عند الطيب الصديقي يجد المتفرج المعنى الحقيقي للمسرح، في جوهره الفني والفكري والدرامي، ومتعته الخالصة أيضاً. فقد كان الفنان المغربي الراحل مسرحياً بحق، يمتزج المسرح بدمه وأعصابه، ويشغل المساحة الأكبر في روحه ووجدانه. أقام في بلده المغرب مركزاً مسرحياً ثقيلاً، إلى جانب آخرين من المسرحيين المغاربة. لم يصنع الصديقي مكانته كقطب مسرحي مهم في البلدان العربية وحسب، فهو من المسرحيين العرب القلائل الذين أثبتوا حضورهم العالمي، والقدرة على التنافس المسرحي مع الغرب. وعلى الرغم من انفتاحه على الثقافة الغربية وعمله في المسارح الفرنسية، إلا أن جزءاً كبيراً من مشروعه المسرحي كان تأصيلياً إلى حد بعيد، يربط المسرح العربي بجذوره القديمة، التي إن لم تكن مسرحاً مكتمل الهيئة والأركان، فإنها كانت أشكالاً مبسطة، أو أفكاراً أولية عن فن المسرح، تعبر عن الاحتياج الإنساني الفطري إلى هذا الفن، وإلى الاجتماع في مكان ما لبعض الوقت، لمشاهدة وسماع حكاية من الحكايات، مهما اختلفت أساليب التعبير عنها.كان الصديقي مثقفاً من الطراز الرفيع، واعياً بكنوز الخيال الموجودة في التراث العربي، وذخائر الجمال الكامنة بين صفحات الكتب القديمة، ومنتبهاً إلى ضرورة إظهار هذا الجمال، ودمج الخيال القديم بالواقع العربي المعاصر. ومن أجمل الأمثلة على تواصل الطيب الصديقي مع التراث العربي وفنيّاته الأدبية، مسرحية «مقامات بديع الزمان الهمذاني» التي ألفها وأخرجها سنة 1972. ومثّل فيها أيضاً دور أحد أبطالها، وهو أبو الفتح الإسكندري. كتب الصديقي نصاً مسرحياً جديداً من وحي المقامات، التي دونها بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وأعد بعض المقاطع من هذه المقامات ليقدمها في مسرحيته. كما تعد هذه المسرحية بحثاً عن العناصر المسرحية في كتابات بديع الزمان. وبدا تعاطف الصديقي واضحاً مع شخصية أبي الفتح الإسكندري، وقدمه كنموذج لكل صاحب كلمة يعيش في عصور الانحطاط العربية المتلاحقة. ومن خلاله صَنَع الدراما والأزمة الفكرية والنفسية، وعدم توافق صاحب الكلمة مع واقع بلاده وأحوالها السيئة. وبمهارة شديدة وإتقان بالغ قام الصديقي بمسرحة مقامات بديع الزمان الهمذاني، وانطوى عمله هذا على بحث في جذور المسرح العربي أيضاً.
عملية المسرَحة كانت مغربية في المقام الأول، وعربية بشكل واسع تشمل جميع المناطق العربية. ينتقل العمل بين الدارجة المغربية واللغة العربية الفصحى، ومنذ البداية جعل الصديقي المكان مفتوحاً، حيث يشرح أحد ممثلي العرض للجمهور، أن المكان: «يمكن يكون ساحة الحلفاويين في تونس الخضراء، ويمكن يكون ساحة هارون الرشيد العراقية، أو العتبة الخضراء النيلية، أو ساحة الهنود الشامية، أو ساحتنا، ساحة جامع الفنا المراكشية». هي إذن ساحة عربية أياً كان موقعها ومكانها، أما الزمان فجعله بعد ألف سنة من كتابة بديع الزمان للمقامات، حيث يجري اللقاء المتخيل بين عيسى بن هشام بطل المقامات، وأبي الفتح الإسكندري بطلها الآخر، اللذين جمعهما كتاب بديع الزمان. وبعد ألف سنة يلتقي بن هشام صدفة بأبي الفتح الإسكندري، ليجده يُرقّص قرداً في الساحات، وينكر نفسه ولا يعترف بهويته، ولا يريد أن يتذكر كلماته وأشعاره، يفضل الصمت، وإن تكلم فإنه لا يُظهر ثقافته ومعرفته، بل يخاطب القرد بكلمات تافهة مضحكة وهو يُرقّصه. ولا تقنعه كلمات عيسى بن هشام عندما يخبره أن الناس يحتاجون إليه، إلى كلماته التي تنير لهم الطريق، وأنه يجب أن لا ينكر نفسه ويخفي حقيقته، ويقطع صلته بالكلمة، ولا يُظهر شخصيته ككاتب بعد أن خلّده بديع الزمان في المقامات منذ ألف سنة. ويرفض أبو الفتح الإسكندري كلام بن هشام بشدة، كمن ذاق الأهوال وعوقب على أنه كان صاحب كلمة، وأنه كان يفكر ويشعر ويعبر، ويرد على بن هشام قائلاً: «اعمل أهبل تربح وتنجح». معلناً عن تصوير الصديقي له كشخصية مأساوية، ومثقف يائس أحبطه المكان العربي بواقعه الأليم.
الرؤية الفكرية والفنية
يقوم إيقاع المسرحية على التقسيم والتتابع والانتقالات، من واقع إلى واقع آخر، ومن الدخول إلى كتاب المقامات إلى الخروج منه، ومن خيال حكاية ما، إلى خيال آخر في حكاية أخرى. في هذه الآفاق المكانية المفتوحة والأزمنة المتغيرة غير الدقيقة، أو التي توحي بأكثر من زمن، حتى عند مشاهدة المسرحية الآن، قد يشعر البعض بأنها ليست بعيدة عن الواقع الحالي، بل هي قريبة منه أشد القرب. وحينئذ يفهم المتلقي رؤية الطيب الصديقي، وما جذبه حقاً نحو شخصية أبي الفتح الإسكندري، ودفعه إلى القيام بمسرحة المقامات. وإلى جانب هذه الرؤية الفكرية، تتجلى مظاهر الرؤية الفنية العميقة أيضاً، حيث تبدو مسرحية مقامات بديع الزمان الهمذاني، كاستعراض سريع مختصر للكثير من فنون المسرح ومحاولاته البدائية. فقد استخدم الأقنعة على سبيل المثال في أكثر من موضع، وهي من أقدم تقنيات المسرح التي تعود إلى زمن الإغريق. كما قدم أمثلة عن الجذور القديمة للمسرح العربي في المغرب، كالبساط والحلقة، من خلال مشاهد قصيرة تحاكي هذه الفنون. وذكر الكثير منها أيضاً على لسان أحد الممثلين الذي يقول: «في مثل هذه الساحة عرفوا العرب أنواع كتيرة من الفرجة، ها الفراجة وها الحلقة، ها البساط وها السر وها الشامية، وها الراوي والحاكي، وها خيال الظل». ثم يشرح بعد ذلك أن بعض هذه الفنون كانت خاصة بالنساء فقط، كالسر في فاس، والشامية في مراكش.
بالكلمة والحركة والتعبير الجسماني، وموسيقى الصوت، يخاطب الصديقي حواس المتلقي. وفي كتابته للنص عمد إلى صياغة بعض المقاطع بدارجة مغربية على نمط المقامات، بهذه الدارجة يتحدث عيسى بن هشام وأبو الفتح الإسكندري في كثير من المشاهد، وبين السجع المركب على أشكال مختلفة، وإيقاع الجملة التي يلقيها الممثل ونغمها الصوتي، والإلقاء الفصيح، وغناء بعض الأشعار بلا موسيقى، والحركة المستمرة على المسرح، يتحكم الصديقي في جميع عناصر العمل بتوازن مذهل، ويبدع في خلق التكوينات البصرية بواسطة الأجساد، وتوظيفها من أجل التأثير في خيال المتفرج، وربطه بصورة معينة وتنشيط حساسيته الذهنية. وهو يتابع مسرحية يمتزج فيها الحزن بالضحك والأسى بالمرح، جعلها مؤلفها ومخرجها مرجعاً لفنون المسرح وبداياته التي أصّلت لوجوده في الثقافة العربية، وخطاً ممدوداً بين عصر الانحطاط القديم وعصور أخرى لم تعرف بعد السمو الإنساني المنشود.
لعبة الوهم
منذ لحظات العرض الأولى، يحرص الصديقي على تهيئة المتفرج، والأخذ بيده تدريجياً، ليدخله في لعبة الوهم المتفق عليها، التي يشترك فيها المتفرج بإرادته، مسلماً قيادتها للمخرج كي يتحكم فيها كما يشاء. فهو يشرح له ما يجري، ويُطلعه على مراحل تكوين العمل، ويُعرّفه بالمقامات وكاتبها وأبطالها. لا يُرهق الصديقي المشاهد، ولا يتركه يضيع وسط هذا العالم القديم. أما الموسيقى فقد استغنى عنها، وكان لعدم وجودها الأثر في جعل المتلقي ينتبه بشكل أكبر، إلى الموسيقى النابعة من الكلمات ذاتها، التي تلقيها ألسنة فصيحة متمكنة من فنون الإلقاء والتنغيم المسرحي. اعتمد المخرج على موسيقى الأصوات البشرية فقط، والأغنيات التي تغنى جماعياً وتوقيع الكلام المقفى، كتلك الأبيات التي تغنيها المجموعة بعد أن يلقيها أبو الفتح الإسكندري لمرة واحدة، وتقول كلماتها: «هذا زمان مشوم، كما تراه غشوم، الحمق فيه مليح، والعقل عيب ولوم». وأغنية «من يعتصم بك يا خير الورى شرفا، الله حافظه من كل منتقم، ومن تكن برسول الله نصرته، إن تلقه الأسد في آجامها تجم» وأغنيات أخرى.
تنقسم المقامات إلى أجزاء، ولكل مقامة عنوانها وموضوعها الخاص، يعرض المخرج بعضاً منها في بداية المسرحية على لسان أحد الممثلين، في إطار التعريف بالمؤلَف، وهذا الفن القديم من فنون الكتابة العربية. يستمر العرض مدى ساعة وأربعين دقيقة، بينما تزخر كل لحظاته بالمتعة والخيال، وإثارة الفكر والتأمل. ولكل مشهد تكوينه البصري الخاص، وتقنياته الإخراجية، وطبيعته التمثيلية والحركية، وحواره الكلامي بنغمه وإيقاعه، سواء النثري العادي، أو المقيد بالوزن والقافية. كمشهد تبادل الشتائم، ومشهد المجاعة الذي يعتمد كثيراً على التعبير الجسدي، وهو من أقسى مشاهد المسرحية وأشدها ألماً. ومشهد رأس الغول، حيث يسير الممثل الذي يرتدي القناع الضخم الذي يغطي كامل الرأس، بخطوات غير بشرية إلى حد ما، ويعتمد مشهد تمزيق الناس لهذا القناع، على حركة الأيدي أيضاً، واندفاع الأجساد نحو هذا الحاكم الظالم. يشعر المتفرج بنعومة الانتقالات، والربط المنسجم بين أجزاء العمل وعناصره، والامتداد المتصل رغم تحولات الحكي، في جو جديد يجمع بين عالم المقامات الأصلي، وعالم آخر صنعه المخرج.
النقد الديني حاضر بقوة في هذا العمل، وكذلك النقد السياسي، حيث يرتبط كل منهما بالآخر، لأن الديني يخدم السياسي في كثير من الأحيان، فيقوم بغسل الأدمغة، ويُخضع النفوس لتتحمل الظلم وتصبر على الطغيان. كما في مشهد السخرية من أحد الشيوخ، الذي يُحبب الفقر والموت للناس، ويعمل على محو أي رغبة لديهم في العيش والحياة، يبعدهم عن الدنيا ويجعل كل تفكيرهم في الآخرة فقط، لكي تخلو الدنيا له ولأسياده من الساسة، فيستمتعون بها وحدهم، وهم يسحقون الناس الذين يحلمون بحياة أخرى عادلة، لكن ليس فوق هذه الأرض ولا تحت تلك السماء في هذه الدنيا.
وفي نهاية المسرحية يؤكد الطيب الصديقي من جديد، تعاطفه مع أبي الفتح الإسكندري، وبديع الزمان صاحب المقامات، حين يقول إن الإسكندري عاش في بلاد هان فيها الناس، بلاد كانت ضد أهل الفكر والفن والأدب. ويقول أيضاً عن بديع الزمان: «بديع الزمان الهمذاني كتب عن الشرق ومحاينو، الشرق وأهلو، الشرق ومصيبتو، واليوم من بعد الإهمال والنسيان، من بعد ما عاش جبراً ومرض صبراً ومات قهراً، واليوم هنا في المغرب، حْيَا أبو الفتح الإسكندري وعيسى بن هشام، يمكن في الشارع أو في السوق أو في الزقاق، يمكن في أي محل، تجد أبو الفتح وهو يُرقص قرده، لكن من هو القرد؟».
كاتبة مصرية
القدس العربي