الفصل السادس من رواية (صحن الجن) عادل الأمين*
الجندي الحافي
عادل الأمين*
*****
دارت الأيام ومرت السنوات...استيقظ فجأة مذعورا على صوت هاتف شعري لصديقه
المعهود الراحل الشاعر الذي لا يتبعه الغاوين..حفيد زرقاء اليمامة المتجرد ..محطة الإنذار
المبكر .. يردد أمامه أبيات شعر غريبة:-
إذا قرت النفس لذ المقام
وساوى التراب الفراش الوثير
فكم مترف مبتلي بالألوف
وكم كادح هاني باليسير
في اليوم التالي ..جاءت رياح الشمال الوفية بعصافير
الخريف...الغرباء..الذين يصلحون ما افسد الناس...وجاسوا خلال الديار...وصمت القصر المنيف
إلى الأبد بعد فرار قاطنيه..وعم الصمت المطبق المكان...نظر إلى الأفق المعتم والشعارات
الجديدة ترفرف في أنحائه ..ثم انزوى يقرا الكتاب للحظات تحت ضوء مصابيح المقبرة وتثاءب..
ثم رفع كفه بالدعاء المعهود"اللهم أعشنا في سلام امتنا في سلام وأدخلنا دارك دار
السلام......"....ونام وعلى فمه ابتسامة عريضة....
*****
خرج زين من بيت الرجل الميسور والوزير السابق الذي
يقيم في الحي السياسي في حدة , بعد أن أكمل مراجعة الدروس لابنه النجيب , كان الوزير السابق له عقيدة راسخة في ان أفضل
من يقوم بمهنة التدريس في اليمن هم السودانيين , لذلك لم يفرط في زين وجعله ويقدم دروس
إضافية لابنه, كانت الشوارع المقفرة ترفرف فيها الأعلام الخضراء ,عرج عند سور المقبرة
يتفقد صديقه الجندي الجنوبي "صلاح اليافعي" لم يجده فقط , وجد حذاءين قديمين
متهرئين , تذكر انه مر عليه قبل ثلاث أيام , والبلد أضحت مرجل يغلي , ووجده في معنويات
عالية وطلب منه أن يعطيه مبلغ مأتي ريال ليغسل ويكوي ملابسه العسكرية المتهرئة التي
كان يرتدها من حرب صيف 1994 , إلى اين مضى هذا الجندي الشجاع الحافي ؟!.. كانت هناك
سجلات فكرية رفيعة المستوى بين زين والراحل الذي يقيم عند سور المقبرة وله مواقف من
الحياة,الجندي الشجاع "صلاح اليافعي".
- فقدت أمي وأبي وإخوتي في أحداث يناير 1986م , حروب الإخوة الأعداء , الصراع
العقيم على السلطة بين "الزمرة" و "الطغمة "وبعدها كفرت بالرفاق وبفجرهم الكاذب ,ثم جاءت الوحدة في
1990 واستبشرت خيراً لا ابدأ حياتي من جديد وجاءت ثالثة الأثافي حرب صيف 1994م بالإخوان
المسلمين المقبوحين وميلشياتهم المنفلتة وعاثوا
فساداً في عدن , فقدت زوجتي وبيتي وأولادي ,بعدها شعرت أن الحياة تخلت عني ,فتخليت
عنها .
رد زين الغارق في الحزن
- أما أنا يا صلاح فقد تخلى عني الموت في بلادي البعيدة ,كنت أعاني الأمرين
من تردي الأحوال وحمى المستنقعات بعد الفيضانات التي اجتاحت مدن الرمال , هناك والانقلاب
الاخواني المشئوم الذي خيم على كل البلاد ,انظرني الآن أجلس معك عند هذا الجدار الحجري
للمقبرة وصمت الليل الموحش وآتيك أحيانا بعلب الدخان والكتب .
- إنها لعبة الأقدار ,لقد جئتني على قدر وأنا شاكر لك وممنون لكتبك القيمة
,عرفتني بمدى اتساع وعمق هذا العالم ,عرفت عظماء إفريقيا , أمثال "ماديبا وجليوس نايري
و ليبود سنغور وثوار يونيتا وأطلعت
على أدب أمريكا الجنوبية البديع وأضحيت احلق كالنسر خارج هذا المستنقع الآسن الذي يسمى
الشرق الأوسط و أيديولوجياته السقيمة .
- الوعي الحر يجعلك في مستوى جدل الشاعر الفذ عبد الله نعمان (عشت أيماني وحبي أمميا )
- لكن هذا الشرط يحتاج إلى أرضية صلبة مثل ( وسيبقى نبض قلبي يمنيا) ,لم
تعد الشعارات العروبية الزائفة تنفعنا في اليمن , انظر ماذا فعلت بنا جامعة الدول العربية
والعرب,لابد من انجاز مشروعنا الوطني أولا اليمن الجديد والوحدة بأسس جديدة يتراضى
عنها الجميع .
- هذه الجامعة (المفرقة) ولدت ميتة ومشوهة أيضا ,تفتقر إلى الديمقراطية
والجماهيرية أيضا ,مؤسسة صفوية مركزية , الشعارات القومية المزيفة شرخت الدولة إلى عرب وغير عرب والشعارات الإسلامية
المزيفة أيضا شرخت بعض الدول العربية إلى مسلمين وغير مسلمين إلى سنة وشيعة, وهذه هي
التناقضات المدمرة التي حررت الشيطان في دول الربيع العربي الذي لا عطر فيه ولا زهر والنتائج الكارثية أمامك.
نظر زين إلى الجدار الخالي ,فقط رأى الحذاء العسكري القديم "يبدو ان الجندي صلاح اليافعي " مضى مع
رياح التغيير الجديدة في اليمن التي هبت من الشمال والخيارات الكبرى وترك حذائه القديم
...رعاه الله" ....
تنهد زين وأطلق زفرة
حارة واستمر في سيره ’ يقرع الأرض بحذائه الجلدي الجديد ظل يسير في الشوارع المقفرة , والهدوء الحذر الذي
يشوب المدينة , يصعد جسر , ويدخل في نفق ,
غمرته موجه من الذكريات واستغرقه التفكير , فجاة هبطت عليه في قمة الجسر واختطفته "أمه العنقاء"
وصعدت به إلى السماء وأخذت تدور به في إنحاء المدينة , سعيدة , وعندما تنفس الصباح
, شاهدهم يفرون من المدينة , بسيارتهم السوداء القبيحة , عجم وعربان يفرون نحو المطار
, منظمات أجنبية , رعايا أجانب , أخذته الرعشة , ودب فيه النعاس
لحظة من وانبجست القصيدة التي تسكنه
منذ أمد بعيد ,جاءت القصيدة العجيبة لامل
دنقل* التي استوطنته تراوده من جديد:-
هاهمُ "الحكماءُ"
يفرّونَ نحوَ السفينة
المغنونَ- سائس خيل الأمير- المرابونَ- قاضى القضاةِ
(.. ومملوكُهُ!)
-
حاملُ السيفُ - راقصةُ المعبدِ
(ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ)
- جباةُ الضرائبِ - مستوردو شَحناتِ السّلاحِ -
عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ!
جاءَ طوفان نوحْ.
ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السفينة.
بينما كُنتُ..
كانَ شبابُ المدينةْ
يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ
ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.
ويستبقونَ الزمنْ
يبتنونَ سُدود الحجارةِ
عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضارة
علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!
بقيت روسيا والصين
العظيمة , الحضارة التي عانت منهم ومن ابتذال هؤلاء الرأسماليون الطفيليون , أغرقوها
بالأفيون تحت طائلة التجارة الحرة , ثم لم يعترفوا بها أيضا بسبب الثورة الثقافية التي
قادها الزعيم ماو 1949 , حتى جاءت سبعينات القرن المنصرم ونهضت الصين تنين مروع, انتزع مقعد دائم في مجلس الأمن , يملك
كل ما لديهم من قوة وتكنولوجيا ويتفوق عليهم
بالأخلاق الكنفوشية الرائعة " قيمة الاشتراكية
في الصين وقيمة الديمقراطية في اليابان وجدتا أرضية صلبة من التربية الروحية العميقة
لهذه الشعوب ، حيث يعتنق معظمها الديانة البوذية والكنفوشية وهي أقرب للتصوف الإسلامي
وبها منهج تربوي جبار يجعل الإنسان دائماً ميال للزهد ومحاسبة النفس ولنأخذ عينة صغير
من تعاليم كنفوشيوس كمثال “ضع الألفاظ موضعها ، فحين لا تضع الألفاظ موضعها تضطرب الأذهان
وتفسد المعاملات ، حين تفسد المعاملات لا تدرس الموسيقى وتؤدى الشعائر الدينية وحين
لا تدرس الموسيقى وتؤدى الشعائر الدينية تفسد النسبة بين العقوبة والإثم ولا يدري الإنسان
على أي قدميه يرقص ولا ماذا يعمل بأصابعه العشر”
… هكذا يظهر الأثر الواضح للتربية في نجاح أفكار وبرنامج هاتين الدولتين "...
*****
سمع دوي فرامل السيارة خلفه ,قفر كالملسوع ,أيقظته
من استغراقه العميق ,التفت ليواجه ابتسامة سائق الميكروباص العريضة (مرتضى) ابن جاره
العزيز عبد الله الصنعاني , عائد من ضاحية حدة ,ركب زين جواره , مرتضى طالب مجتهد في
كلية الهندسة الكهربائية في جامعة صنعاء ,يشكل هو وأصدقائه في الحارة وزملائه في الجامعة
ظاهرة بهيجة ,إنهم ينتمون إلى إمبراطورية ,جوزيف بلاتر (الفيفا) وعالم كرة القدم ,بعضهم
من "قبيلة برشلونة" والبعض الأخر من "قبيلة ريال مدريد" ثم يمضون بقية الليل بحثاً عن فندق لازال على قيد
الحياة به كهرباء وشاشات بلازما جديدة عملاقة ليشاهدوا مباريات الدوري الاسباني , العم
عبدا لله الصنعاني ,الذي دهمته العولمة لا
يحب هذه الأمور ,خاصة وهو من الجماعة اللذين
لم يحيوا من السنة سوى الكحل والخضاب ,ظل دائماً
يقرع ابنه على زخرفة سيارته بأعلام ونجوم نادي برشلونة "ميسي" وغيره ,بل
كان له رأي في كرة القدم نفسها ,ويدور حوار ما رثوني بينه وبين زين .
- يا أستاذ زين ,ما رأيك في ابني مرتضى ؟
طالب مجد ورياضي مطبوع ,ولد جيد ومؤدب .
- هل تعتقد لعب كرة القدم أمر جيد؟!
- نعم ,أنت لك زمانك وهم لهم زمانهم وكرة القدم نشاط حميد ,معارك بلا ضحايا
,نصر بلا استبداد ,هزيمة بلا عار.
- هكذا إذا.. هل يصلون ؟
- نعم ..أنهم يلعبون الكرة أحياناً في ميدان السبعين , يصلون المغرب والعشاء
في مسجد الصالح ثم يمضون لمشاهدة كرة القدم
في الفنادق المنتشرة في حدة ,أنا نفسي أشاهد معهم مباريات كأس العالم في ميدان التحرير
وأشجع منتخب غانا , الرياضة أمر ممتع.
- هكذا أذا
!!.
- أبنك لا يدخن ولا يتعاط القات ويهتم ببنيته الرياضية , هل يوجد أفضل من
هذا؟؟!! , دعك من ثرثرة المطاوعة في المسجد ,لا تجعلهم يوقعون بينك وبين ابنك.
ابتسم عبد الله الصنعاني و مسح لحيته البيضاء و
نظر إلى زين في امتنان
.
- خيرة الله ,هو ابني فعلا وليس ابنهم .
ظلت السيارة تنهب الأرض ,كان مرتضى يتابع أخبار
الرياضة في راديو السيارة , وأستاذ زين ساهم في ذكرياته الخاصة والسيارة تطوي شوارع
صنعاء الخالية والموحشة في طريقها إلى الضاحية الشرقية البعيدة (هبرة).
*****
*كاتب من السودان مقيم في اليمن
**فصل من رواية صحن الجن لم تطبع
بعد