صحيحٌ أنّ الشاعرة الإسبانية ماريا فيكتوريا أتينثيا تنتمي، جيليّاً، إلى شعراء الخمسينيات، إلّا أنّ اختياراتها ورؤيتها إلى العالم والأشياء ظلّت متباينةً مع اختيارات مجايليها من الشعراء الإسبان؛ فبدلاً من الواقعية والنقد السياسي اللذين سادا في ذلك الوقت، اختارت الشاعرة المولودة في مالقة عام 1931 التأمُّلَ كمحورٍ أساسيّ لقصائدها.
في حديثها عن تجربة أتينثيا، تقول الشاعرة والناقدة الإسبانية مارتا لوبيث فيلار: "ثمّة في شعرها نظرةٌ متمهّلة وصامتة وعميقة، وربما نظرة فقط، مثل الأشياء التي تنتمي إلى الحياة وتحتاج إلى أن يُنظَرَ إليها... تلك الحياة التي لم تعد موجودة، والتي يجري تأمُّلُها مثلما لو كانت قد جاءت للتوّ من بلاد نائية وعلينا أن نتعرّف عليها".
يأتي كلامُ فيلار في مستهلّ أنطولوجيا ضمّت مختاراتٍ من شعر أتينثيا أصدرتها حديثاً منشورات "جامعة كمبلوتنسي" في مدريد بعنوان "ذاكرة البيوت والطيور"، بالتزامن مع احتفاء بتجربة أتينثيا وتكريمها في "البيت العربي بمدريد"، في آذار/ مارس الماضي لمناسبة "اليوم العالمي للشعر".
تضمّ المختارات، إلى جانب كلّ قصيدة، ترجمةً لها إلى واحدة في واحدةٍ من نحو ثلاثين لغةً تُدَرَّس في هذه الجامعة الإسبانية؛ من بينها العربية والبلغارية والتشيكية والصينية والفنلندية واليونانية والهنغارية والفارسية والتركية. وقد نقل أساتذةٌ وطلبةٌ في الجامعة القصائد في تحيّةٍ إلى واحدةٍ من أبرز التجارب في المشهد الشعري الإسباني المعاصر.
منذ طفولتها، أظهرت ماريا فيكتوريا أتينثيا ميولاً نحو الشعر والرسم والموسيقى. لكنّها، بدءاً من الرابعة والعشرين من عمرها، كرست حياتها للشعر الذي أصدرت فيه وعنه قرابة عشرين كتاباً؛ من بينها: "البوصلة المزدوجة" (1984) و"العتبة" (2011). تجربةٌ حازت عنها العديد من الجوائز؛ منها: "جائزة فيديريكو غارثيا لوركا العالمية للشعر"، و"جائزة الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية"، و"جائزة الملكة صوفيا للشعر الإيبيرو-أميركي".
هنا مختاراتٌ مترجمة من شعرها.
انتصار
كانت السماء مفتوحة وابني بين ذراعيَّ،
أعزل وغضٌّ ومتجمّدٌ من البرد، متوهّجٌ
حدّ أنّني أحسست أنّه عملٌ لي وحدي، انتصارُ
جسدٍ يُقدَّمُ خطوةً فخطوة لجسده.
لففته بأنفاسي وكانت لديه هبّة أنفاس دافئة
كانت تعتدلُ عبرها حمامة أثناء تحليقها.
■ ■ ■
السمَندل
كنتُ صغيرةً جدّاً في ذلك الزمن
زمن الغمِّ - ولكنّني لم أكن أعلم ذلك - ومخاوفي
كانت أيضاً صغيرةً، لو كنتُ أبلغُ أن أحِسَّها:
كنت أجمعُ أحجاراً صغيرة ملوّنة
وبقيتُ منسيّة على ضفّة مجرى النهر
جنب أحجارٍ حَيَّةٍ متماثلةٍ مع المِشْبَكِ
الذي كان يُزيِّنُ صدرَ عمّتي المتأرجح.
■ ■ ■
المسيرة
كُنَّا أناساً خُلقوا لِنِعمَة الوداعة
وللذاكرة الملتبسة لطريقٍ يمضي نحو مكانٍ ما.
ولم يُلقِ أحدٌ بِأمْرٍ - مَنْ كانَ يعرفُ لحظته -
لكنّنا جميعاً، في زمنٍ مَا وفي صمتٍ، تركنا
المأوى المعتاد، النار المشتعلة التي ستنطفئُ في الأخير،
الأدوات سهلة الاستعمال بالأيدي،
حبوب الزرع المتنامية، الكلمات في المنتصف، والماء ينسكبُ.
لم تكن ثمَّةَ إشارةٌ. وقفنا.
لم نُوَلِّ رؤوسنا إلى الخلفِ. وبدأنا المسيرة.
■ ■ ■
أيّام السبت
أيّامَ السبت كانت أعيننا تظلُّ مفتوحةً على سِعَتِها
تبدي الأضواء الذهبية لِيومِ الأحدِ،
بينما كانت الساعات تمضي وهي تزلقُ حمولتها
من الأوهام فينا.
جالساتٍ على طاولات الدرس، في صفوف
وفي فترات الاستراحة،
كنّا نفكرُ في اليوم المثاليِّ، كلُّ واحدةٍ
مع شمسهِا وأفلامها وتوديعها في الشارع
للطفلِ الذي كان يحمل اسمنا على جبهته.
التحليق كان المفتاحَ المكتوب في بالِنَا.
كُنَّا نحلمُ بأبواب وبسلالم
لا نهائية تقسم الجبل إلى نصفين،
حيث كانت تنتظرُ عربة التفاتَنا الأسرع
وهي تأخذ طريقها في رحلة متعةٍ نحو وسط المدينة.
لكنّ الأحد كان يمُرُّ ومعه مشاريعُ
كلِّ الأسبوع المديدِ بشكلٍ غريبٍ.
ونتيجة ذلك كانت سحبٌ للنوستالجيا تسقط
خلال ستّة أيامٍ مثلَ قبضاتٍ.
■ ■ ■
الخبز اليابس
أن يشربني الأرَقُ حتّى آخر قطرة.
أن أهرب مسافةً عبر الحقل وذراعاي تمتدّان
على مصراعيهما.
أن أعرفَ من أيِّ غَمٍّ تأتيني القصائد.
أن أخلع ثوبي بألمٍ وبلا دموعٍ.
أن أقضم الخبز اليابِس من أنانية الآخرين.
أن أغرق في الجلبة التي تغزوني من الداخل.
أن أخرج من المسرح الذي يُقدَّم لي كلَّ يومٍ.
أن أشبكَ الصُّدودَ بعِقدٍ مِنْ صقيعٍ.
أن أغرز وسادة دبابيسي إبراً صدئة.
أن أمزّق إرباً الساعاتِ التي تُثقل صدغي.
أن أغرق شيئاً فشيئاً مع هذا الحِمْلِ المفروض.
أن أنتظر اللحظة التي تنفجرُ فيها المرارة.
■ ■ ■
بعد أربعين سنة
في الجانب البنّي الداكن من صورتك الفوتوغرافية،
بعد أربعين سنة، أمسية بين أصدقاء
قد أتى موتك وحُسنك ليؤلماني
بينما لديّ في يدي مثل هذا الورق المقوّى الضئيل
وفي ظلِّ فناءٍ من الدريقاتِ والسرخس
تبقى هادئاً في كرسّيك الهزّاز المصنوع من صفصافٍ رهيف.
كانت تدور جنبَ الجسر عجلةُ مطحنة أبي
حينما فوق حاجز النهر أطلقوا عليك الاسم
وأفرغ رئيس الملائكة بغتةً يديكَ.
بعد توهّج تموز، بعدُ ما تزال الأرض
قاسيةً في رهبةٍ وثابتةً بشكلٍ جميلٍ.
■ ■ ■
ينبلِجُ الفجر
مَشاغلُ الرصيفِ
تستيقظ مَعَ انبلاج ضوءٍ ما.
تعودُ مراكب الصيد
من اتجاهاتها الزاوية
وسفنُ القطر
ترافِقُ بمَكرٍ
سفينةَ شحنٍ مُحْمَرَّةٍ
مِنْ حديدٍ وآلياتٍ.
■ ■ ■
ليلة معتمة
الذي يُزاحم الليل تحت الحجابِ، يعود
ليتنكَّر لي كضيفٍ على حُبِّهِ اليوميّ،
والكلمة - همسة النَّفَسِ الخافتة،
التي بالكاد لها معنى - مع القبّرة الأولى
تنسج حبكة اليأس الهشة:
ضدَّ ذاته يُقاتل مَن يحارب وحيداً.
العشيق الأصعب الذي ألاحقه حتى الفجر:
في فراغك تعثر قصيدتي على صورتها.
■ ■ ■
خورخي مانريكي
لهذا الضوء الذي يخلقنا ويدمّرنا في الآن ذاته،
ينزل الحمامُ من أعشاشه ليرتوي:
حتّى المياه على الضفّة تضربُ أعناقه
ثم ترفعه، والنهرُ الذي يحمل صورتَه
يأتي لِيصُبَّ مياهه في البحر، في آنٍ تحلّق
عارية حقّاً من الظلال، نحو أبراجها، أبراج الحمام.
■ ■ ■
بحيرة فوينتبيدرا
وصلتُ لمَّا كان ضوءٌ مُحتضرٌ يتلاشى
شرعَتْ طيور النحام في تحليقها تاركةً
المكان في بهائه الأحمر الذي لا يُحتَمل.
بعدئذٍ عرّضتُ جسدي للهواء. كنت أنحدر
باتّجاه الضفة، أرض التنانين النائمة
بين نباتات تنمو فقط في ذكرياتي.
رفعتُ بأصابعي بلّورَ المياه،
تأمّلتُ صمتها وتغلغلتُ في ذاتي.
■ ■ ■
ذلك الضوء
التقطي ذاتك يا روحي. إنه مُجرَّدُ البَهاءِ
الذي يأتي ويصبغُ السَّماء ويبهركِ ثمَّ يمرُّ.
احفظي بعدُ في يديك ذلك الضوءَ الذي يتلاشى.
شيءٌ مَا يُدَبِّرُهُ الليلُ: إنّه يعمي الظلامَ أيضاً
وله سماءٌ خاصّة لمعاكسَةِ المياهِ.
الأسماك التائهة تتلمَّسُ وحلَ الموتِ.
في الشرفة، تكسرُ الرِّيحُ ساقَ عُودِ النَّدِّ.
■ ■ ■
اليد
حينما، بعد غسلِها بالمياه المُلمِّعَة،
أُدْنيها لكي ألهوَ وأدفّئها في صدري،
كمْ هيَ صغيرةٌ هذه اليدُ التي أُقابلُها بيدي،
لُعبةُ حبٍّ وضحكات على ضفّة الحلم:
يده الرضيعة، التي تحاول أن تنهض،
والتي تسلبني وتغمرني بفيضها في الآن ذاته.