كتب الباحث نيكولا كار في «هل يجعلنا غوغل أغبياء؟»: «كنت في ما مضى، وأنا أقرأ، أغوص في بحر الكلمات. أما الآن فإني أتزحلق على السطح، مثل أي شخص يتزلج على لوحة جت ـ سكي» (1965 ـ 2011). تختصر هذه القولة ما طرأ على القراءة من تحولات بسبب الانتقال من الورقي إلى الرقمي. فإذا كانت القراءة سابقا، مع الكتاب، عمودية وخطية، تتطلب من القارئ، لكي يتفاعل مع أي نص أن يقرأه من البداية إلى النهاية، وأن يتوقف بين الفينة والأخرى، أمام جملة، أو فقرة، معيدا القراءة، ليتمكن من فك شيفرة ما يختزنه النص، أو يضمره، أو أنه يؤشر أو يكتب على هامش النص ملاحظات، أو يخط علامات، أو يسجل ما يقرأ في كراس بجانبه، مؤملا إدراك ما يقدمه له النص ليحتفظ به، ويعود إليه وقتما شاء.أما القراءة الأفقية التي يفرضها الوسيط الرقمي فإنها قراءة مختلفة تجعل المتلقي ينتقل بين العُقد التي يقدمها له النص المترابط. ويمكنه ألا ينهي قراءة «صفحة الشاشة» أمامه ما دامت تتيح له إمكانية تنشيط الروابط التي تسمح له بالانتقال بين العقد النصية. وكلما أحس بأنه «يسبح» في فضاء لا حد له، قد يعود إلى الصفحة الأولى، أو قد يظل تائها حتى يغلق النص الذي يتفاعل معه. إن التفاعل مختلف بين القراءتين العمودية والأفقية، لأن لكل نص شروطه وإكراهاته. ولا يمكن للمتلقي أن يتفاعل بصورة إيجابية مع أي نص ما لم يكن قد اكتسب عادات قرائية تتلاءم مع النص المتفاعل معه. ولا يمكننا هنا أن نفاضل بين الورقي الذي يقوم على أساس الخطية، والرقمي الذي يتميز بطابعه الترابطي. فلكل منهما خصوصيته التي تتلاءم مع الوسيط الموظف في إنتاج النص وتلقيه.
ولا داعي للمقارنة هنا مع النص الإلكتروني الذي هو في الأصل نص ورقي ـ خطي، وتم نقله من الورق إلى الشاشة عبر إحدى البرمجيات التي تسمح بهذا التحويل. إن النص الورقي المحول إلكترونيا نقل من بيئته الملائمة له إلى بيئة مختلفة، لذلك على القارئ أن يتعامل معه، بقصد تحقيق نوع من التفاعل، تعامله مع الكتاب الورقي، ولاسيما أن هناك بعض الوظائف التي تقدمها بعض تلك البرمجيات، والتي تتيح له التأشير، من خلال بعض الأيقونات، على بعض الكلمات، أو الفقرات، أو كتابة بعض الملاحظات، مع تسجيلها ليحتفظ بها في نسخة جديدة من الكتاب نفسه. وإذا لم يقم المتلقي بممارسة هذا النوع من التفاعل مع الكتاب الإلكتروني لا يمكنه البتة الاستفادة منه، ولاسيما إذا كان الكتاب كبير الحجم.
إننا كما نكتسب عادات في القراءة بهدف التفاعل مع المقروء، علينا تطوير علاقتنا بالوسيط، وكل الذين يجدون صعوبة في قراءة كتاب إلكتروني لم يحولوا مهارتهم القرائية لتتفاعل معه، وهو على الشاشة. ويمكننا قول الشيء نفسه عن النص الرقمي المبني على تقنية «النص المترابط» فإذا لم يكن المتلقي قد طور علاقته مع القراءة العمودية، وفق ما تقتضيه من شروط وإمكانات لتحصيل التفاعل الإيجابي، لا يمكنه إلا أن يظل تائها بين الروابط والعقد، لسبب بسيط هو أن القراءة الأفقية تطوير للقراءة العمودية، ومختلفة عنها، تماما كما يمكننا أن نقول عن العلاقة بين النص الشفاهي والكتابي. إن السامع الذي لا يحسن الإنصات إلى النص الشفاهي، لا يمكنه أن يتفاعل مع النص الكتابي. إنها مهارات واحدة ومشتركة، لكنها قابلة للتحول بتحول الوسيط الذي نتعامل، أو نتفاعل معه. ويمكن لهذا أن يكون موضوع اختصاص خاص حول القراءة، وآليات تطويرها لتتلاءم مع أي وسيط.
لا أفهم من التمييز بين «الغوص» في العمق، و«التزلج» الذي يظل على السطح، أي مفاضلة بينهما، فليس الماضي الذي كان أحسن من الحاضر القائم. فإذا كان الغوص «مهارة» تتطلب صبرا، ومجهودا زائدا يفرضه واقع المحيط الذي نتحرك فيه (البحر) فإن التزلج تحت الأمواج العالية يتطلب بدوره تمارين، وصبرا، ومهارات خاصة تكتسب بالمران والمداومة. وكما أن الغواص يمكنه أن يصل إلى الأعماق دون أن يحصل على صدفة، يمكن للمتزلج أن يقع أمام قوة موجة لم يتمكن من التحصن أسفلها، لا مفاضلة بين الغوص، والتزلج فكلاهما يتطلب مجهودا وتربية، ودون التربية على التفاعل لا يمكننا إلا أن نظل على السطح، وإن زعمنا أننا غصنا في الأعماق. إن الكثير من القراء يقرؤون كتابا بأكمله ولا يمكنهم تحصيل أي معرفة منه، ويستوي في هذا الهواة، والمحترفون.
ربط المعرفة بالبحر، دال على أهمية التفاعل الحقيقي. يضرب ابن المقفع مثال قارئ كليلة ودمنة بالصياد الذي رأى صدفةً تتلألأ، فتوهمها جوهرة، وألقى شبكته في البحر، فاشتملت على سمكةٍ فخلاها، وقذف نفسه في الماء ليأخذ الصدفة، فلما أخرجها وجدها فارغة. ورأى مرة أخرى صدفة، حقيقية فتركها كي لا يكرر التجربة، واصطاد سمكة صغيرة. وجاء صياد آخر، فوجدها درة نفيسة لا تقدر بثمن.
كاتب مغربي