تشذ مجموعة الكاتب محمد أبو ناصر الموسومة ب " الرجل ذو القبعة الزرقاء والنورس البحري " عن الأنماط السردية المألوفة بمختلف أشكالها وألوانها في رسمها لآفاق حكي ينأى عن السائد ، ونهجها لمسلكيات قصصية تتغيى خلق توليفة تتجاور فيها الفوارق بين الشخوص المشكلة من مختلف المراتب والوظائف ( شرطي ، عميد شرطة ، شاعر ، مخرج سينيمائي ...)،وحيوان ( أسد ، كلب ، نوارس ، قطط ، جرذان... )، وأمكنة ( حانة ، قرية ، بحر،كوخ ، عشة...) مما يسم البنية السردية بتنوع يكسرخطيتها عبر لغة تتأرجح بين الدقة والجزالة : " والمطر يتساقط على سطح مظلتنا ويتدحرج كحبات اللؤلؤ فوق رأسينا " ص: 48، والشفافية والرقة : " في الخارج تسمع زقزقة العصافير وحفيف احتكاك أغصان الأشجار تهزها ريح خفيفة ناعمة " ص : 87، واستعمالات لغوية أقرب إلى الدارجة حينا : " سمعت أن القرود تتناقز فوق ظهر الأسد الشارف ... لا أحد يقدر أن يقول للسبع فمك خانز" ص: 27، او بالدارجة أحيانا : " جرا علي راجلي ومعندناش فين نباتو.." ،وقد تسوغ مجريات الحكي وتقلباته التوسل بعبارات فرنسية ( نص ليل بلا نهاية ، ص : 79) ، هذا التنويع اللغوي ينخرط في بناء سردي موسوم بالتذبذب والتبدل لتكريس نمط الاختلاف ، وإقرار تجلياته لدى الكاتب يتمظهر أيضا على مستوى استعمالات تعبيرية كالتشبيه : "كالخرقة البالية ، أو كأنها فزاعة في حقل ذرة عصفت به رياح السموم ..." ص : 5ــ 6 ،أو الوصف والرصد : " على مصباح العمود السليم الوحيد والذي يتوسط الشارع ، نورس بحري قابع هناك في كامل الأبهة . " ص: 56، وقد يتجاوز ذلك عبر تأسيس علاقة تقوم على الاحتضان والرعاية في أرقى مراتبها الاجتماعية : " فمن خلال الاسم الذي اختاره لكلبته المدللة( موناليز) .. " ص: 15، حيث تتجسد علاقة قيمية في أرقى أشكالها : " والدكم وجد الوفاء في كلبته ولم يجده في أقرب المقربين إليه ..." ص : 15، فالوفاء كقيمة أخلاقية بحمولات اجتماعية وإنسانية ساهمت في تمتين عرى صلة وطيدة بين الأب وكلبته . وفي إغنائه لمنحى رسم معالم سردية مغايرة تفرز تحولا في نمط الشخوص داخل المتن القصصي بحيث تذوب الفوارق ، وتمحي الاختلافات بين جنس البشر والحيوان على مستوى آليات الحوار والتواصل : " بين الفينة والأخرى يأتيه نورس يحط على كتفه يقرب منقاره من أذنه ويحدثه ..." ص : 62 ، فطائر النورس يغدو مساهما كطرف فاعل ومؤثر في سيرورة الخطاب القصصي بدخوله في حوار مع باقي الشخصيات ضمن نزعة غرائبية تطبع بعض نصوص الأضمومة : " ثم قام ونزع رأس ذات الشعر الأحمر ووضعه جانبا ، نزع رأس البدينة وثبته على جسد النحيفة..." ص : 5 ، نزعة تتعدد تجلياتها ، وتتنوع تبدلاتها : " مال رأسه على صدره رويدا رويدا ثم ... انفصل عن جسده وتدحرج على الأرض ... " ص : 7 ، لتجترح مسلكيات تمعن في غرابة عجيبة الأطوار والسلوكيات : " رأيت النبيل الفرنسي منشورا على الأرض كخرقة بالية ، وقد نزع أحدهم وبكل وقاحة أنفه الأشم من مكانه ووضع أنفا مفلطحا لإفريقي من جنوب الصحراء ... " ص : 69 ،لتبقى سمة التغيير والتبدل بارزة داخل ثنايا المجموعة على صعيد وصف تتجاذبه مسحة رومانسية تنبض حيوية وإيحاء : " زخات المطر تسقط كأروع ما يكون السقوط ... وسقوطها يحدث إيقاعا ينبض بكل عنفوان الحياة ... " ص : 44 ، ودقة تلتقط وترصد التفاصيل والجزئيات : " كان الرجل حليق الوجه بشعر أشقر طويل منسدل على كتفيه ، من عنقه تدلت قلادة على شكل نجمة فضية بسير جلدي مصبوغ بالأصفر والأخضر ..." ص : 78 ، مما يغني الزخم السردي فيغدو أكثر تنوعا وتعددا وانفتاحا بحيث تمتد جسور لمة تؤثثها ألوان فنية من قبيل التشكيل : " مشهد يوحي بلوحة فنية لرسام ما ... " ص : 84 ، أو النحت : " نظرة فنان أنهى للتو تحفته الفنية " ص : 6 ، والشعر في طقوسه الاستثنائية باعتكاف داخل فضاءات تختلف من حانة : " ثم أطلق ضحكة مدوية جلجلت في الحانة حتى رددت الحيطان أصداءها " ص : 46 ، أو بحر: " أليس جنونا أن تأخذني إلى البحر في ليلة ممطرة لتقرأها علي ...!!! [ أي القصيدة] "ص : 49 ، فعشق القصيدة وما يستدعيه من مكابدة ومعاناة للتحايل على مغالقها ، ومخاتلة تمنعها لا يتأتى إلا لمن أغوته أهواء الفن ، وأغوته انباجاساته فشغف باكتشاف مجاهله وضفافه المغمورة بمسوح النأي وتجلياته فالتأمت اللوحة بالقصيدة بالسينما : " بدا الأمر كمشهد على شاشة سينما " ص : 87 لتشكيل نصوص سردية ، ونحت تفاصيلها وأبعادها وصياغتها في مشهديات موسومة بغنى أشكالها مما يمنحها تنوعا وعمقا وانفتاحا. وتحضر ضمن قصص الأضمومة تيمات تعكس ما يحكمها من خلفيات تغيير سردي كالتحول الذي يطغى على نص ( ليل بلا نهاية ) من صفة آدمي إلى صفة قط والذي طال الرجل وزوجه وبنته : " كانت هناك مائدة تحف بها ثلاث كراسي ، على أحدها القطة السوداء وإلى جانبها الهريرة الصغيرة .. على الكرسي المواجه للنافذة ، استقر قط كبير ذو فرو أصفر كثيف ... " ص : 80 ، تحول ما فتئ يمس الراوي : " وما أن فتحت زوجتي الباب حتى بادرتها مياو... " ص : 80، وتيمة نقد يشمل مناحي اجتماعية كمعضلة البطالة : " الأعمال في هذه المدينة نادرة ندرة الماء في الصحراء " ص : 21، وفنية : " النقطة السوداء في كل هذا هو أن مدينتنا الساحرة لا تتوفر على قاعة سينما ، تصوروا .. يتم تصوير الكثير من الأفلام هنا ، دون أن يتمكن أحد من مشاهدتها .. " ص : 25 ، وثقافية : " في مدينة (م) حانات كثيرة ومكتبة واحدة ... " نقد يكشف ما ينخر المجتمع من أوصاب تشل حركيته الاجتماعية والثقافية والفنية ... وتساهم في انحداره لدركات التردي والانحطاط .
تظل روح التغيير حاضرة في قصص الكاتب المغربي محمد أبو ناصر لما يجربه من أشكال سردية جديدة تتمثل في تنويع أنماط الحكي ، وتشريعها على آفاق مغايرة متوسلا في ذلك بألوان فنية أخرى تعكس اهتمامه إن لم نقل ولعه بها كالتشكيل والشعر والسينما ... مع إتاحة هامش واسع لتأويل مرامي النصوص ومقصدياتها ، والإسهام في إثراء أبعادها ومراميها للمتلقي كما في نص ( لست أنا ) : " أما أنتم أصدقائي الأعزاء ، فتعرفونني حق المعرفة ... تعالوا قولوا لهم ذلك ، ردوهم إلى رشدهم قبل أن يعدموني ، أنا في انتظاركم ، فلا تتركوني ، عافاكم" ص : 72 ، الذي يستعين فيه بالقارئ لإثبات براءته مما لفق له من تهم ، وما حيك ضده من مكائد وشبهات.
عبد النبي بزاز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ الكتاب : الرجل ذو القبعة الزرقاء (قصص).
ــ الكاتب : محمد أبو ناصر.
ــ مطبعة : مقاربات للنشر والصناعات الثقافية ــ فاس
2018.