حاورته: ليلى بارع
سعيد منتسب، قاص ينتمي للجيل الأزرق للقصة القصيرة
في المغرب، شاعر لا يؤمن بالحدود بين الأجناس الإبداعية، لفت إليه الانتباه منذ مجموعته
القصصية «تشبه رسوم
الأطفال» التي حازت جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب، ليواصل
مساره في الكثير من الهدوء والإصرار على الاختلاف.
شكلت مجموعته «جزيرة زرقاء» جزءا من الأعمال القصصية
الأولى التي أعلنت عن ترسيخ كتابة القصة القصيرة جدا في المغرب، لكنه لا يكاد يستقر
داخل جنس أدبي حتى يهاجره صوب آخر، شكل إصداره لمجموعتيه الشعريتين « أشواق اللوز»
و»بيت العاصفة» مرحلة أخرى من مساره الأدبي، أكد من خلالهما، على أن الخيانة جزء من
حياة الكاتب. يستعد لإصدار روايته الثانية بإصرار على الاختلاف والتميز في مجال ثقافي
مغربي يفتقر لشروط تسويق الأعمال الإبداعية بما يليق بها من اهتمام…
■ سعيد منتسب واحد من كتاب القصة المغربية
الذي اختار بعد تكريس اسمه في المجال القصصي، الانتقال من أفق القصة نحو أفق الشعر،
بإصداره لديوانين شعريين متتاليين، هل يمكننا الاقترب من أسباب ترحال الكاتب عبر الأجناس
الأدبية؟
□ لا يتعلق الأمر بأي نوع من الترحال. أعتقد
أن الأجناس، في ما أكتبه، متجاورة، ولا أحد يحني رأسه للآخر أو يستعبده أو يخاصمه.
كل واحد يحتاج إلى ما سواه. صحيح أنني تحيزت للقصة القصيرة في فترة ما، لكن الشعر ظل
يمسك بي على نحو مباغت. وأنا على عكس ما يعتقده الكثيرون، لا أكتب من داخل الأسوار،
وأعي جيدا أن اليد المرتجفة التي تخشى «تجاوز الخط» لا يمكنها أن تكتب سوى «بطيش».
الارتياب في كل شيء هو حنطة الكتابة وزيتها، ومن لا يرتاب في الحدود ليس بوسعه أن يستكشف
ما تخبئه وراءها. نعم، أصدرت مؤخرا ديوانين شعريين: «بيت العاصفة» و»أشواق اللوز»،
وهما معا يعبران عن المظهر الأكثر إرباكا وتعقيدا – في نظري على الأقل- للمفهوم الجنس
الأدبي. وحتى لا نعود إلى هذا الاشتباك القديم، أرى أن السرد- أو إذا شئت القصة- تختبئ
وراء قصائد كثيرة في الديوانين، إن لم أقل إنه هو عمق مياهها. وهذا معناه أن الشعر
يكلم القصة بتوق كبير، والقصة تتسلى معه لسبر الغامض والعميق. ولهذا، أعتقد أن لا وجود
لخيط يخرجني من غابة السبل المتشعبة للأدب. الكتابة ضد الاقتفاء، وضد كل المخططات التي
تسهل الولوج إلى قلعة أسرارها. الكتابة تشبه الأعمى حين يمشي خلف شيء لا يراه، في طريق
لم يسبق له أن زارها.. طبعا، هناك منعرجات وجسور وضباب، لكن دليل الكاتب الحقيقي هو
إيمانه بأن هناك دائما طرقا أخرى كثيرة صالحة للاستثمار من أجل الوصول.. وبتعبير أدق،
إذا كان هناك ثمة انتقال، فهو انتقال نحو «مكان آخر»، ولكن بالسلاح نفسه، والخدوش نفسها..
■ وسمتم، إلى جانب مجموع من الأسماء المغربية
القليلة، ظهور القصة القصيرة جدا في المغرب، في مجموعتك «جزيرة زرقاء»، لكنك توقفت
عند هذه التجربة، كيف تنظر للقصة القصيرة جدا كجنس يعلن نفسه بين القبول والرفض في
المغرب والعالم العربي؟
□ بحكم طبيعتي، أنا أميل إلى الحالات والأشياء
الملتبسة. هذا، ربما، ما جعلني أهتم بالقصة القصيرة جدا التي كنت أعتبرها- عن خطأ-
«هايكو القصة» أو مجسمها الصغير. لكنها الآن، اتخذت مظهرا تنجيميا، وأصبح التعاطي إليها
أشبه ما يكون بجلسة استعراضية لاستحضار الأرواح. الكثيرون أدمنوها، وحولها البعض إلى
«حجر أسود» لا يجوز المساس به، بل أصبح لها ناطقون رسميون، ونادى بعض كتابها المتعصبون
بلزوم تأسيس حزب «الققجيين» للدفاع عن أحواضها باللسان والذراع والسلاح وشفرات الحلاقة.
لقد كنت أظن- عن خطأ- أن القصة القصيرة جدا هي أفق القصة، وأن الضمور هو الطريق والوصول
معا. غير أن أمرا اتضح لي أخيرا، وهو أن أغلب كتاب هذا النوع من «الأدب» هم أشبه بمدربي
جرذان وعناكب يتعاملون مع الكتابة كسيرك، ولهذا فكتابتهم تأتي استعراضية وعاجزة عن
النضوج. طبعا، هناك كتاب يشكلون الاستثناء. يتحركون في مجالات مختلفة تماما، ولديهم
وعي حاد بما يقترفونه، كما أن لديهم ميلا للإرباك. هؤلاء أحبهم وأتواطأ معهم، وأقرؤهم
باستمرار. هم قراء ممتازون، ويدركون أن المعرفة هي أن تعرف ذاتك، وأن تصر على استغوار
كل مجاهيلها.
يبدو لي أن كتابة القصة القصيرة جدا اليوم- وفي
هذا نوع من القسوة- أصبحت شبيهة باسترجاع الكرات التي تخرج من ملعب التنس. هناك من
كتابها من يظن أن استرجاع الكرات هو اللعبة، والحال أنه جزء منها.. واستئناس بها، وتدرب
عليها. نحتاج فعلا أن نقرأ النماذج الكبرى في أمريكا اللاتينية، وأن نستوعبها ونتجاوزها..
في المغرب هناك اهتمام أكبر بالقصة القصيرة مقارنة بالرواية مثلا، علما بأن الزمن اليوم
هو زمن الرواية، وهو ما تؤكده اختيارات دور النشر والجوائر العربية، ألا يرتبط الأمر
بأسماء بعينها تؤثر على هذا الواقع، مقابل انغلاق لأسماء مهمة في سماء الرواية على
مجموعاتها وشلليتها وانتماءاتها؟
أمر مثير للانتباه أن يهتم المغاربة بالقصة القصيرة،
بينما يهتم غيرهم بالرواية. هذا ليس تمييزا بين عضل مفتول وآخر ضامر. ينبغي أن نهتم
بشيء آخر في رأيي: ما هو الأكثر إبداعية؟ وما هو الأكثر رشاقة؟ وأنا هنا أتحدث عن النص
بصرف النظر عن جنسه. ومع ذلك، فإن الرواية لم تغلق أبوابها أمام المغاربة، وهناك الآن
روائيون مغاربة يستطيعون أن ينافسوا سواهم، أذكر منهم إسماعيل غزالي، عبد الرحيم حبيبي،
يوسف فاضل.. وغيرهم، بل أستطيع أن أقول بأن هؤلاء الروائيين متفوقون جدا على بعض النماذج
الروائية المكرسة عربيا. أما على مستوى القصة، فليس مجازفة أن أقول إن الاهتمام بها
مظهر خادع، ولا يتجاوز فعلا كثرة المواسم والمهرجانات واللقاءات. وهنا دعيني أستعيد
معك ما قاله القاص والصديق أحمد بوزفور في إحدى اللقاءات: «أصبحت قصصنا، في كثير من
نصوصها، سهلة وسريعة وخفيفة ومُسطـَّحة. ولن نستطيع علاج هذه الأنيميا الفكرية إلا
بقراءة الكلاسيكيات، كلاسيكيات الأدب العالمي، طبعا، وكلاسيكيات الفكر الإنساني. ولن
نستطيع التعبير عن هذا العمق الفني والفكري الذي اكتسبناه إلا بقراءة النّصوص الكلاسيكية
العربية المكتوبة وبالارتباط العاطفي بها.. وأنا أحلم بلقاءات قصصية نتحلق فيها حول
الجاحظ أو أبي حيّان أو جبران.. ليس لكي نغطيهم بالمناهج والنظريات.. بل فقط لنقرأ
نصوصهم ونتذوّق جمالها ونُذوّقه لبعضنا». إذن، إذا كانت القصة القصيرة ستظل مغمورة
بهذا المصير البائس الذي يجعلها لا تلتفت إلى نفسها، قراءة وتحليلا، فكيف يمكننا أن
نتحدث عن «الزمن القصصي» على المستوى المغربي، بل كيف يمكننا الحديث عن «زمن الرواية»
أو «زمن الشعر»، والحال أن المنجز ضعيف جدا، والجوائز يحكمها الأثر الإعلامي والاستنساخ؟
إننا نتحدث وكأننا، فعلا، نعيش زمنا قصصيا مؤثرا وغنيا وواعيا بذاته، والحال أن «كثرة
الإنتاج القصصي»، في رأيي، هي كثرة مضللة وتخفي وراءها النزعة القطيعية في التعامل
مع هذا الجنس الأدبي، وكأننا أمام كتاب يستفيقون باكرا ليقترفوا القصة، كما لو كانت
نزهة صباحية في منتزه عمومي.
■ الشعر هو اختيار الأقلية، وحتى في أوروبا
فإن دور النشر تعطي الأهمية الأكبر للرواية، ما الذي يجعل الشعر يتراجع في اهتمامات
القارئ؟
□ دعيني لا أوافقك الرأي. الشعر لم يكن أبدا
مكانا أثيرا للأقليات. الشعر هو ماء الأدب وعمقه، وسيظل كذلك. لكن المشكل في نظري هو
زمن الاستهلاك، وزمن الاستعراض والفرجة والاستسهال. لا يمكن للشعر أن يكون هزليا على
نحو لا متناه، ولا يمكنه بالقدر نفسه أن يكون مكفهرا وعابسا وجافا. الشعر عينان متجهتان
إلى السماء وأقدام ترتجف على خاصرة نهر بعيد. إنه ليس تمرينا على تركيب الجمل الغريبة
والغامضة والمفاجئة؛ هو أعمق من ذلك بكثير.. وأنا أزعم أن الشعر لم يتراجع، بل تم حجبه
بهذا الصراخ العالي الذي يحيط بنا. إن بعض الشعر- مثل الذي نقرؤه على الفيسبوك- أصبح
مثل خبز الإعاشة.. يؤكل فاسدا ومغشوشا ومملوءا بالحصى. وعليك أن تبحث كثيرا لتقرأ قصيدة
تجعلك تنفعل وتضيء وتتحول، وترى السواقي تنهض من غفوتها لتمدد رجليها أمام حقل أو شجرة..
من حسن الحظ أن بيننا شعراء حسهم الفني شاهق، ويكتبون كالمحمومين..
■ قليلون يعلمون أنك بصدد استكمال روايتك
الثانية، بعد رواية فازت بإحدى الجوائز في محيط جامعة الآداب حيث درست، هل اختيار الرواية
هو رغبة في تأكيد تمكن الكاتب من الأجناس، أم هي رغبة تعلن عنها الكتابة وميلها أكثر
من الكاتب؟
□ لا أعتبر أن كتابة الرواية، بعد القصة والقصيدة،
غلطة مميتة أو استعراض للقوة أو محاولة لإثبات أي شيء. أنا أعتبر نفسي قارئا جيدا للرواية،
وليس أحد رعاة البقر الذين يمتطون الجياد ويطاردون الأشرار. لم أكتب الرواية لأفوز
بجائزة، والرواية الأولى التي كتبتها لم تفز بأي جائزة على الإطلاق، ولا أعرف حتى الآن
ما هو مصيرها بعد كل هذه السنوات التي مرت. لا أسعى إلى التعامل مع الرواية أو غيرها
كشيء مسكر، ولا يمكنني تجاهلها أيضا. هي تلح كالأنوار، وتشبه إدارة الشؤون العامة لشخصيات
وأماكن ومواقف تلح عليك. ولهذا، فأنا أعتقد أن العمل الروائي أقرب إلى تدبير الحالات
الخارجية عكس الشعر الذي يتعامل مع الروح، ومع الهشاشة. فمثلا قليل التجربة، في اعتقادي،
لا يمكنه أن يكتب رواية، لأنه غير مؤهل عضويا لكتابتها. في الشعر، هناك العزلة والتمرد
والرفض والتبديد، ومساحة واسعة من الحلم والتوهم والنبوءة والانفعالات العنيفة. بينما
الرواية مكان ملائم للرصد والملاحظة وبناء المواقف وتدبير الصراع بين الشخصيات. لن
أقول مع إ.م. فورستر أن الرواية «منطقة رطبة من مناطق الأدب، يرويها مئة جدول»، إذ
يمكنها أن تكون مجرد عمارة من أربعين طابقا يقطنها أشباح لم يسبق للواحد أن التقى الآخر.
غير أن الأهم من هذا كله هو أن
يعرف الروائيون كيف يشدون القارئ إلى نصهم، وكيف
يجعلونه يلتهم الصفحة تلو الصفحة بسرعة، ويتمنى في قرارة نفسه أن لا يصل إلى الصفحة
الأخيرة. الروائيون الذين يعتمدون الاستدراج اللذيذ أسلوبا في الكتابة، مع وضع القارئ
في مواجهة «موسوعة معارف» مرتبطة بفضاء الرواية، أي مع ما يجعلنا ننساق فكريا مع الإيقاع
الجوهري للرواية. وهنا أسجل إعجابي الشديد بالرواية التي تحترم ذكاء القارئ، وتمنحه
عالما تخييليا متصلا بالواقع، وليست تلك الرواية الممتلئة بمشاكلها الخاصة.
■ كنت واحدا من الفائزين بجائزة المغرب للأدباء
الشباب، كيف تنظر إلى واقع كل الأسماء التي فازت بهذه الجائزة لكنها لم تستطع أن تفرض
نفسها في الساحة الأدبية المغربية؟ بعبارة أخرى هل تكفينا الجوائز في حياتنا ككتاب..
□ لنعترف، أولا، بأن الجائزة لا ينبغي أن
تكون أفقا لأي كاتب، وإلا سنكون أمام «صائدي جوائز» يضبطون ساعاتهم على الفوز أو الخسارة،
وعلى تعقب المسابقات في كل مكان، وعلى التملق للجان القراءة والفحص. الجائزة لا ينبغي
أن تفرض على الكاتب أي نوع من «التجنيد الإجباري»، كما لا ينبغي أن تحوله إلى آلة كاتبة
خرساء أو إلى «راقص ستربتيز» يتعرى لإثارة الغرائز. وبالرجوع إلى سؤالك، هناك أسماء
كثيرة ما زالت تشق الصخر بعناد، وهناك أسماء ترنو الآن إلى الكتابة بعيون ممتلئة بالعاطفة،
من دون أن تجرؤ على الدخول معها في علاقة جديدة ومتجددة، وهناك أسماء أخرى فاتها أن
تبقى تحت الإضاءة لأسباب مختلفة. طبعا، ليست الجائزة هي المسؤولة. السياق العام للإنتاج
الأدبي هو الذين يحول بعض الموهوبين إلى أغصان مقطوعة من شجرة الكتابة، هو من يحرقهم
ويحولهم إلى أرشيف، ولذلك، أعتقد أن الأمر أكبر من قضية «فرض ذات»، فالخيبة أحيانا
لا تسبب أي نوع من الذعر للجائع والعاطل الذي يبحث عن لقمة عيش. هذا الجائع كيف تريدون
منه أن يتحول إلى كاتب حافل بالمعاني الجميلة والمدهشة؟ أتصور أن هذا النوع من الكتاب
يشعر في قرارة نفسه بأنه يعيش بين وجوه تضحك عليه بخبث وإصرار. الكاتب لا يصنعه دائما
الاعتراف بموهبته، وإلا بماذا نفسر توقف كتاب موهوبين كثيرين عن الكتابة؟ بماذا نفسر
عزوفهم عن الاستمرار في ما يجعلهم استثنائيين؟ لا أعتقد أن الأمر مرتبط بالخوف من الفشل
أو ما شابه، أو بالغطرسة غير الواعية، بل أساسا بهذا الاختلال الذي نراه اليوم يأتي،
وعلى نحو متواصل، على الأخضر واليابس. وهذا يقودني إلى أن أطرح عليك سؤالا بدوري: هل
بوسعك، مع كل التهديدات والالتباسات والمحرمات التي تحاصرنا، أن تكتبي نصا يستغرق حياة
بكاملها، وأنت تدركين بأن «لا أحد» هو من سيقرؤه؟