في ذلك الصباح البارد على غير العادة، الصباح البارد في المدن الرمادية، مدن بلا طعم ولا لون ورائحة، كان ينظر من خلف الزجاج المبلل بالمطر النازل، أمطرت السماء لثماني ساعات على غير العادة.
ابتسم للمفارقة، صغيرا كان مع جده في يوم كهذا اليوم المطير، دون السادسة لكن لا يزال يتذكر، يسيران عبر المدقات الطينية صوب الجامع، يتجنبان الوحل ما استطاعا إلى ذلك سبيلا،، يغلق الجد ضلفتي باب الدكان الخشب، فتغيب رائحة البن والهيل الممتزجة برائحة كحول السبرتاية.
تمتلئ مثانة الطفل فيفعلها بالمسجد.
يا حاج (علي) لا تحضره معك للمسجد.
للجد حضور؛ يقدمه الناس لإمامة الصلاة رغما عنه، كثيرا ما تلكأ على مكان الوضوء حتى تقام الصلاة، وحتى لا تفرض عليه إمامة لا يريدها، في الجامع الذي يتشاجر نصف رواده على الإمامة. بعدها بسنوات، وتحت وطأة نزق المراهقة، والخمر الرخيصة، داخ في الشارع فلاذ بالحائط، حائط المسجد الذي لم يكن قد تبدلت جدارنه إلا بالإفراط في إضاءة الكهرباء، لامس ماء الحنفية النحاس البارد وجهه فانتشى، أذن العشاء فاستحى من الخروج من الجامع. لمحه العامل فقدمه لإمامة الصلاة.
-أهل هذه الناحية لا يحسنون دخول الخلاء.
– صل بنا أنت.
لله در الأجداد يحملون الأحفاد تركة لا قبل لهم بها.
قرأ ما تيسر من حرف قريش وصلى بالناس نصف سكران.
ثلاثون عاما لم تكن كافية ليدرك أنه من نسل عابر، نسل يحيا الحياة كأنها ورطة، نسل يحسبه الرائي مكتملا، فإذا قاربه وجده سرابا. نحن أكذوبة ليس أكثر، أنا السراب، قالها لامرأة في ليلة مظلمة على طريق صحراوي؛ فظنته يمزح ويتواضع كما يتواضع الفالحون. ضاجعها تحت سماء غاب قمرها، فظلت تلاحقه، وكلما ابتعد بخيباته، زادت مطاردتها. كفت عن الركض حين تعبت، أنت فعلا كذبة.. كذبة محكمة الصنع. قالتها ورحلت. كان يعلم هذا، يعلم الخوف الكامن فيه جينيا، وعلى امتداد العرق. كأطفال شاخوا فجاءة وتعملقت الأشياء من حولهم. ما زلنا صغارا لم نكبر، وحدها السنون هي التي فرت فما ذنبنا نحن؟! كان يعلم أنه من عرق يتوارث الانسحاب ويتواصى به.
ـ أجدادك فتحوا هذه الأرض، أتوا من الصحراء البعيدة فالتهموا خضار المدن. هل هي ذرية تحمل خطيئة التأسيس؟ لتخلف نسلا خائفا من الدنيا والآخرة، ونارا وقودها الناس والحجارة.
يهرب الجد من واقعه، يتلوا قرآنا عربيا آناء الليل وأطراف النهار، كأنه نص سحري، سيذيب جلاميد الواقع المستعصي على الفهم. يحدثه الناس عن جده الأكبر بما يشبه الأساطير؛ يستفتيه الناس فيفتيهم. يفض المنازعات. يجمع عائلة لا تجتمع. تبرأ منها لاحقا جده الأصغر. جاحدون ماكرون. تركوا أباه مريضا.. مات فقيرا وحيدا بعدما أنفق عليهم ثروته. أنت من نسل صالح؛ أولياء.. قالها له تاجر قماش عجوز في المدينة.. كانت زوجته بجواره فانتشى من كلامه، أنت حفيدهم! رحمة الله عليهم. فعلها بأنفه حين أعطاه ظهره. لم يكونوا سوى مغفلين.
في عِلِيّة الدار القديمة يكتشف خبيئة كتب الجد الأكبر، يا لفخامة الاسم، الجد الأكبر! أزهريا حصل على العالية، فيما فضل التجارة عن العالمية. حاشية البيجوري على متن الغاية والتقريب. الجمل على الجلالين، تفسير البيضاوي والنسفي.. طباعة غريبة بأحرف بارزة، وصفحات مقسمة بطريقة طولية، حمل يوما ما شيكارة من هذه الأوراق، ووضعها أمام أمه الجالسة أمام الفرن. احرقي هذا الكلام. وقف أمام الصفحات المتطايرة بفعل النار منتشيا كمن يثأر. ندم بعدها، تباع هذه الكتب كتحف بآلاف الجنيهات، سوق تحتية يجمع فيها السماسرة هذه الكتب النادرة لأثرياء الخليج. رمل البداوة يخنقه، لكن ما الحيلة؟ سواد النفط غطى خضار المدن القديمة. بالمال وحده يصنعون رموزا من هراء، يشترون تاريخنا، وهو مستعد للبيع، صحيح أنه غير متصالح مع التاريخ والجغرافيا، لكنه على كل حال إرثنا، تحت وطأة العوز الذي سببه إسرافه، وتحت وطأة الإفلاس وعبارة (لا داعي) التي يمهرها أبانا الذي في الأمن لكل عمل يتقدم إليه، كان مضطرا لذلك، هو مستعد الآن للبيع، ما تبقى من المكتبة القديمة، صار يييع كتابا كتابا في سوق ضبابية لا يَعْلم فيها من المُشْتَري مِنْ السمسار، لم يكن يتخيل هذه الأسعار. علامات الجد بالقلم الكوبيا على الصفحات لا تثير فيه ذرة حنين. صفار الأوراق ورائحة الماضي محض هباء. يبيع بغير لمحة من تأثر، تتحول الكتب في يده إلى حفاظات ولبن وغذاء لطفله. يبيع بثمن بخس. يعيد الكرة متناصحا فيبخس مرة أخرى. تمر أمامه العناوين التي التهمتها النار فيندم فقط على المال الذي تبخر. ثلاثون عاما لم تكن كافية ليدرك أنه ابن بار لهذا النسل مغفل، وفاشل كما هم، وحتى آخر المدى.
فشل رهان الجدة عليه، الوحيدة القوية والقادرة والواقفة بقبضتها، الأنثى المقدسة القادمة من باطن الأساطير الفرعونية، والقبطية والفاطمية.. وحدها القائمة كوتد صلب مدقوق في باطن الأرض، وحدها وبوعي حاد تدرك فشل الأجداد وخيبة الأحفاد. يقف أمام الدار ويشير إلى النخل البعيد ستي»هل هذا النخيل في آخر الدنيا؟
تسير به في يدها، تعبر به جسور الترع والمساقي، حتى حافة غيط النخيل كي يلامسه. آخر الدنيا ليست هنا، آخر الدنيا بعيدة جدا، اهجر هذه القرية حين تكبر، اخرج منها ولا تعد. ضع قلبك تحت قدميك وسر. أبطك والنجم، الأرض فراشك والسماء غطاؤك. تحدثه عن أرض فقدها الأجداد الخائبون قطعة قطعة، تدرك في أعماقها خيبة ابنها وحيدها، وتعرف أنها أسرفت في دلالة، ولا أمل سوى في هذا البرعم النافر، ضع قلبك تحت قدميك وسر. باطك والنجم، الأرض فراشك والسماء غطاءك. أنت وحدك والأرض خلاء، أرمح بكل قوتك، يسمع كلامها فيهبط من آخر المدى، وحتى نهاية الحلم.
بلا قلب! سار وحيدا يتجرع خيباته كل ليلة، فظا عنيدا مختالا ينفض الناس من حوله، مساران يؤديان إلى الهاوية نفسها، العبور والانسحاب.
أمام قبرها المنقوش عليه اسم العائلة كان يصفع حجارته، ماذا فعلت بي؟ كان الأمر أيسر، أنا أبسط من ذلك، لم أكن ذاك الذي يفتح صدره للريح ويسير عكسها، ما زلت طفلا نائما على ركبتيك أمام باب الدار، فيما تراقبين القمر المخنوق الطالل من الجرن أمامنا، اتركوه يا بنات الحور. كان الأمريكيون والروس يتسابقون للرسو على سطح القمر، وبناء مستعمرات عليه، فيما كانت هي تحث البنات الصغيرات على القرع أكثر حتى نستعيد القمر. أنا هذا الطفل الخائف المرتعد من الغيلان التي تنفخ في الترع خلفنا يا امرأة، لم أكبر بعد فلما تركتيني وحيدا؟
في قطعة الأرض التي تقلصت حتى أنها لم تعد ترى بالعين المجردة؛ سرحت بقرة شاردة، ربطتها في شجرة التوت اليتيمة، ورفضت أن تفكها حتى يأتي هو ليعطيهم إياها. اخترق الجلبة المثارة بجسد نحيل، ولحية حديثة عهد بالنمو، استعطفه الفلاح بتواضع مصطنع مذل، كي يعطيه بقرته، فكها بكل يسر وأعطى له بقرته ونهرها أمام الجمع.
-أنت مثل البقرة التي فككتها، أصنع لك هيبة وتضيعها.
في الاجتماع الشهري، كان مالك القناة الجاهل بالآتي والماضي، والدنيا والدين منتفخا كبقرة يخور ويهذي ويلعن، بينما الجميع يصمتون مهابة. مالك القناة التي هبطت عليه ثروة في صدفة كونية غير مفهوم الأبعاد لا تتكرر في مجرتنا كثيرا، فقرر شراء قناة يروج فيها لمنتجات ترجع العجوز إلى صباه، ويكايد منافسيه.
المال وحده هو من يصنع الهيبة الآن، اللعنة.. مضى أوان الجدات الرابطات للبقر.
كاتب وإعلامي مصري