ، إذ يقول إيكو : " وفجأة وجدتني أكتب الرواية لأسباب ثقافية ، مثلما يحدث عندما نرغب في التبول " .

   يغدو هذا الانتقال ، إلى عالم الرواية والسرد ، خضوعا لمبدأ تبادل الأدوار ؛ لأن الإنسان امتداد شرعي للطبيعة والكون . ففضلا عن ذلك ، وبعنصر المفاجأة ، وجد إيكو نفسه باحثا عن الحقيقة التاريخية في القرون الوسطى من خلال موسوعات العصر الوسيط . يقول البروفسور : " كنت مسكونا بهذا العالم ، وكنت أقتني عناصر متفرقة لهدف مغلوط ، وهو يسمى في العلوم بحالة الاكتشاف عن طريق الصدفة ـ أي عندما نبحث عن شيء فإذا بنا نكتشف شيئا آخر " . غير بعيد عن عالم السرد ، رأى أمبيرطو إيكو أن الأدب يخلق عالما خارج القول ، معتمدا على الرموز والإشارات والإيحاءات على اعتبار أنها علامات تواصلية ، تقضي بالإستمرارية الزمنية والمكانية .

  من هذه الزاوية الأخيرة ، يدرج الأدب ضمن التقنيات التواصلية ، التي تخلق عالما ممكنا عبر فضاء القول والتعبير و الحكي . وعليه فسواء تغيرت المنازل وتبدلت الأدوار يظل الأدب حالما برسالة كونية ، تتجاوز المبتذل والبديهي نحو الخلق والإبداع ؛ ليعيش الإنسان في تواصل مستمر ودائم مع نفسه أولا ثم محيطه ثانيا . ففي استمرار الكتابة والخلق والإبداع ، هو في الحقيقة استمرار في خلق ممكنات  القول والتعبير عن طريق رفض  وانتقاد وثورة على الجمود .                 

    

                                             

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا