ثلاثة مشاهد عن الصوم الرمضاني في ثلاث مدن غربية:
مونتريال الكندية: ينقل أستاذ جامعي في هذه المدينة ما تعرَّض له صديقه، منذ أيام.
يقول هذا الصديق: "كنتُ جالساً
في حديقة "غاري"، أثناء النهار، أتناول
السندويش، وإذا بأحدهم يقترب مني ويشتمني بأقذر العبارات". مدينة نيس الفرنسية:
نقلاً عن صحيفة "نيس صباحا"، قام أحد الأشخاص المعروفين لدى الشرطة بجنَحه
المتكررة، بصفع نادلة تونسية في أحد المقاهي، بشتمها وتعنيفها، حتى أسقطها ارضاً؛ وذلك
لأنها تقدم الخمر خلال الشهر الفضيل. علما، كما تقول النادلة، ان هذا عملها الذي تعيش
منه، وانها هي نفسها صائمة. مدينة دوسلدورلف الألمانية: شبّ حريق في أحد مخيمات اللاجئين
إثر شجار اندلع بينهم، يرفض بموجبه فريق أن يصوم، فيما يريد الفريق الثاني إرغام الأول
عليه. ويُعتقد بأن الحريق ناجم عن قيام الفريق الأخير بصبّ سائل مشتعل على فراش واحد
من الفريق الثاني. فكان الحريق الذي دمّر المخيم تماماً. قد يقول قائل بأن هذه الحوادث،
وغيرها الكثير، المتزايدة سنة بعد أخرى، ان هؤلاء الذين يريدون إرغام الناس على الصوم
والتقوى والتقيّد بقيودهما، لم يفهموا جيداً ما يصدر عن الوطن الإسلامي الأم، حيث هناك
الرحمة والتسامح والإسلام الصحيح الخ. ولكن مهلاً: في مصر نفسها، "المعتدلة"
من بين الأمم الإسلامية، أصدر المفتي فتوى بضرورة مطاردة الفاطرين، محرّضأ ضدهم بالعبارات
التي باتت مألوفة. الجماهير الصائمة سوف تلبي هذه الفتوى. وقد تجد من بينها أفراداً
لم يُعرف عنهم تقوى أو إيمان... يتصيّدون، في هذا الشهر بالذات، كل الذين أزعجوهم خلال
الأشهر المتبقية من السنة. ولكن حادثة واحدة، صُورت فصولها على "اليوتيوب"
بحذافيرها، كانت كفيلة بالتعويض عن أي تقاعس يمكن أن تظهره تلك الجماهير: نائب رئيس
قسم الشرطة في حيّ العجوزة القاهري، يقوم بـ"حملة أمنية" في هذا الحيّ الواقع
في نطاق صلاحياته؛ يقف لحظات أمام باب حديدي مغلق بالكامل (فراشة) يخفي النشاط الجاري
بداخله، يقتحمه بمؤازرة رجاله، يخرج الطاولات والكراسي منه، ويأمر رواد المقهى بمغادرته.
أذكر شخصياً أنني أثناء أشهر رمضان في القاهرة، في عهد حسني مبارك، كنتُ أرتاد تلك
المقاهي، من دون قلق، وكانت أبوابها الحديدية لا تُغلق بالكامل، بل يُترك لها شيء من
الإرتفاع؛ وذلك لتمكين رواد المقهى من مشاهدة النصف السفلي من الطريق. هذا فقط لقياس
درجة الحرية النسبية التي كان يتمتع بها المواطن المصري في عهد مبارك، بالمقارنة مع
عهد السيسي. ولكن، ما علينا الآن: المقارنة البسيطة بين واقع مدن أوروبية وذاك الذي
تعرفه القاهرة اليوم، يفضي إلى ملاحظة الأثر الذي تتركه الميول الجارفة في "المركز"
العربي أو الإسلامي، على المواطنين المسلمين المهاجرين إلى ديار الغرب. فلو أصدرت دار
الفتوى، أو الأزهر، بياناً، أو فتوى، تعطي بموجبها للمسلم الحق بأن يختار بين صوم ولا
صوم، بحسب ما يمليه عليه ضميره، كيف سيكون تصرف المهاجرين المسلمين، كيف سيكون تصرف
رئيس شرطة العجوزة؟ ثم أبعد من ذلك: ان فرض الصوم بالقوة هو من الأوجه الداعشية، من
صميم عقيدة "داعش" وفهمه للشريعة الإسلامية، من أن على المسلم أن يذعن...
ويذعن فقط... للذين يفرضون عليه العبادات. ما الفرق بين ممارسات "داعش" في
الأراضي التي يحتلها، أو العقول التي يهيمن عليها، وبين تحريض دار الفتوى المصرية على
الفاطرين؟ الفرق كمي وليس نوعياً. الفرق ان تحريض دار الفتوى يصنع مواطنا حاضنا لـ"داعش"،
ينتج "بيئته الحاضنة". المسلم الذي يصوم رغما عنه، أو خوفا من البهدلة أو
التكفير أو التهميش أو السجن أو الضرب أو الجلد، أو الصفع أو الشتم أو حتى القتل بالطرق
المختلفة... هذا المسلم ليس صائماً متسامحاً، ولا سعيداً، ولا كريماً، ولا صادقاً.
انه مواطن مقموع، من أجهزة الدولة اولا، وأجهزة الدين ثانياً. والإثنان منسجمان، رغم
الخطابات الرنّانة عن "ثورة دينية" أو "إصلاح ديني"، أو أي شيء
آخر يتعلق بالدين. عندما تصبح، أنتَ الصائم، قادراً على التعامل مع فاطر، مسلم أو غير
مسلم، من دون أن تشعر بالأذى على دينك الحنيف، يمكنك في هذه اللحظة القول بأنك وضعت
مدماكاً واحدا من بين المداميك الأخرى التي
تحتاج اليها لتخطو نحو الحرية
recent
كولوار المجلة
recent
recent
جاري التحميل ...
recent