ليكن العنف دوما وفي كلّ مكان فليس لنا إلاّ أن ننظر كيف تشيّد الإمبراطوريات وتنهار، وكيف تنال الحظوة الشخصية، وتتقاتل الأديان، وتستمرّ امتيازات المِلكية والسلطة وتدول، وكيف يتوطّد حتّى حكم أسياد الفكر، وكيف تجثم المتع الثقافية للنخبة على ركام أعمال وآلام المحرومين.
لن تتسع رؤيتنا بشدّة، حينما نستكشف امبراطورية العنف؛ لأجل ذلك فإن تشريحا للحرب يعجب لكونه قد عثر على ثلاثة أو أربع حبال متينة وأنه يكفي قطعها حتى تسقط الدمى العسكرية جامدة على الركح، سيحكم على النزعة السلمية أن تبقى سطحية وطفولية. إن تشريحا للحرب يتطلب المهمة الأكثر اتساعا لعلم نفس العنف.
يجب أن نذهب بعيدا جدّا إلى الأسفل والأعلى، في البحث عن تواطؤ انفعال بشري مع المُرعب في التاريخ. إن علم نفس الاختبارية المختصر الذي يحوم حول اللذة والألم، حول الرّفاه والسعادة، يُهمل النَّزِقَ، وطعم مواجهة العراقيل، وإرادة التوسع، والمعركة والهيمنة، وغرائز الموت وبالخصوص هذه القدرة على التدمير، هذا النهم للكارثة الذي هو البديل لكل فروع المعرفة التي تجعل من البناء النفسي للإنسان توازنا غير مستقر ومهدّد دوما. لتندلع الفتنة في الطريق، وليعلن عن أنالوطن في خطر، فإن شيئا ما قد أصابني وانفلت، وأنه لا مخرج منه، لا في المهنة، ولا في المنزل، ولا في الشؤون المدنية اليومية؛ شيئا ما متوحّش، شيئا ما طاهر ومدنّس، غضّ ومشوّه، معنى ما للغريب، للمغامرة، للاستعداد، طعم ما للأخوّة الفظّة وللعمل العجول، دون واسطة حقوقية وإدارية. والرائع هو أن هذا الخفيّ من الوعي ينبجس ثانية على سطح أعلى طبقات الوعي: إن هذا المعنى للمرعب هو أيضا معنى الإيديولوجي؛ وفجأة تبرز العدالة، والحق، والحقيقة بأحرف غليظة؛ بحملها الأسلحة وتمجّد ذاتها بأهواء عمياء، ويقذف باللغات والثقافات إلى جحيم الشفقة؛ فيُجهّز مجموع وحشيّ من أجل الخطر والموت؛ ويحتجٌ بالإله ذاته: فيكون اسمه على الأحزمة الناسفة، وفي القَسم، وفي كلام الواعظين ذوي القبعات.
ذاك هو الجذر الأشعر الذي ينمّيه العنف التاريخي في كل طبقات الوعي. غير أن علم نفس العنف لم يرق بعدُ إلى مستوى التاريخ حيث ينتظم العنف في بنية. لذلك لزم أيضا أن نتحدّث عن “الأشكال” الاجتماعية التي تأتمر بها القوى المدعوّة، وأن نقول ٌبنى المرعب. في هذا الصدد لا بديل عن القراءة الماركسية للتاريخ لفهم تمفصل النفسي مع التاريخ داخل جدلية صراع الطبقات: في هذا المستوى يصبح المُرعب تاريخا، في ذات الوقت الذي يتغذّى فيه التاريخ من المرعب تحت تأثير السلبي. هذا بالفعل ما يهمله السّلميون عن قصد منبهرين بساحات الحرب: من الأيسر أن نعرض عن عنف الاستغلال: هنا لا ينفجر العنف في أحداث مثيرة؛ فالمعارك أحداث، وكذلك المظاهرات؛ غير أن الفقر والموت والمرض ليست أحداثا؛ فليس حدثا أنه في عهد لوي فيليب كان معدّل حياة العمال سبعة وعشرون شهرا، وأنه، في مدة سبع سنوات، عُدَّ موتى عمال المصانع في مدينة “ليل” بـ 20700 من21000 ولادة (هنري قيلمان”المسيحيون والسياسة” نشر”الزمن الراهن” ص19). لابد من وعي شاقّ، وعيا لم ينقضي عليه قرن، لأجل الكشف عن عنف الحق والنظام. إنّ السلم إذن مَهَمّة جسيمة، إذا ما لزم أن تكون تتويجا للعدالة: كيف لا يستدعي عنف القمع عنف الثورة؟
غير أن ما لا يمكن لفيزيولوجيا العنف أن تهمله هو أن الدولة هي محل تمركز ونقل للعنف: وإذا كانت الغرائز مادة المرعب، وإذا كان صراع الطبقات مكونه الاجتماعي الأوّل، فإن العنف يلج مجال السلطة من حيث هو ظاهرة سياسية. إنّ رهان السياسي، بالمعنى الحقيقي، هو السلطة؛ وبالفعل، يتعلّق الأمر على صعيد الدولة بمعرفة من يحكم ومن هو التابع، وباختصار، من يمسك بالسيادة، ولمصلحة من، وضمن أي حدود، الخ. ويكون حكم الأشخاص بواسطة الدولة، أكثر دوما من إدارة أشياء. إن اللحظة التي يأخذ فيها العنف شكل الحرب هي حينما تتصارع سيادتان تتساويان في الادعاء على ميدان ليس من الممكن لكليهما التواجد فيه. وهكذا، فإن الحرب، من جهة، لا تختزل كل العنف، من حيث أن صراع الدول لا يعكس بصدق الإحراجات العميقة للمجتمع؛ ومن جهة أخرى، فإن الدولة، تمنح بعدا جديدا للعنف الجماعي برفعه إلى الحرب.
وفق هذا الشكل المميز يستولي عنف التاريخ بصورة أفضل على الفرد الذي، على وجه من الوجوه، يستعجله وينتظره: بالأساس حينما تكون الجماعة الموصولة برابط الدولة في وضع كارثي، يلتحق خفيّ الوعي المتمدّن بالتجريدات المثيرة للشفقة، وتنفجر خارجا: إنه في اللحظة التي أكتشف فيها انتمائي إلى مغامرة مشتركة قابلة للتلف، إلى تاريخ منقسم إلى عدة تواريخ، إلى حبل من التاريخ يهدَّدُ بأن يقطع، إنه في هذه اللحظة التي أكون فيها محمولا إلى حدّ الغنائية المريرة والدموية التي يرمز إليها النشيد الوطني الفرنسي؛ يدمج هذا الموت التاريخي الكبير، حيث نُسج موتي الفردي، الانفعالات الأكثر احتفاليّة للوجود ـ 1789،1871،1914،1944.. ويرنّ صداها حتى داخل أعمق طبقات لاوعينا. هكذا يلاحق مرعب التاريخ ومرعب النفسيّ أحدهما الآخر.
علينا أن نعتقد إذن أنه، وببعض الشرور الملازمة للتاريخ، يستحيل على كلّ البشر أن يكونوا معا: فالبعض أكثر مّم ينبغي بالنسبة إلى الآخرين. إذ لا يجب أن نتيه عن أن قصد العنف، والغاية التي يطلبها ضمنيا أو صراحة، بصورة مباشرة وغير مباشرة، هي موت الآخرـ على الأقل موته أو شيئا ما أسوء من موته. هكذا اكتشف المسيح لذعة مجرّد غضب: من يغضب من أخيه فهو قاتله. إن القتل الفعلي مع سبق الإصرار، هو، في هذا الصدد، إحداثية كل عنف: في لحظة العنف يتأثّر الآخر بالقرينة التي عليه “إزالتها”. بل للعنف مسيرة بلا نهاية: إذ الإنسان قادر على موت متعدّد، يقتضي أكثره جوهرية من المحتضر أن يظلّ على حافة (الموت) ليذوق حتى الثمالة كل أشكاله الأسوأ من الموت؛ ويجب على المعذّب أن يظل بعدُ هنا ليحمل الجرح الواعي بالخزي ويعيش دماره من وراء جسده، في صميم كرامته، في قيمته وفرحه؛ وإذا كان الإنسان أكثر من حياته، فإن العنف يريد قتله حتّى استنزاف هذا الأكثر: إذ أنّ هذا الأكثر هو في النهاية أكثر مما ينبغي.
إن هذا المُرعب هو ما يصنع التاريخ: ويبدو العنف فعلا النمط المميّز الذي يتبدل بمقتضاه شكل التاريخ، كإيقاع لزمن البشر، كبنية لكثرة الوعي.
ولكن إذا كان التاريخ عنيفا، فإن اللاعنف هو من قبل الوعي السيئ للتاريخ، قلق الوجود في التاريخ وقريبا أملا للوعي في وضعية تاريخية. لابد على أمنية اللاعنف، كي تكون أصيلة، أن تنبت على حافة تأمّل في التاريخ: إنه أول وأعمق رابطة له بالتاريخ، وهو الوزن الذي يثقله. فأن نأخذ عنف التاريخ مأخذ الجدً، فهو بعدُ تعال بالحكم. و يقابل الوعي بما هو إيتيقا، بتناقض جوهري، المسار التاريخي. يقول التاريخ: عنف. فيقفز الوعي ويقول: حبٌ. إن قفزته قفزة نقمة؛ بها يضع حدا للتاريخ: نفيه كعنف؛ ويضع الإنسان في ذات الوقت، كصديق ممكن للإنسان.
تعتقد النزعة السلمية، لانعدام تقديرها الأبعاد الكبرى للعنف، أنّهاسهلة وتجعل من نفسها كذلك؛ فتعتقد أنها بعد في العالم، ناشئة عنه، وناتجة عن الطيبة الفطرية للإنسان وأنها ببساطة مقنٌعة، وممنوعة من بعض الأشرار. إنها لا تعرف أنّ الأمر صعب، وأن التاريخ ضدّها، وأنها لا يمكن أن تأتي إلا من مكان آخر، وأنها تدعو التاريخ إلى شيء آخر غير ما يعنيه ببساطة.
بول ريكور”الحقيقة والتاريخ” ص 263-267