ولد الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتين في النمسا( 1889-1951)، قضى زمنا في البحث والتأمل، ومدة في التدريس، وأخرى في عالم العزلة كاختيار بعيدا عن عالم التفكير في الفلسفة والمنطق واللغة، خلوة وعزلة بالنرويج لمدة معينة بعيدا عن أسوار الجامعة قصد التفكير في المشكلات الفلسفية الجديدة، عُرف الفيلسوف بكتاباته الفريدة التي تركت بصمة على الفكر الفلسفي المعاصر. تجليات الكتابة في عالم يرفض كل ما هو قديم وكلاسيكي، ويرغب فيه المفكرون للبحث عن أفق للتفكير في قضايا معينة بشكل من الوضوح والدقة، بعيدا عن لغة الميتافيزيقا، وبعيدا عن يقين المنطق وموضوعية العلوم، رسم الفيلسوف مسارا للفلسفة ومهمة للفيلسوف، إنها معركة حامية وصعبة في ظل الغموض والبلبلة التي تعتري أفكارنا من جراء ما تقدمه الميتافيزيقيا من مفاهيم غامضة وعسيرة على الفهم، كل ما ترسخ في الذهن من كلمات وألفاظ تستدعي الإفصاح والفهم نتيجة الاستخدام السيئ للغة، معظم الأفكار والمفاهيم التي قدمها الفلاسفة في المراحل السابقة ثابتة وراسخة، والعبارات التي يقدمونها عالية التجريد ومفعمة بالالتباس والتعقيد، لذلك يقدم الفيلسوف فيتغنشتين تفكيرا بديلا في ظاهره يبدو سهلا وبسيطا، وفي باطنه كذلك يحمل التعقيد، ودرجة معينة للفهم، عندما يشير بدقة إلى وظيفة الفلسفة في عالم اليوم، ومهمة الفيلسوف في توضيح الأفكار عن طريق تحليل العبارات، أي تحليل المشكلات الفلسفية من خلال تحليل دقيقة وواضح للعبارات، والتحليل في رأيه لا يضيف معرفة جديدة إلا أنه يتيح لنا إمكانية الفهم الصائب للمشكلات دون لغة التجريد، أشبه كما قال توضيح للذبابة طريقة الخروج من القنينة، أو هكذا نفهم رهانات الفيلسوف من أجل ميلاد تفكير فلسفي يهتم أصلا بالمعنى، ويمنح للغة قيمة في توصيل الأفكار والمعاني للآخرين، وبالمقابل، مهمة الفيلسوف في العمل على فهم الكلمات والألفاظ دون الحاجة للتأويلات والشرح المستفيض، من هنا حدد فيتغنشتين هذه المهمة في التحليل الفلسفي للغة الذي يؤدي إلى توضيح الفكر، بحيث تصبح اللغة الطريق نحو المعرفة، كما يرسى الفهم الدقيق هنا الإدراك الجيد للوقائع، وانتشال التفكير من الأخطاء والأوهام العالقة، فغالبا ما يستبدل الفيلسوف التعريفات بالأمثلة، ويرغب في توصيل الفكرة الأساسية أن الكلمات تحمل الكثير من المعاني، وتحليل اللغة مرتبط بتحليل العالم، لأن فكرة التحليل تعتمد على فهم العالم والوقائع بلغة واضحة، والنظر للغة كمجموعة من القضايا الذرية والجزئية التي تنحل إلى أسماء، وليست اللغة كنسق من العلامات والرموز كما يتصورها التعريف اللساني مع دوسوسير وغيره من العلماء .
عندما نقتفي مسار التأثيرات الفلسفية أو رواسب التفكير السابق في فلسفة فيتغنشتين نعثر على علماء أمثال فريجة وراسل، والسابقين من الفلاسفة التجريبيون خصوصا دافيد هيوم، وكذلك رواسب من أفكار الفيلسوف شوبنهاور، أي ما يتعلق بالأفكار والانطباعات الحسية، والأثر الذي يترسخ في الذهن بعد زوال المؤثر، كذلك النظر إلى العالم كتمثل وجملة من الأسئلة عن الحياة، وكيفية العيش بتناغم بحثا عن السعادة والسكينة، أي فن العيش . عندما نصير بالفلسفة نحو أهدافها كقوة علاجية وأسلوب في الحياة بعيدا عن المعاناة وسلب الإرادة . الأشياء تشكل جوهر العالم، ويتشكل هذا العالم من وقائع مادية ، والتحليل يبدأ من العالم ويقسمه إلى وقائع مادية، وينظر للغة بوصفها عبارات وألفاظ وكلمات دالة كما تحتوي على معنى، غايته في ذلك أن ينزع عن الفلسفة غموضها وطابعها السحري والتجريدي، ويقر بقيمة المعنى الذي نسبغه على الأشياء والحقائق، أما تحليل العبارات، يعني تحليل للفكر في صورته، وعندما نحلل بعناية، القصد ليس الإضافة والزيادة في المعاني، بل القصد الوصف والتوضيح، هنا يمكن القول أن فيتغنشتين قارئا لفلسفة كانط، وملما بفلسفته في قيمتها المعرفية، وفي الحدود المرسومة للفكر، ما يتعلق بالظواهر والشيء في ذاته، والتمييز كذلك بين القضايا التحليلية والقضايا التركيبية، قضايا تقبل التحليل كالقول مثلا يتمدد الحديد، والقضايا التركيبية تزيد في توسيع فهمنا للموضوع، وتهدف للتوضيح والإضافة كالقول كذلك يتمدد الحديد بالنار، إذن هناك عنصر جديد أضيف للفهم والاستيعاب، وبإمكانه أن يوسع فهمنا عن الأشياء، فلا مجال للعبارة الزائفة، وبالتالي تتحدد وظيفة الفلسفة بالدرجة الأولى في تحديد العبارات، والتحليل أسلوب في الفهم والية في الشرح، وتقريب المعنى بدقة دون أن يكون غاية فلسفية، أو بمعنى أدق طريقة توضيح الأفكار، وحل معقول للمشكلات الفلسفية، عندما نزيل عن الفلسفة التجريد، وما يتعلق بالمتعالي والصوري، لأن الوقائع بذاتها تنحل إلى أشياء، والعالم مكون من جزئيات أو ما يسميه بالوقائع الذرية .
اللغة هنا تقدم الفكر في طبيعته البسيطة والقابلة للفهم والاستيعاب، لا معنى للقضايا والمفاهيم الميتافيزيقية، إنها خارج سياق الحس، بل خارج سياق الوصف والتوضيح، مفهوم الجوهر وعالم المثل والعقل الخالص والمطلق والموناد مفاهيم الفلسفة الحديثة كلها غامضة، أي ما يتعلق بالمفاهيم المجردة التي تستدعي من القارئ جهدا ذهنيا، وإيصالها للآخر ينطوي على صعوبة في الوصف والتفسير . الكلمات الدالة على الواقع لا تعني بالأساس التطابق بين اللغة والفكر، أو ما يعتقده علماء اللسانيات من منطلق العلاقة الاتصالية بينهما، نعتقد هنا أن فيتغنشتين يقيم علاقة بديلة عندما يولي أهمية للغة باعتبارها صورة للفكر، والكلمات تمكن من خلق صور للحقائق، والصور التي نعبر عنها ليست مجردة، بل صورة من العالم المحسوس، نلمس المعنى في كلمات الآخرين، نحلل الفكر قصد الارتقاء بالفهم إلى المقاصد والمعاني التي رغب الآخر في توصيلها، كما تهدف الذات إلى نقلها للآخر، إنها مهمة الفيلسوف للكشف عن الحقيقة في عالم مادي واقعي، فلا معنى للحقيقة الصورية المجردة، اللغة أداة للتواصل من جهة، وأكثر من ذلك أداة في فهم الحياة دون اختزال الكلمات في المعاني المبهمة والغامضة، ثورة فكرية وفلسفية تبدو في أبعادها تخليص التفكير الفلسفي من الميتافيزيقا، غايتها إنهاء احتكار الفلاسفة للغة الفلسفية، ثم الكشف عن الغموض الذي يعتري الفلسفة السابقة، تصورات الفيلسوف انعطاف في مسار التفكير الفلسفي، مسار مغاير في الكتابة، والتفاف على اللغة في تبسيط الأفكار وخلق المعنى، وما تحمله اللغة من دلالة ثقافية وحمولة معرفية. فكل ما قدمه من إسهامات سواء في المرحلة المبكرة من حياته في كتاب “رسالة فلسفية منطقية ” أو في المرحلة المتأخرة من خلال كتاب” أبحاث فلسفية”، هذه الأعمال نتاج للمرحلة العمرية من التحصيل والتكوين في جامعة كامبريدج، ونتاج للاحتكاك مع فريجة وراسل، والاطلاع على الجانب العلمي وقراءة متأنية للتراث الفلسفي الغربي، في قراءة للفكر الفلسفي الجديد عند نيتشه وهايدغر وغيرهم من الذين اهتموا باللغة، ومدى تأثير الفيلسوف في حلقة “فيينا” والوضعية المنطقية، إنه المنعطف اللغوي، موضوع الفلسفة الذي يعني العلاقة المتينة بين اللغة والفكر، هذا الخط المتصل يضفي على العالم معنى، وعلى اللغة قيمة باعتبارها صورة للعالم .
نعتقد أن العناية باللغة يعود للتغير الذي طرأ على الأبحاث اللغوية في مجال علم اللسانيات، والتوظيف المهم في مجال الأنثروبولوجيا البنيوية مع كلود ليفي ستراوس، والسياق الفلسفي المعاصر في اعتبار اللغة مسكن الوجود والإنسان حارسها في تعبير هايدغر، لكن المنعطف هنا يعني إعطاء أهمية بالغة للغة باعتبارها تصويرا للعالم المادي الواقعي، وعند ذلك يصبح الواقع عبارة عن مجموعة من الحقائق التي تقدم نفسها، وتفرض ذاتها على الإنسان، ومن ثمة تبدو مهمة الفيلسوف كما يحلل فيتغنشتين علاجية وصفية أكثر مما هي تفسيرية حتمية . اللغة هنا أداة في تفكيك المعاني، وتحليل المعنى الموجود في الخطاب، البحث هنا في عمل اللغة، وليس في النظر إليها كبنية أو البحث في وظائفها الأساسية، اللغة في تداولها واستخدامها من خلال السياقات والدلالات، الأمر الذي يقودنا للفهم مع فيتغنشتين أن اللغة أشكال من حيث الاستعمال، وتوظيف الكلمات الدالة على مجال معين، لا يمكن المشاركة في المجتمع والانغماس في قلب الجماعة إلا بتعلم قواعد معينة، ما نفهم منه في القول بالألعاب اللغوية درجة استيعاب الكلمات، ولن يتحقق ذلك إلا عندما نقوم بشحن المعنى، ونمنحها الدلالة الممكنة للتعبير عن الوقائع ، مبدأ التحقق على خطى فيتغنشتين وليس كارل بوبر ، اللغة هنا لا تزيد عن لعبة، كلمات وصور في ذهن حاملها، والمعنى يتحقق في الاستعمال، وفي السياق الاجتماعي، وطبعا لا يعدو أن يكون التعريف هنا أن اللغة عبارة عن مواضعات وترميز للأشياء، في الاستعمال والكلام يتحقق المعنى الذي نصبغه على الأشياء والوقائع . وما لا ينبغي للمرء أن يتحدث عنه يجب الصمت فيه، يعني أن الكلمات الدالة والحاملة للمعنى تكون قابلة للتوصيل والفهم من قبل الآخرين، أما الكلمات المغلفة بالتجريد فلا معنى يتحقق منها، من هنا يعتبر الفيلسوف أن وظيفة الفلسفة في التحليل والتوضيح، ولا تبحث الفلسفة في ماهية الأشياء بل في العبارات .
الفلسفة نشاط وفاعلية، معركة ضد الغموض والتشويش الذهني نتيجة للاستخدام الخاطئ للغة، أمراض الفكر أو أوهام الحقيقة على طريقة تحليل فرنسيس بيكون للحقائق ومصداقية بناء المعرفة، ونقد الفيلسوف الألماني نيتشه لمصادر الأوهام التي ترسخت في الذهن، ونتج عنها الأخطاء التي ظلت عالقة في تاريخ الفلسفة، أوهام العقل كصنم يجب تحطيمه، وخلخلة ترسبات المعاني والمفاهيم المجردة، وأوهام اللغة التي نقلت المعاني والأشياء بالكلمات وكأنها يقينيات صلبة، بينما اللغة مجرد استعارات وكنايات ومجموعة من الصور البلاغية، قوة اللغة في الوصف والتحليل وإزالة اللبس والغموض عن الكلمات حتى تتجلى الرؤية، ويتضح التوضيح المنطقي للأفكار. فاعلية الفلسفة ومهمة الفيلسوف، يعني التجاوز النهائي للأنساق المغلقة، لأن الفلسفة لا يمكن أن تكون مذهبا مكتملا بل فاعلية ونشاط، ولذلك يجب اعتبار فيتغنشتين من طينة الفلاسفة الكبار، منعطف في تاريخ الفكر المعاصر، ملهم التيارات الفكرية المعاصرة، سيرته الذاتية وعبقريته فعلية باعتراف الدارسين لأفكاره، لا ينبغي قراءته على ضوء سيرته الذاتية، ولا يمكن اختزاله في نسيانه للقضايا الفلسفية الكبرى، أو في تمرده على النماذج المثالية، يمكن القول أن التفكير السائد في تلك المرحلة نهل أكثر من الوضعية العلمية، والتمرد على التفكير النمطي الخطي من هيمنة العقلانية والتجريبية والنزعة النقدية، إنه يكتب لجمهور معين يفكر بطريقة مختلفة كما قال صديقه جورج وايت، نوع الكتابة لا تحتاج تعقيدا، تفكير في غاية البساطة والمرونة بعيدا عن السياق الميتافيزيقي والمفاهيم العالية التجريد، هذا النوع من التفكير أشار إليه كذلك هايدغر في نهاية الفلسفة ومهمة التفكير، يعني ببساطة انتهاء مرحلة تأثير الأنساق الكبرى، وظهور نمط آخر من التفكير، يبقى الفيلسوف فيتغنشتين مثالا للفلاسفة الذين كتبوا من منطلق التفكير في الحياة والإنسان بلغة مكشوفة وبسيطة، محاولا إقامة نمط جديد من التفكير يولي قيمة للغة والمعنى والواقع، قوة الفيلسوف الكبيرة في تحويل مسار التفكير الخطي في القضايا المستهلكة، فتح مسارا بديلا للتفكير في اللغة والفكر معا، إضافات معقولة في رحاب الفلسفة التحليلية، ومنحى آخر لما يسمى بالمنعطف اللغوي الذي شكل مجالا خصبا للدراسات الخاصة باللغة من المنظور الفلسفي،في علاقة اللغة بالواقع، وعلى مستوى التداول والتواصل، وما يرمي إليه الخطاب الفلسفي بعيدا عن هيمنة الأنساق الفلسفية الكبرى مع الإلمام بالعلم والمنطق، وقراءة الممكن في ألعاب اللغة ومستويات الاستخدام . وما يجعل القارئ أو الناقد يتيه في متاهات أفكاره قلة الكتابات وكثرة التأويلات، يلتف الفيلسوف على المشكلات الفلسفية من خلال اللغة كطريق للمعرفة، ونقول أن المشكلات الكبرى في الفلسفة كثيرة ومتنوعة، تنصب على الوجود الإنساني، والتيه والاغتراب الذي يعانيه الإنسان من جراء هيمنة التقنية وعصر الاستهلاك، وما يتعلق بالوعي والحرية وإرادة الإنسان في التغيير ، قضايا شائكة اليوم في عالم يزداد غموضا وينمو فيه الخوف من المجهول .