تلقيت بابتهاج كبير الخبر الذي قرأته في الأسبوع الماضي عن جمع تراث الشاعر الراحل محمد الطوبي (1955 ـ 2004) وتوقيع حفظ تراثه في «أرشيف المغرب» لكنني في الوقت نفسه، تلقيت بانزعاج أكبر نبأ عرض رسائل وأطاريح جامعية للبيع في سوق شعبي في طنجة تخلصت منها كلية الآداب التابعة لجامعة عبد المالك السعدي في تطوان عندما كانت تابعة لجامعة محمد بن عبد الله في فاس. تضمن الركام أزيد من 150 أطروحة من منتصف الثمانينيات إلى أواخر التسعينيات. (ترجمات، تحقيقات، دراسات أدبية). ولما كان الخبران متصلين بالأدب المغربي، إبداعا ودراسة يحق لنا التساؤل عن موقع الأدب في حياتنا المغربية، ووجداننا الشعبي، ولدى المسؤولين السياسيين في بلدنا.
لا شك في أن الخبر الأول المبهج جاء من مبادرة عائلة الشاعر التي تكلف الأستاذان علاء الدين الخياطي وسعيد بوطبسيل بجمع تراث الطوبي وتصنيفه وتقديمه إلى مؤسسة «أرشيف المغرب» التي وقعت اتفاقية في ذلك. ولا شك أيضا في أن الخبر المزعج قامت به المؤسسة الجامعية من تلقاء نفسها. ويتبين لنا من خلال المثالين أن المؤسسة المغربية لا دخل لها في التفكير في حفظ الذاكرة الأدبية، من خلال السهر على جمع تراث الأدباء والفنانين المغاربة المتوفين، وتكليف من يقوم بجمعه وترتيبه وتصنيفه وترقيمه، بقصد حفظه وصيانته. وأنها في الوقت نفسه، لها دخل ومسؤولية في ضياع الكثير منه.
يمكن لأرشيف المغرب أن يبرر عدم اهتمامه بتراث المتوفين من المبدعين والباحثين بادعاء أن له مهامَّ كثيرةً يضطلع بها، لكنه في المقابل يرحب بما يقدم إليه من منجزات يتقدم بها ورثة المبدع أو الباحث. كما أن للمؤسسة الجامعية أن تبرر تضييعها لما أنجز فيها من أبحاث ودراسات، بعجزها عن استيعاب كل ما يناقش في رحابها سنويا، أو ما يمكن أن تتعرض له مستودعاتها من أضرار بسبب الرطوبة، أو تسرب مياه الأمطار. إذن من يتحمل مسؤولية حفظ الذاكرة الأدبية المغربية، التي هي قيد التشكل، أو التي مرّت عليها أزمان ودهور؟
لا بد لنا قبل الجواب على هذا السؤال من إبراز مدى وعينا بأهمية حفظ الذاكرة المغربية في أي مجال من المجالات. لا نشك في أن الوعي بأهمية الحفظ غير قابل للنقاش، فالكل، مسؤولين ومواطنين، يدركون أهميته، ويقدرون ضرورته. لكن المشكل الحقيقي، الذي يتملص منه الجميع، يكمن في التفكير في آلياته، وإجراءات تطبيقه. وهنا يتدخل الإهمال، ويتسرب التضييع. فإلى متى نظل نمارس سياسة النعامة في التعامل مع تراثنا وذاكرتنا؟
نطرح هذا السؤال على الباحثين ومنظمات المجتمع المدني، من جهة، وعلى المسؤولين في الجهات والمجالس والجماعات والوزارات، من جهة ثانية. فما دام الاهتمام بالتراث والذاكرة شبه مغيب من قبل الباحثين والجمعيات الثقافية، ولما كانت المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية غير معنية أو منشغلة به، بصفته جزءا من برامجها، أو جداول أعمالها، فلا يمكن للحديث عن الحفظ والصيانة إلا من باب النافلة لمن يصلي مكرها؟
إذا كانت مؤسسة «أرشيف المغرب» في الرباط قد رحبت بدواوين الشاعر، وأرشيفه الشخصي، وما كتبه بخطه الجميل الذي نعتبره هو أيضا قصيدة أخرى، فهل بإمكان فضائها الضيق، أن يستوعب تراث كل المبدعين والباحثين الذي توفوا في العشر سنوات الأخيرة، لو أقدمت كل عائلاتهم على العمل الذي قامت به عائلة الطوبي؟ ما دمنا قد أشرنا إلى الفضاء لماذا يتم التركيز على فضاء «مركزي» (الرباط) لا يذهب إليه إلا الباحثون والمهتمون، وهم قلة قليلة جدا. هل تراث الطوبي يهم فقط بعض الباحثين؟ أم أنه تراث يمثل ثقافة شعب وأمة؟
كان الأحرى أن نجد تراث الطوبي في مدينة القنيطرة، وأن يخصص له بيت خاص به، يستوعب أعماله، وصوره الثابتة والمتحركة، ومكتبته، ومكتبه، وملابسه، وتعرض نصوصه المخطوطة بيده، ويتكلف مجلس المدينة بتوظيف من يفتح بيته للزوار من السياح، وتنظم رحلات التلاميذ إلى فضائه للتعرف على شخصية ثقافية من مدينتهم، يمكن أن تكون نموذجا يحتذى، وتقام بين الفينة والأخرى لقاءات في هذا الفضاء تقرأ فيه أشعاره، وتقدم دراسات حوله. هذا هو المعنى الحقيقي لصون الذاكرة الأدبية وحفظها. وما قلناه عن الطوبي يمكن تعميمه على كل الأدباء والفنانين والمفكرين والسياسيين وغيرهم، ممن ساهم باقتدار وتميز في إثراء الثقافة المغربية وتطورها.
كثيرا ما نتحدث عن التنمية المستدامة، والجهوية. لكن الثقافة، بصفة عامة، والأدب والفن، بصورة خاصة، لا دخل لها في هذا الحديث. لو أن المجالس والجماعات والجهات كانت معنية بالذاكرة الثقافية، لوفرت لها الأسباب الملائمة. التي تسهم في خلق مناصب للشغل، وتطوير الجهة، والسياحة الثقافية، وترقيم لذاكرة الجماعية. وسيكون عليّ إذا ما فكرت في زيارة القنيطرة، مثلا، أن أذهب إلى بيت الطوبي، وإلى بيت العيطة الغرباوية لأجد فيه كل ما يتصل بالفن الشعبي من تراث وأدوات موسيقية. وقس على ذلك في أي مدينة.
حفظ الذاكرة الأدبية ليس فقط مهمة وطنية.. إنه حلم نأمل أن تراه الأجيال القادمة واقعا.