منذ أن بدأ الوسيط الرقمي الجديد يفرض نفسه، حتى طرأت تحولات كبيرة في إنتاج النص وتلقيه على المستوى العالمي. فكان من ثمة تحويل، ما كان يتداول سابقا ورقيا ليتلاءم مع هذا الوسيط، من جهة. كما بدأ الإعداد، من جهة أخرى، لإنتاج النص وغيره بواسطته، دون المرور من الوسيط الورقي. وكانت النتيجة أن بات التصور السائد هو أننا نعيش عصر التحول من الورقي إلى الرقمي، وكانت كل المجهودات تصب في هذا المنحى. ويشهد ما نلاحظه اليوم من تحول الصحافة الورقية وغيرها إلى المزاوجة بين الوسيطين، بحيث صار في الإمكان قراءة الجريدة والكتاب ورقيا ورقميا. بمعنى أنه أصبح كل شيء قابلا لأن يتحقق من خلال هذا الوسيط الجديد. وهذه طبيعة التحول التي تطرأ مع أي وسيط جديد. إنه يفرض نفسه، ويدعو ما كان ينتج من خلال وسيط قديم إلى الانسجام مع الجديد، دون أن يكون في ذلك إقصاء لما كان يتداول قبله.ساهم العرب في مرحلة التدوين في تحويل النص العربي إلى الكتابة، ولولاها لما كان في إمكاننا التعرف على ما أنتج في عصور خلت، فالذاكرة الجماعية تتعرض للنسيان والتلاشي، ولاسيما مع مرور الزمن، وتبدل الأوقات. كان انتقاء النصوص التي رآها العرب مجسدة لتصوراتهم للعالم هو السائد في عملية التحويل هذه، فتشكلت بذلك معالم ثقافة ستكتسب مع الزمن صفة «الثقافة العالمة» وظلت هي الممثلة للذاكرة والمتخيل الجماعيين، لكن ظهور ثقافة موازية هي ما سنسميها «الثقافة الشعبية» ظلت تعتمد الوسيط الشفاهي، ولم يتم تحويلها إلى الكتابة لأسباب متعددة، لذلك حين نقارن ما نُقل إلى الكتابة العربية مع ما ظل ينتج من إبداعات مختلفة نجد أن ما يتصل بالثقافة الشعبية ظل مهملا، ومستبعدا من الكتابة، ومحولا إليها، رغم أنه على مستوى الكم ظل هائلا، ومتداولا على نطاق شعبي واسع، ولذلك بقيت الذاكرة الشعبية العربية تتناقله شفاها.
أتيح لبعض هذه الإبداعات الشعبية أن تتحول إلى الكتابة، وأن تفرض نفسها، وتكشف بالملموس أنها لا تقل أهمية عما ينتج في نطق الثقافة العالمة. وأضرب هنا مثال السير الشعبية، والليالي، والشعر الشعبي، وغيره.
ظل الشعب ينتج ثقافته الخاصة، ويتداولها في المجالس الشعبية، والساحات العمومية، وبسبب سيادة الأمية خلال فترات انحسار الحضارة العربية، لم تتحول هذه الإنتاجات إلى الكتابة. لكن ظهور الوسائط الجماهيرية، في العصر الحديث، خاصة مع المذياع، والحاكي قارئ الأسطوانات التقليدية، وبعد ذلك آلة التسجيل، وانتشار المؤسسات التي تعنى بتسجيل الصوت، وبعد ذلك الصورة مع الفيديو، وجد الفنان الشعبي العربي، الوسيط الذي يمكنه من إبلاغ صوته الفني والجمالي، و»تسجيله» أي نقله من الذاكرة إلى وسيط. لقد ساهم هذا الوسيط في نقل الكثير من الإنتاجات الغنائية والمسرحيات الفكاهية التي كانت تتداول في الساحات العمومية، وكانت تعبر عن هواجس الشعب، وآماله وآلامه، وكان التفاعل معها قويا ومهيمنا. مع تطور الوسائط وانتقالها مما كانت عليه إلى الوسيط الرقمي، تلاشت الأسطوانات القديمة والأشرطة والفيديو، وصارت جزءا من التاريخ، ولم يبق لها أي وجود أو تداول. لقد عوضت بالوسيط الجديد، وابتدأت عملية تحويل ما كان يتداول من خلالها إلى برمجيات جديدة تسمح بالتفاعل معها من خلال الوسيط الرقمي.
من يبحر الآن في الفضاء الشبكي متنقلا بين البرمجيات التي تقدم الإنتاجات الشعبية العربية في مختلف لهجاتها، وأجناسها وأنواعها، لا يمكنه إلا أن يتعرف من جهة على تراث شعبي عربي أصيل كان مهملا و»مجهولا». كما لا يمكنه، من جهة أخرى، إلا أن يثمن المجهودات التي عملت، بوعي فطري، لا توجهه تصورات أكاديمية ولا علمية، في عملية التحويل هذه. كان عشق التراث الشعبي وراء عملية تحويله، بهدف الإبقاء والحفاظ عليه، والاستمتاع به أيضا. لقد انتقل هذا التراث، وهو غزير، من الوسيط الشفاهي إلى الرقمي عبر الوسيط التقليدي الذي ساهم في تسجيله، صوتا وصورة.
بات الوعي بأهمية الثقافة الشعبية يتزايد الآن عربيا، وإن كان الاهتمام دون مستوى التطلعات. ويفرض علينا هذا الوضع طرح التساؤل حول كيفية التعامل مع هذا التراث الذي نتفاعل معه الآن بواسطة الوسيط الرقمي؟ كيف يمكننا البحث فيه والاشتغال به؟ أم أن علينا فقط، أن نظل نستمع إليه ونستمتع به في لحظات معينة؟ أحيانا أجدني أبحر في فضاءات من التراث لم أكن على صلة بها، فأجدني أستمع إلى أغان، وقصص وحكايات بلهجات عربية متعددة، لا تقل أهمية أو متعة عما هو متداول، فأجد في كل هذا تراثا أصيلا وعميقا لا نهتم به، ولا نعترف بقيمته التاريخية والاجتماعية والجمالية. ولما كان هذا التراث الشعبي متفرقا ومشتتا في الفضاء الشبكي لا يمكننا أبدا التعرف عليه دون عملية جمعه وتوثيقه وتدوينه كتابيا لكي نتمكن بعد ذلك من دراسته والبحث فيه. إن الدعوة إلى نقل هذا التراث الغني والمتنوع من الوسيط الرقمي الذي يحتضنه إلى الورقي ضرورة ملحة للتعرف عليه وبحثه ودراسته.
كاتب مغربي