-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

مزاوجة الحداثة أو البحث عن «الأسلوب المتأخر» في كتابات عبد الله العروي أنور المرتجي

خصّ الناقد الأكاديمي المغربي «القدس العربي» بهذه المقالة التي يحلل فيها المشروع الفكري لعبد الله العروي، متوقفا عند تجليات «الحداثة» عند هذا الأخير، وما أفرزته من قيم تقاطعت مع سياقات فكرية وسياسية واجتماعية مختلفة في العالم ككل، والعالم العربي خصوصا. كما يبسط المرتجي رؤية العروي لـ«ما بعد الحداثة»، لينتقل في الأخير إلى رصد ملامح «الأسلوب المتأخر» عنده، من خلال إصداراته الأخيرة التي يحضر فيها نفس سير ـ ذاتي ونمط الكتابة الشذرية: «مغرب الحسن الثاني ـ شهادة»، «خواطر الصباح»، «السنة والإصلاح»، «من ديوان السياسة». ولاشك أن المقاربة التي يقترحها صاحب المقالة لتحولات أسلوب الكتابة لدى العروي يمكن أن تفتح شهية النقاش حول هذا المشروع المهم ذي الحلقات المتعاقبة التي أثرت المكتبة الثقافية العربية. (المحرر)
منذ صدور كتابه الأول «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، استطاع المفكر عبد الله العروي أن يضع القواعد الصلبة من أجل تأسيس صرح الحداثة داخل الثقافة العربية، وأن يكون منذ البدايات واضحا في اختياراته، بعيدا عن كل مقاربة توفيقية أو ملاينة عند إعلانه عن بيانه الحداثي الأول، حسب تعبير محمد سبيلا، الذي يدعو فيه أن «نودع المطلقات جميعها، نكف عن الاعتقاد أن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا، وأن كل تقدم إنما هو في جوهره تجسيد لأشباح الماضي وأن العلم تأويل لأقوال العارفين وأن العمل الإنساني يعيد ما كان ولا يبدع ما لم يكن».
منذ كتاب «الايدولوجيا العربية المعاصرة»، صارت الحداثة الخيط الناظم والفكرة المحورية التي يدور حولها فكره كله، والتي يتم فحصها وتقليب مختلف عناصرها وأوجهها، لقد أكد العروي على أهمية تنمية الحداثة كركيزة مركزية يتمحور حولها مشروعه الفكري: «إن ما كتبت إلى الآن يمثل فصولا بالمدلولين الزمني والمكاني من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة»، لأن الكتب التي أصدرها حول المفاهيم (الأيديولوجيا، الدولة، الحرية، التاريخ، العقل) ليست إلا بغرض تعميق النقاش «كما أنها تندرج في نطاق مفهوم شامل ومهيمن على الكل هو بالطبع مفهوم الحداثة».
لقد اكتمل المشروع الحداثي عند عبد الله العروي، منذ «الايدولوجيا العربية المعاصرة»، صعودا مع كتبه اللاحقة «تاريخ المغرب» و»أزمة المثقفين العرب» و»ثقافتنا في ضوء التاريخ» و»أصول الوطنية المغربية» وكتب المفاهيم الكبرى. يصف المفكر التونسي هشام جعيط مؤلفات العروي بأنها «تمثل فترة النضج، وقوة التجريد وباتساع نظراته وذكائه الاستثنائي. لذا، فإن كل كتب العروي، السابقة ترتفع فوق الإنتاج الفلسفي العربي بمجمله».
يعتبر العروي أن الحداثة موجة كاسحة، وأن العوم ضدها مخاطرة، حيث «لا يمكن معارضة الحداثة إلا بتجاوزها ولا يمكن تجاوزها إلا باستيعابها». وعند طرح الأسئلة حول موقفه من ظاهرة ما بعد الحداثة كان جوابه صارما بأنها «ردة ضد الحداثة» و»أن ما بعد الحداثة (هدم) للحداثة». حتى لو نظرنا إلى ما بعد الحداثة على أنها تعميق لمسار الحداثة أو هي سرعة ثانية للحداثة. بمعنى أنها استمرار لمنطق الحداثة ولعمقها، أو كتعد مستمر لذاتها، أو كما قال فيلسوف ما بعد الحداثة فرانسوا ليوتار، إنها بالتأكيد ـ أي ما بعد الحداثة ـ «جزء من الحديث وأي عمل إبداعي لا يمكنه أن يكون حداثيا إلا إذا كان من قبل ما بعد حداثيا، فما بعد الحداثة ليست هي الحداثة عند نهايتها، بل هي الحداثة في حالة ولادتها وهذه الحالة هي مستمرة».
جرت مياه باردة تحت جسر الحداثة، وحدثت تحولات كبرى في الفترة الأخيرة، سمّاها إيهاب حسن بالمنعطف المابعد حداثي، تجلت فيها أزمة الحداثة من خلال وقائع تاريخية كانمحاء العالم الاشتراكي من الوجود، وسقوط جدار برلين واندماج الألمانيتين، وقيام حرب الخليج التي اعتبرها جان بودريار مفكر ما بعد الحداثة في مقال نشره في «الغارديان» البريطانية قبل نشوب حرب الخليج، أنها حرب لن تقع إلا عبر شاشات التلفزيون، فحدوثها ليس سوى ادعاء زائف، عملت وسائط التواصل والسيناريوهات الحربية الافتراضية على ترويجه ودعمه؛ وعليه، فإن الحرب أضحت مستحيلة إلا بوصفها جزءا من ظاهرة خطابية أو نوعا من تهديدات متبادلة. ضمن هذه السياقات الجديدة، قام عبد الله العروي، بإعادة مناقشة «عوائق الحداثة»، في محاضرة ألقاها في بيت «اتحاد كتاب المغرب»، معبّرا فيها عن مزيد من النقد البناء لصرح الحداثة والكشف عن وجهها الغازي «إذن، ها هنا مجتمعات عرفت الحداثة، إما طوعا وإما كرها، وفي الغالب طوعا وكرها، في الشرق وفي الغرب» وكانت «هذه الحداثة في صورتها الاستعمارية الاستعبادية الاستغلالية القاتلة، غيرت الآفاق وتركت النفوس على حالها».
وهذا الوجه الاستعماري الخفي للحداثة، لم يسبق للعروي أن تعمق فيه بتفصيل في كتاباته النظرية السابقة، وكان صوتا خافتا يسري بين شذراته الموحية. لقد عرفت نهاية القرن العشرين نقلة نوعية تمثلت في عملية قلب ثورية لوعود النهضويين الكبار مع بداية القرن العشرين، حمل مشروعهم في السنوات القليلة الماضية مع بداية الألفية الثالثة نزعة معكوسة وكارثية، تجلت في العالم العربي من خلال الدعوات المقلوبة التي انطلقت منذ مطلع النهضة إلى مآل الانحطاط، ومن الوحدة إلى التفرقة الطائفية ومن مقاومة الاستعمار ومعاداة الإمبريالية إلى جعلهما حليفين تاريخيين يوكل إليهما «تحرير» الأوطان.
أما على المستوى العالمي، فقد حدثت رجات رهيبة بعد سقوط جدار برلين وانهيار دول ما عرف بالمعسكر الاشتراكي وتداعيات هذه المصائر على الفكر الماركسي، بل أن أوضاع العالم العربي مقارنة بما كان عليه مطلع القرن العشرين، تبدو مع نهايته مأزومة وكارثية «فإذا كان القرن العشرين قد ابتدأ مع طه حسين وعلي عبد الرازق، فإن القرن الواحد والعشرين يبتدئ مع أسامة بن لادن والآلاف من خفافيش الظلام الذين يملأن الفضائيات العربية… وإذا كان الطهطاوي قد جاء إلى باريس عام 1926 كإمام وواعظ للبعثة التي رجع منها مثقفا مستنيرا، فإن طلبتنا يأتون إلى البلدان الأوروبية معتدلين ويعودون منها سلفيين متشددين». ولقد لاحظ عبد الله العروي في زياراته العلمية إلى باريس هذا الانقلاب الثقافي عند طلبتنا عماد المستقبل، وانتقالهم من التنوير إلى التقليد الأعمى مع ارتفاع منسوب الجهل المقدس عندهم، يقول العروي في «خواطر الصباح» بطعم المرارة: «أحاضر كل خميس منذ أسابيع، بدعوة من رئيس معهد العالم العربي عن مفهوم التاريخ عند المسلمين، بجانب الاختصاصيين المهتمين بالموضوع وبعض الباحثين الجادين، يحضر عدد كبير من الطلبة الإسلاميين ـ مستواهم ضعيف جدا ـ وهم الذين يتدخلون في النقاش، الذي يلي كل محاضرة، أغلبهم من النمط الذي واجهني في غرونوبل منذ سنوات… الملاحظات السخيفة والعبارات الفارغة نفسها، يكونون خطرا على الثقافة العربية، يتتلمذون على أساتذة غير أكفاء وبعد سنوات قليلة يصبحون دكاترة».
انعكس هذا الوضع الثقافي الراكد في السنوات الأخيرة على منظورنا للحداثة، التي تحولت عند البعض إلى ما يشبه العقيدة الدينية على أرض الواقع، وانسحب هذا الوضع على كل قيمها، وتغير مفهوم التقدم من هدف استراتيجي إلى عقيدة متزمتة عند بعض (الحداثيين). وهذا ما عبر عنه المفكر علي حرب «فالحداثة التي نطمح إليها ولم نحسن المشاركة في صنعها قد تغيرت في ضوء الطفرات التي أتت بها ما بعد الحداثة، والهوية التي نخشى عليها سوف تتغير مع فتوحات العولمة وشبكاتها».
إن الخلاص من هذا الوضع الحداثي كــ»دوغما» أو كعقيدة إكليروسية، أو كقفص من الفولاذ حسب تعبير ماكس فيفير، لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تجاوزنا النظر إلى معنى ما بعد الحداثة، بعيدا عن التحقيب التاريخي ونظرنا إليها كسرعة ثانية للحداثة أو كأسلوب في الحياة أو طريقة من طرائق العيش المختلفة التي تفوقت عن سابقتها.
في الفترة الأخيرة، عاد عبد الله العروي من جديد إلى طرح سؤال ما بعد الحداثة، لكن هذه المرة بمرونة منهجية فائقة، عن طريق تمييز الحداثة عما بعد الحداثة، من خلال تمييز وظائفهما المختلفتين، ففي حديثه عن «عوائق الحداثة» يقول: «إن موقفي هو أن لكل واحد الحق أن يتكلم في ما بعد الحداثة إما في أبحاثه الفكرية أو في تصوراته الفنية إلى آخره، لكن شريطة ألا يدخل هذا في ميدان العمل الجماعي الذي هو السياسي». إن هذا الموقف المنهجي، الذي يدعونا إلى الاختيار بين الحداثة أو ما بعدها، يذكرنا بالرأي المتداول لحارس مدرسة فرانكفورت المفكر الألماني هابرماس الذي تشبث بالموقف الذي يعتبر أن «الحداثة مشروع لم يكتمل». ولم يستطع هذا العنوان السجالي أن يتجاوز الصيغة الشعارية والنضالية لتأويل ما جد مع بداية أفول طيف الحداثة الظافر، بينما نجد أن موقف ميشيل فوكو كان خارج هذين الاختيارين، أو خارج منطق الثنائيات المطلقة. بين أن نكون إما مع التنوير أو ضده، فكان جواب فوكو «يجب التحرر من خيار الخارج والداخل، بأن نكون على التخوم». لأن تجاوز الحداثة بعد استيعابها ليست رغبة موضوية ، بل هي إنهاض النهضة وتحديث الحداثة حتى لا نبقى مشدوهين إلى هيمنة صنمية العقل الحداثي، وذلك عبر الانفتاح على فكر مغاير هو في طور الانتقال إلى حداثة نقدية وتأملية أوسع وأغنى من سابقتها، أي تلك الحداثة التي تتساءل عن ذاتها وتوسع مكوناتها لتشمل الآخر بجانب الذات واللاعقل بجانب العقل، والمقدس بجانب الدنيوي. لقد عبر عن هذا القلق المتوجس تجاه الحداثة كثير من الكتاب العرب، الذين تحدثوا عن «الحداثة المعطوبة» لمحمد بنيس أو «الحداثة المتقهقرة» لفيصل دراج أو «ضحايا الحداثة» لمأمون فندي.
الأسلوب المتأخر عند العروي
في العقد الأخير من نهاية الألفية الثالثة، وقع تحول في أسلوب التأليف عند عبد الله العروي مقارنة مع إنتاجات البدايات، هذه الظاهرة الأسلوبية تبرز منذ كتابه «مغرب الحسن الثاني» الذي أضاف إليه عنوانا فرعيا هو «شهادة». جاء بعد موسوعة من المفاهيم التي تتالت بعد مفهوم «الإيديولوجيا» 1980، ثم مفهوم «الحرية» (1981) وبعدهما مفهوم «التاريخ» سنة 1992 في جزأين، وأخيرا مفهوم «العقل» (1996).
لقد ظهر كتاب «مغرب الحسن الثاني ـ شهادة» سنة 2005 متزامنا مع صدور الجزء الأول (2001) من «خواطر الصباح»، وفي جل هذه الإنتاجات المتأخرة يطغى عليها طابع التذويت الفردي وأسلوب السير الذاتي في معناه الواسع، كالشهادة والخواطر واليوميات وأدب الترسل والمناظرة المتمثل في كتاب «من ديوان السياسة»، وهذه الخاصية في تحول الأسلوب المتأخر عند الكتاب والمبدعين، تعتبر موضوع الكتاب الأخير الذي ظهر بعد وفاة المفكر إدوارد سعيد بعنوان «عن الأسلوب المتأخر، موسيقى وأدب عكس التيار»، ويمكن تلخيص الأطروحة البؤرة في هذا الكتاب أن بعض المفكرين والمبدعين في المرحلة المتأخرة من حياتهم، أمثال شكسبير وسوفوكل ورمبراندت وماتيس وباخ وفاغنر وبتهوفن «تحدوا مداهمة الموت بالسير عكس التيار في المضمون والشكل، في الأدب جان جنيه وكفافي ولامبيدوزا وتوماس مان، وفي التأليف الموسيقي باخ وموزارت وبتهوفن وشتراوس والعازف المعجز غلين غولد، بالإضافة إلى الأوبرا والمسرح الإغريقي وأفلام فيسكونتي، ودوما في استلهام خلاق لأعمال أدورنو وغرامشي النقدية». إن أسلوبهم المتأخر يطمح إلى التحدي والممانعة والعناد وألا يكون قابلا لأن يصالح الواقع، أو كما يقول ادورنو عن رفض بتهوفن مثلا، عدم مصالحة الواقع وعدم الاستكانة للشكل المنجز.
لن نقوم بإسقاط أطروحة إدوارد سعيد على كتابات العروي المتأخرة بحثا عن فرادة استثنائية في طريقة التأليف، أو سبق منهجي في التجريب النقدي، من أجل فهم ما جرى من منعطفات جذرية في مسار الأسلوب المتأخر عند عبد الله العروي، لأننا لن نجد تطابقا بين وجهة نظر إدوارد سعيد عن الأسلوب المتأخر ومؤلفات العروي الأخيرة، وقد نجد تلك الخاصية الأسلوبية المتقدمة نظريا في إنتاجات النضج أو البدايات. لكننا سنعمد من أجل استيعاب خصوصية الأسلوب المتأخر في كتاباته الفكرية الأخيرة، أن نسترشد بالمقترح المنهجي الرائد الذي سبق للعروي أن طرحه في كتابه «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» عندما كان يهيمن على المنهج النقدي العربي دعاة سوسيولوجيا المضمون.
فنبّه النقاد العرب الماركسيين أتباع حلقة «في الثقافة المصرية» التي كان يقودها الناقدان محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس إلى ضرورة الاهتمام بسوسيولوجيا الشكل «إن الكتاب التقدميين قد أخطئوا بدورهم عندما ظنوا أن الشكل كمفهوم عام، لا يختلف عن هيكل أي عمل فردي، إن شكل الرواية عامة هو بنية رواية بعينها كتبها بلزاك أو زولا، ثم تكلم وأطنب النقاد في سوسيولوجيا الشكل، علينا إذن أن نطرح هذا السؤال في ما يخص الأشكال الرئيسية، المسرح، الرواية، القصة القصيرة». ونحن نعتقد واثقين أن طرائق التعبير أو أساليب الكتابة الفكرية المتأخرة عند عبد الله العروي لا يمكن فهمها إلا في إطار العلاقة التضادية أو الطباقية بالمعنى السعيدي بين شكل الكتابات المتقدمة ومقارنتها بالمؤلفات اللاحقة كمسار خطي وتعاقبي بين مصنفات النهايات مع البدايات، أو بين كتابات النضج التي تحدث عنها هشام جعيط والأسلوب المتأخر، بعيدا عن علاقته مع الواقع الآني.
كاتب وناقد أكاديمي مغربي
أنور المرتجي

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا