كفّانا متلاصقتان، وأصابعنا متشابكة في عناق متواصل
تتحسسان نبض قلبينا وتلامسان خفقانَه. خطواتنا الوئيدة على غير سجيّتها تقودنا إلى
المكتبة التي لا تبعد عن الحديقة
المجاورة التي غادرناها للتوّ. الأشجار تلقي بظلالِها
الوارفة على جنبات مسيرنا، لم نهتم بها هذه المرة إلا من خلال نظرات تلقائية وعادية
على غير العادة. لم تكن عينانا تبرحان خطواتنا ووقعها على الرصيف، لكن كنت أتقوّى خاصة
عندما يشتد عناق أصابعنا، فأستجمع جهودي لأسترق بعض النظرات إليكِ وليتني لا أقوم بذلك،
فوجهك القمحيّ المتنوّر بغَمّازته التي تميزك عن غيرك، حطت به غيوم قاتمة وارتسمت عبر ملامحه هواجس وظنون، فبدا لأول مرة
على الإطلاق منكسرا شاردا غارقا في الحزن ممعنا في السهوم. أما شعرك، فكعادته شلال
ليل متدفّق على كتفيك مسترسلا في انسياب على قميصك الأبيض المزركش بفقاعات سمائية طائرة،
كنّا قد اشتريناه معاً دون أدنى اختلاف في اختياره.
نحن الآن على بضع خطوات من المكتبة. هذه المرة التفتِ
إليّ، لم أتردد في التوقف، لامستِ مناطق وجهي بنظراتِك وتصفحتِه في تأمل وكأنك تنظرين
إليه لأول مرة. استقرتْ عيناك في عينيّ زمنا ليس كالزمن، ابتسامة شاحبة نسجت خيوطها
على شفتيك القرمزيتين، أنا الآن أراها بوضوح،
كما أراكِ بوضوح. كفّانا لا تزالان منصهرتين انصهار قلبيْنا، حرارتهما تحرّكُ بدواخلي
هذا الفيْض من الإحساس الذي اجتاحني بقوة عارمة، ودون سابق إنذار منذ أول حديث في الكلية
في موضوع بحث الإجازة، أنت تذكُرين ذلك جيدا. اتفقنا على أن احضِر لك بعض المراجع تستعينين
بها في بحثك، فضربنا موعدا قريبا جدا قرب إحدى القاعات. استبقتُ الزمن فحضرتُ قبل الموعد، لكني وجدتكِ أسرعَ
مني في أبهى صورة وأجمل حلّة وفي أناقة نادرة، تتصفحين إحدى المجلات الأدبية الذائعة
الصيت. لم احضر المراجع ولم تسأليني عنها ذلك اليوم ولا يوما آخر.
صمت رهيب رافقنا على امتداد الطريق، ألغى بقسوةٍ شهْدَ الكلام الذي لا
يعرف عادة أفولا مهما تربصت بنا الظروف. كنت تقولين دائما "نحن نعيش بالكلام لا
بالصمت"، لكن لماذا هذا الصمت المرير يكبل شفاهننا ويعكر صفو لقائنا بل لقاءاتنا
الأخيرة ؟
صعدنا أدراج مدخل المكتبة، ولجْنا بهْوها الفسيح،
وجلسنا إلى الطاولة التي تحفظ جزءا من أسرارنا، عندما نتبادل عبير الكلمات الفواحة
بعطر الأحاسيس الجميلة الصادقة، التي تفتقت بين جنباتنا منذ توقيع أول عناق لكفينا.
أخرجتُ من محفظتي البنية التي أهديتِنيها ظرفا من الحجم الكبير توصلتُ به من إحدى الجامعات
بفرنسا، يتضمن وثائق التسجيل النهائي بها. بسطتُ الأوراق أمامي في تثاقل، منحتِني في
ارتباك قلمك الحبري الأسود وبدأنا في تعبئة الوثائق معا. تُذكّرينني على مَضَض ببعض
المعلومات التي تسقط منّي سهوا، فأصحّحها على الفور تجنبا لأي خطإ، قد يلغي تسجيلي أو يعرقِل استكمال دراستي في الخارج.
رأسانا متقاربان، قاب قوسين أو أدنى من الالتصاق،
وبين الفينة والأخرى تصدر منك زفرات حرّى، تذكي جذوةً بداخلي تزيدني التهابا واحتراقا.
في أسفل كل وثيقة يُطلب التوقيع على صحّة المعلومات، فأوقّع وكأنني أوّقع على المجهول،
أو على غموض وضبابية، أو قولي على موتي أو على شيء من هذا القبيل. لا أدري لماذا تقاطرت
علي الوساوس والظنون وكل الأفكار السوداوية، أكيد أنكِ أنتِ أيضا وقعتِ فريسة هذه الأفكار،
وإلا كيف أفسّر هذا الصمتَ الذي بدا مستبِدا بكِ منذ أن قرّرتُ السفر خلال أيام معدودة؟
كان علينا بالأحرى أن نغتنم الدقائق والثوانيَ فيما يزيد من تَوحُّد روحيْنا ويُرقّي
أكثر فأكثر سموّ وجْدِنا وإشراق هوانا. أخذتِ الوثائق من أمامي تتصفحينها من جديد،
تعيدين قراءتها، ربما تصادفين سهوا سقط عليها فترصدينه. تأكدتِ من صحة المعلومات ثم
وضعتِ الأوراق بدقة متناهية في الظرف. لم نستعر هذه المرة كتابا ولم نتصفح جريدة ولا
مجلة، ضاق بنا المكان رغم رحابته، فقررنا المغادرة نحو مقصف الكلية.
نبض قلبك يسكن سمعي، وصوتك المتكسر يعزف على الدوام في صدري سمفونية الجرح
والألم. أيّ أنثى أنت؟ أيّ قلب أنت؟ أيّ فيض أنت؟ حبك رحاب الدنيا، امتداد السماء في
الزرقة، حبك لا يوصف، لا يقارن، لا يضاهى،
لا يكتب، لا يقرأ، لا يحكى، سحر ليس كالسحر، أسطورة ليست كالأساطير، حبك ثورة في حياتي
وأية ثورة! نبْتُ النور في العتمة وانبلاج
الفجر من الليل وانبعاث الحياة من الموت...
و الآن يا حبيبتي... وقد ابْيضَّ ما تبَقّى من شَعري،
وبصم الزمن تراتيله على صفحة وجهي، لا يزال ذلك الإنسان الذي نسجتِه ببياض عمقكِ يسكنني
في شموخ، يحيا بين الأحضان الدافئة لهمس ذكراك، لكن في منطقة الظلام الدامس يتعثر في
خطوه إليك، يَجترّ خدوش جراحِك، يبحث عن كوّة في أيّ جدار تدلّه على وقْع أنفاسِك،
على أثرِ النبض في خفقِك... قبل رحيلي الأبدي.