رغم أن المواطنة أسمى من مجرد البنوة
،باعتبار الأخيرة مجرد علاقة أسرية ،أو قرابة دم ؛وهذا غير خاص بالإنسان فقط ،إذ
القطط بدورها ،والعصافير، ومملكة
الحيوان جمعاء، تعرف أن لها صغارا ينتظرون منها الرعاية ،إلى أن يشتد المخلب والجناح؛ ولا تنتظر فيهم وصية،من أحد،إذ تكفيها البرمجة البيولوجية الالهية .
الحيوان جمعاء، تعرف أن لها صغارا ينتظرون منها الرعاية ،إلى أن يشتد المخلب والجناح؛ ولا تنتظر فيهم وصية،من أحد،إذ تكفيها البرمجة البيولوجية الالهية .
و رغم أن التجمع العربي –حتى لا نتحدث عن
مجتمع بمؤسسات،و دولة – الذي خوطب بوصية المواريث "يوصيكم الله في
أولادكم..." لم يكن يتجاوز ،تنظيميا
، بنيتي العشيرة و القبيلة ،إلا في مسائل تعبدية جماعية؛مما يجعل خصوصية هذه
الوصية – أو عائليتها - تغلب على عموميتها ؛خصوصا وهذه العمومية تعتريها استحالة
مراقبة تطبيقها.حتى في زمننا هذا،كما في كل الحقب السابقة، تعمد العديد من الأسر –
في البوادي أكثر من الحواضر- إلى تعطيل هذه الوصية ؛وصولا حتى إلى الحرمان التام
للأنثى من الإرث. لا ينكر هذا إلا جاحد للواقع الإسلامي،عموما ،وليس المغربي فقط.
رغم كل هذا فان نقاش الإرث ،الذي تسيل به
الأقلام ،والومضات الرقمية ،هذه الأيام ،يجعل الخاص عاما ،رغم أنفه ؛ويتمسك فيه
النصيون بالحرفية ؛وكأنهم يمتلكون ،فعلا، وسائل الإلزام بها ،وآليات صارمة لمراقبة
تنزيل أموال المواريث في جيوب الورثة .
حتى إدارة الضرائب،اليوم،بكل قوانينها
الوضعية،ويقظة رجالها،ووراءهم القوة العمومية، تفشل في إقرار تضريب وطني ،مثالي، لا شية فيه،فتفوت على الخزينة
أموالا مُستحقة لها؛فكيف بأمر وجداني،عاطفي ، ليس للآباء عليه سلطان- حتى أنبياءَ (تفضيل
يعقوب لابنه يوسف مثلا،وإبراهيم لإسماعيل)- وكيف به إذ ينتقل إلى
"الأولاد" ،وليس عليهم رقيب ، سواء في الحرمان ،المناصفة ،أوحتى الغلو
في المحاباة ،سواء للأخت أو الأخ؟ وكيف نواجههم بنص قرآني موجه – تحديدا- للوالدين،وليس
للإخوة؟
(ذكر لي أحدُهم أن ارثهم ،من حِلِي والدتهم ،تصرفت
فيه أختهم الكبرى ،بأن سلمته ،كلية،لأختهم الصغرى،عملا بوصية الوالدة،ربما؛ولم
يعترض أحد من الورثة. أغلب الأسر ترى
الميراث أمرا عائليا خاصا،تتصرف فيه تصرفا عائليا ،وليس شرعيا دائما ؛حتى ولو أنجز
العدول القسمة على أتم وجه فقهي،لأن سلطة التنفيذ، في نهاية المطاف، بيد عدول
الأسرة.
وعليه فمن أين كل هذا الاهتمام بالخاص
العائلي الميراثي ؛حتى وان كان عاما
شرعا؟ كيف نقول بالمساواة الارثية، بين
الذكور والإناث ،من الأبناء ،ونحن نعرف أن مراقبة تطبيقها متعذرة كلية؟ كيف نتمسك
بالتفاضل الميراثي – وهو من ريع الذكورة،المقرر شرعا لأسباب عديدة- ونحن نعرف أن
الحسم فيه عائلي محض ؛مادام لم يُثر خلافا،ولم يعرض على القضاء ؟
وقبل هذا خُضنا في نقاش الإجهاض،ونحن نعرف
ألا سلطان على المجهِضات ،عدا المجتمع الذي يدفعهن إليه دفعا ،لخروج أحمالهن عن
ضوابط التناسل الشرعية.خضنا في هذا النقاش ،وسنخوض في مسبباته لا حقا ، ونحن نعرف
أن المعنيات - وحتى المعنيين،عِلِّيا
-اليوم ، كما الغد، يملكن أمر نفوسهن ،وألا أحد يستطيع أن يحول دون حامل
وحملها ،سواء في الإبقاء أو الإلقاء ،بشتى السبل ،الشرعية وغير الشرعية. ما على المجتمع سوى أن يختار ماذا يشرعن – في هذه الحالة- مطرح
النفايات،والزوايا المعتمة، أم سرير المشفى؟لنسأل احصائيات الشرطة والدرك ،حتى
نعرف كيف نوجه نقاشنا.
لقد شغلني هذا الترحيل للخاص صوب العام ،في
أمر الإرث،أكثر من مخرجات النقاش ،واحتساب نقط الفريقين ،من المتمسكين بريع
الذكورة ،والرافضين له . شغلتني أسباب النزول ؛وهي في اعتقادي تقع في دائرة
السياسي الأممي – العولمي إن شئتم – وليس في دائرة الأصولي ،الفقهي، كما توهم
الكثير من الفقهاء الذين "خَالُوا أنهم عُنُوا ،فلم يكْسَلُوا ولم
يتبلدوا"؛ومعذرة للشاعر طرفة بن العبد على هذه الغارة.
كما
اليوم ،والبارحة، إذ أُشْهِرت خطةُ سعيد السعدي
" المبادرة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"؛والتي اعتُبرت مارقة عن
النصوص،حتى وهي منصفة؛ مما حال دون الوصول فيها،ولا في نسختها المعدلة " الاسترايجية الوطنية للإنصاف والمساواة"إلى حسم عملي إجرائي و نهائي (وهل كان مطلوبا؟) ستتقطع
أنفاسهم - وأنفاسنا طبعا - مستقبلا ،وهم
يمارسون كل مستويات الأركيولوجية النصية، للبرهنة على أن السلطة لِتضاريس
النصوص،كما هي - جبالا ،سهولا،ووهادا
سحيقة - وللتفسير الطوبوغرافي القديم ،ولو بَيِّنَ الخطأ؛وكأن
خرائط الإدريسي أصح من خرائط غوغل ..
كما اليوم سنضرب أكباد الإبل،وأعناق السنين
،تائهين في الصحاري،قبل أن ننتبه إلى أن
خرائطنا لا تحيد عن طريق القوافل القديمة ،وحُداة العيس ،وتجار الرقيق والعقيق..
لم يعد أحد ينتظرنا لنصحح مساراتنا ،ونلحق بالإنسانية
،وهي راحلة على متن العولمة ،الرقمية؛ ونهاية تعدد التاريخ.
حتى من رغب منا في خلافة على منهاج "
... نِستان" ركَّبوها له ،وفتحوا إليها المعابر،ليعُض عليها بالنواجذ ،بالقوة التي يريد،وبالفحولة
الدينية التي يرضاها؛منتظرا ،في أمرها، وفي دوامها،فتاوى من السماء
الأميركية،الروسية،الإسرائيلية وحتى الإيرانية؛إذ لا سماء لها ،ظاهرة،خارج هذه
السماوات التي أصبحت تمطر إسلاما على هواها.
هل المواطِنة أُنثى فقط؟
لا،هي أرقى من أنثى وذكر ،حتى وهي عادية تحضن أسرتها
،لدى الخضار ،الجزار ،الطبيب ،والمدرسة ؛بِجَيْبها ،وليس بقلبها فقط.
علينا أن نوسع مفهوم الحضانة الشرعية ؛إن لم
يكن اقتناعا فخجلا من العديد من الدراسات الاجتماعية الميدانية، التي انصبت على هذه النحلات الشغالات.وهل في هذا
اعتراض شرعي أيضا؟
وهي أرقى وأرقى ، ولاية وسياسة،حينما تتصدر
وتحكم،وتعلم وتداوي وتبحث في المؤسسات الأكاديمية المختصة.
وعليه فإذا كانت ترث – باعتبارها أنثى للوضع فقط - جَيْبا واحدا ،ويرث
أخوها جَيبين؛فكم ترث كمواطنة ونَحلة شغالة،ذات جيوب يثقبها الأبناء ،والزوج ،
صباح مساء؟
كم ترث بائعةُ الخبز ،المرأة المسنة التي تمر
أمام سكني بالقنيطرة ،صباح مساء ؛ويعرف
الجميع أنها عالت أسرة كاملة ،لم تعرف معيلا سواها ،إلى أن شب الصغار عن الطوق ؟
.وحينما تزوجت إحدى بناتها أنجبت ولدا مشلولا؛فما كان من الجدة إلا أن رسمته حملا يوميا
فوق ظهرها؛وهي تواصل توزيع خبزها على الدكاكين ،في عربتها المهترئة. هل هذه أنثى فقط،أم
مواطنة قُدت من حجر ؟ كم ترث عن مواطنتها ،التي تعرف منها الواجب ،وتكاد لا تعرف
الحق؟
إذا كان ارث الأنثى من الهالك أو الهالكة فِقها
افتراضيا فقط، لأن مداره على التركة ،وجودا
وعدما،إضافة إلى كون الخصوصية – واقعا
وممارسة- غالبة عليه ،كما أسلفت ؛فان
"ارثها"، كمواطنة، عن مواطَنَتها – إن أنْصِفت – مادي حقيقي،وظاهر
العمومية ،وممكن المراقبة ؛تؤطره النصوص القانونية الوطنية،والمعاهدات الأممية السامية،دستوريا ،التي
لا نملك عنها محيدا ،إذْ وقعناها. معاهدات تعني كثيرا للدولة الحديثة،في علاقتها بالمنتظم الدولي ، سياسيا
،قانونيا واقتصاديا.ومن هنا كونها تنحوا نحو الإلزام القاهر ؛قهر النصوص الشرعية
المعتمدة.إن المنتظم الدولي لا يغار على دين؛وكل تفكيره يقع خارج نصوص جميع
الأديان ،وليس الإسلام فقط.هذا شرع العولمة ،ولا خيار لنا إلا مزعوما ،موجها
للاستهلاك السياسي الداخلي ،سواء بعناوين دينية ،أو علمانية حداثية.
يترتب على التسليم بهذا أن نولي الصدارة
لنقاش ميراث/حقوق المواطِنة ،قبل ميراث الأنثى، المقيد بنصوص قطعية
الدلالة،نعم؛لكن الإلزام بها ،عمليا،غير ممكن. لايمكن للدولة أن تقنن توزيع ارث
مادي قائم على ارث وجداني، أوثروة لا مادية ،تقوي اللحمة الأسرية ،وتجعلها فاعلة في
الثروة المادية ،وليس العكس.
حتى النص القرآني ،العمدة في التفاضل، يخاطب
الأبوين ولا يخاطب أولي الأمر؛حتى تنتصب الدولة رقيبا :"يوصيكم الله في
أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين".وستختلف كثيرا سبل التنفيذ لو قال :يوصيكم
الله في المؤمنين،أتباعكم، أورعاياكم..في هذه الحالة يتدخل ،ليس الوازع الديني
فقط،بل الوازع من السلطان ،وما يملك من أوجه الإلزام والإكراه.
نقاش المواطنة – حقوقا وواجبات،وحتى حريات-
في الإرث وغيره ،سيرفع الكثير من الحرج .سيرقي المجتمع ،وسيفتح سبلا لقبول
الاجتهاد ،تبدو ا اليوم مستحيلة ؛خصوصا ومدار التشريع ،في مذهبنا المالكي ،على
المصالح المرسلة ؛ليس للناس فقط بل للدولة أيضا.فحيثما تجلت هذه المصالح فثمة شرع
الله. ولنا في المغرب رصيد من هذا الاجتهاد لم يكن متصورا أبدا،منذ قرن فقط . لا
أحد يعترض عليه اليوم ،إلا استقواء بمذاهب أخرى ،تسود في خرائط الشرق فقط؛ونحن
نرى،اليوم، قوتها التدميرية ،وهي من تزمتها.
نقاش المواطنة،هذا،يستغرق نقاش الإرث ،وغيره
مما تدخره لنا العولمة ؛شئنا أم أبينا؛إضافة إلى كونه يختزل الزمن الذي يضيع منا
هدرا ؛دون أن ننتبه إلى منعطفات التاريخ ، وما تحبل به الأيام ، من مفاجآت، يدخرها
لنا هذا العالم الذي قضى في حقنا ،بكوننا خارج الحداثة ،وما بعدها. لو كان السلم ،والرخاء،يشتريان –اليوم- في
سوريا والعراق ،وغيرهما من دول
النكبة،لاشترتهما الشعوب المهجرة إلى الصقيع ، بأي ثمن؛ولتنازلت عن كل نصوص الحرج
والتوتر.
كان دوامهما ،على أفضل حال ، ممكنا بثمن في
متناول كل الأنظمة بالمنطقة ،ومواطنيها؛ وهو لا يزيد عن نقاش المواطنة ، بكيفية
صادقة ،صريحة ،وبناءة . مناقشة ديمقراطية ،لا تؤمن بخطوط حمراء؛ولا تدعي ممانعة،
خصوصية إقليمية مزيفة ،ووقوفا في وجه العولمة ؛وهي تعرف أنها بتخلف القرون ذوات العدد.
ان المواطنة المبنية أتم البناء،لا تَهدِم ولا تنهدِ م.ولا يُتصور
فيها أن تَهضم حقا لأنثى أو ذكر،ولو فقأت عينيها كُلُّ العظام النخرة التي تخوض
اليوم حروبا طاحنة،لم تترك حجرا فوق حجر ،باسم علي ومعاوية ،وكل فقهائهما وجنرالاتهما؛وهما
لا يعلمان .
هل نمضي في نقاش ارث الأنثى،وكل أخواته ،أم
نناقش المواطنة ودولة المؤسسات ؛كما تفهمها الديمقراطيات العريقة،التي استبدلت
الاستعمار الذي ورث الكراهية، بالإبهار الحضاري الذي لا يفتتن به إلا أعمى وأصم؟
لكل واحد أن يجيب ،كما يشاء،لكن شريطة
الانتباه إلى أن كوكب الأرض لم يعد يقبل المزيد من التخلف .
إن الله يُلزمكم بخير مواطنيكم،حتى تعدلوا؛أكثر
مما يُوصيكم في أولادكم،وأنتم لهم محبون.