مع الرواد تجَددت فنون الحكي ، وبهذا اكتسحت القصة القصيرة ، كجنس أدبي حديث النشأة ، عوالم السرد ومستوياته وأشكاله . إنها لم تعد مجرد نقل لأحداث واقعية وعابرة ، يعيشها الإنسان ، ويتنفسها في اليومي ، بل استطاعت أن تزيح قشور الظلم الإجتماعي ، وتعري عبر التاريخ ، واقع الهذيان والاستبداد في العلاقات الإنسانية ؛ وأخيرا أن تخلق عالما من الألفة مع الذات و الواقع . تسافر ، بنا ، القصة القصيرة عبر الزمن الثقافي ، وما يكتنفه من تطورات وإبدالات . فمع نيكولاي غوغول ، خلال القرن التاسع عشر ، بدأت القصة تتخلى عن عباءتها النمطية في البناء والتشييد والعمران ، فدخلت إلى عالم الحرية من أبواب متفرقة . لم يعد فيها الزمن زمنا حقيقيا ، ولم تعد الأحداث أحداثا ، ولا المكان مكانا ، ولا الفضاء فضاء ؛ عالم من الهذيان والتيه .
مع
غوغول دخلنا عالما استعاريا كبيرا مغريا وجذابا ، عندما تجاوزت القصة بناءها
العمودي والكلاسيكي ؛ المتمثل في بداية وعقدة وحل . فغوغول أرسى عوالم هذا الفن
الرائع . وبهذا يعد عالم القصة القصيرة ، من
خلال رائعته " المعطف " ، فاتحة لمستغلق الحكي ، خصوصا على مستوى البناء
السردي ، الذي أثبت فيه غوغول صناعته القصصية ؛ إن اختيار الحدث والزمن والمكان
والشخصيات الرئيسة والثانوية ، خدمة للرؤية التي يؤمن بها نيكولاي غوغول ، الغاية منه
هو التعبير عن البؤس والألم والفقر . الشيء الذي ألهم ديستويفسكي ، عندما قال :
إننا خرجنا من معطف غوغول . وفي هذه القولة رسالة وصف واضحة لواقع موبوء ينتظر
الكشف ، وملئ بالأماني والحسرات ،
بالمقابل لازال هناك سقوط وانتظار وأمل في نهاية سرداب مدلهم . يتربص الفقر
والحرمان بوجوه عابرة ، ويتمسحان بأرصفة ودروب ، في مجتمع تسكنه عاهات مستديمة ، ركب
الهزء والسخرية ، كانتقاد لاذع لواقع مريض ومهيض.
فيما تلا الحقبة الغوغولية ، اشرأبت القصة
القصيرة بجيدها الطويل على مكتسبات غير مسبوقة ، حيث إنها متحت ، من فنون القول ، كالشعر
، صورا مجازية عبر المشابهة والمجاورة . فضلا عن ذلك استطاعت أن تتفاعل القصة
القصيرة مع الفنون غير القولية ، معفرة وجهها الطفولي بألوان قوس قزح ، ولم يهدأ
لها بال حتى ركبت فنون النجوى الجواني ... وكان المونولج ، في ذلك ، يبئر دواخل
الشخصيات ، ويتعرى معها القلب والزمن ، كما قال محمد عز الدين التازي .
في طلائع
الفن القصصي توامق وتضاد بحسب قناعات كل كاتب وأديب ، فالروائي الفرنسي آلان روب
غرييه عندما سافر إلى ألمانيا ، إبان الحرب الكونية الثانية ، كانت أول رحلة له
خارج فرنسا خدمة للإمبراطور الفاشي ، وفي الوقت نفسه توج هذه التجربة بمجموعته القصصية الوحيدة ، عنونها ب«لقطات» صدرت ســـــنة 1962
عن دار مينوي الباريسية. لو
جئنا نبحث عن أهميه كل الحوارات ، التي أجراها ألان روب غرييه مع كبريات الصحف الفرنسية ، سنجد أن ماغزين
ليترير استأثرت بحصة الأسد ، بغاية كشفت عن أهم الرؤى الجديدة ، التي جاء بها هذا
الأديب في مجموعتة " لقطات " ؛ لأن غرييه رسم إطارا تتحرك فيه القصة
القصيرة ، من خلال نقل أحداث واقعية إلى الفن .
فإلى جانب ألان روب غرييه ،
نجد ناتالي ساروت و كلود سيمون وميشيل بوتور ، حيث بدأ السرد يعرف من خلال
أسلوبية " تبادل الأدوار والأمكنة
" . فانطلاقا من رواية " الغريب " لألبير كامو ، التي وصف فيها
مسقط رأسه ، حيث الألفة والشمس والشواطئ والحمامات وأزقة الجزائر ، إلا أن الكاتب بالرغم
من ذلك ، يعيش غربة واغترابا . بيد أن أندري مالرو ، وهو ابن البلد ، يشعر بنفسه
بعيدا كل البعد عن فرنسا البلد الأم ، وذلك يُعزى إلى انخراطه المطلق في جبهة
مقاومة الغطرسة والمد الفرنسي عبر العالم .
فتبادل الأدوار والأمكنة ، في العمل السردي ، استمد من حركة الكون والطبيعة . حيث
إن هذه الأخيرة خاضعة لنظام التعاقب و التبادل الخاص ؛ فالنهار يتعاقب مع الليل ،
والخريف مع الشتاء وهكذا . فكان الأمر طبيعيا أن يجسد الحكي هذه الحركة الكونية .
وبانتقالنا إلى الأدب
الإيطالي مع أمبيرطو إيكو ؛ المفكر والروائي و السيميولوجي الكبير صاحب رائعة
" اسم الوردة " ، يرى نظام التعاقب ، في الأدب ، أمرا في غاية الأهمية .
فمهما حاول الأديب العالمي أن يحصر زاوية تفاعله ورؤيته للواقع ، إلا أنه يجد في التجوال المعرفي والفكري ، هَما
إنسانيا راقيا لا مناص منه ، ووجها من وجوه التبادل والتعاقب في السرد . فالمعرفة
، حسب إيكو ، تتنقل في نصوص تخترق طبقات و سجوف الفكر الإنساني عبر التاريخ ؛ كمثال
لذلك : مورفولوجية الحكاية الشعبية لفلاديمير بروب . هذا الاختراق العمودي لكل
الثقافات الإنسانية ، للحكاية الشعبية ، يوحد الأصول ومبعث للتأمل في الأصل
المشترك ... فلا معرفة بهذا المستوى ، يحدها نظام الحقبة الزمنية ؛ لذا نجد أن
إيكو يعكس الحاضر في لوحة من القرون الوسطى حسب تعبيره.
في حوار أجرته صحيفة ماغزين ليترير مع البروفسور
أمبيرطو إيكو ، بداية ثمانينيات القرن الماضي ، تحدث عن محاولة خلق عالم ممكن
بالأدب ، حيث يحتل فيه التعاقب مركزا أسنى للخلق والإبداع . فمن خلال مؤلفاته : "
بندول فوكو " و " جيمس جويس والعصور الوسطى " و " جماليات
توما الأكويني " يزاول إيكو نشاطه الإبداعي ، والذي رأى أن ، في كتابة
الرواية ، إخمادا لحرائق السؤال ، ورغبة جامحة في الحكي ، بيد أن الخروج عن هذه
التقريرية استوجب تغير و إبدال نمط التأليف والكتابة والعيش أيضا ، إذ يقول إيكو :
" وفجأة وجدتني أكتب الرواية لأسباب ثقافية ، مثلما يحدث عندما نرغب في
التبول " .
يغدو هذا الانتقال ، إلى
عالم الرواية والسرد ، خضوعا لمبدأ تبادل الأدوار ؛ لأن الإنسان امتداد شرعي
للطبيعة والكون . ففضلا عن ذلك ، وبعنصر المفاجأة ، وجد إيكو نفسه باحثا عن
الحقيقة التاريخية في القرون الوسطى من خلال موسوعات العصر الوسيط . يقول
البروفسور : " كنت مسكونا بهذا العالم ، وكنت أقتني عناصر متفرقة لهدف مغلوط
، وهو يسمى في العلوم بحالة الاكتشاف عن طريق الصدفة ـ أي عندما نبحث عن شيء فإذا
بنا نكتشف شيئا آخر " . غير بعيد عن عالم السرد ، رأى أمبيرطو إيكو أن الأدب
يخلق عالما خارج القول ، معتمدا على الرموز والإشارات والإيحاءات على اعتبار أنها
علامات تواصلية ، تقضي بالإستمرارية الزمنية والمكانية .
من هذه الزاوية الأخيرة ،
يدرج الأدب ضمن التقنيات التواصلية ، التي تخلق عالما ممكنا عبر فضاء القول
والتعبير و الحكي . وعليه فسواء تغيرت المنازل وتبدلت الأدوار يظل الأدب حالما
برسالة كونية ، تتجاوز المبتذل والبديهي نحو الخلق والإبداع ؛ ليعيش الإنسان في
تواصل مستمر ودائم مع نفسه أولا ثم محيطه ثانيا . ففي استمرار الكتابة والخلق
والإبداع ، هو في الحقيقة استمرار في خلق ممكنات
القول والتعبير عن طريق رفض وانتقاد
وثورة على الجمود .