1- لقد صدر لك هذا العام عدداً من الكتب النقدية حتى وصلت مؤلفاتك في هذا المجال ما يربو على ثلاثين كتاباً، جلها يصب في مجال التطبيق باستثناء بعض الدراسات
القليلة في مجال التنظير. لماذا هذا الانجراف الجامح صوب الدراسات التطبيقية؟!! وقد تكون الناقد السوري الوحيد الذي صدر له هذا الكم من الدراسات التطبيقية، لدرجة تضعك في موقع المواجهة وجذب الأنظار والأحقاد إليك من قبل ظلامك و منافسيك؟ خاصة أولئك النقاد العجز عن الخوض كما خضت؟!
- أولاً- أنا أعد النقد رسالة وأمانة، يجب أن تؤدى على أكمل وجه، والناقد الحقيقي هو الذي يؤدي الرسالة على أجمل حلة، وأبهى صورة، لأن الذي يبصم في النهاية هو الذي يصدق مع نفسه، وقارئه، وخالقه، ووجوده، وأرى في الدراسات التنظيرية الفحولة الجوفاء الفارغة، التي لا تصنع نقداً، ولا تصنع مجداً، إنها مجرد أقوال تسبح في الفراغ، أو مجرد أحلام وأمانٍ لا متحققة. وأنا قلت وناقدنا الفذ الجليل خليل موسى قال إن من يُنَظِّر هو أشبه بمن يتكلم عن الفحولة وهو عنين، لذلك، كثفت نشاطي في هذا المضمار، واشتغلت على نفسي كثيراً لمواجهة ظُّلَّام أشد تزمتاً، وشراسة، وعدوانية من أعتى السفاحين، والقتلة، والمجرمين، وللأسف أسعفتهم مناصبهم في السلك الجامعي في جامعة حلب تعطيل حياتي، وليس فقط متابعة تحصيلي في درجة الدكتوراه، ونظراً لإيماني المطلق بأن الوجود زفرة حياة، ما عدت أطمح سوى أن أعيش بقية أنفاسي مع الكتاب، أشاكسه ويشاكسني، أكتب بحرقة المظلوم أن أهب القارئ ما يفيده، عسى، ولعله يحقق أحلامه، و يعيش قدرا من الطمأنينة في عالم لم أذق فيه غير المرارة، والحرقة، والألم، ولذلك، عندما أكتب للقارئ أحس وأشعر أني أكتب لنفسي الجريحة لتستعيد شيئاً من كبريائها المجروح، وتماسكها الصلب لتستمر في الحياة و لو على فُتَاتِها، وبشاعة أناسها وقمائتهم.. وكنت أقول في سري: ما أصعب الانكسار للظالمين.. و أسعى دائما أن أمنح كلي للقارئ، ليشق طريقه في ركب الحياة، ويحقق أحلامي التي دفنوها أولئك الظالمون في صدري، ويمضي في عالمه الجميل محلقاً في سماء الحياة.
ومن هنا، انطلق مشروعي وانطلقت صرختي في وجه أولئك الظالمين فأصدرت بعض المؤلفات المتواضعة التي تركت أثرها في وجدان القارئ العربي، وأولئك الظلمة ادعوا أن كثرة إنتاجي من الدراسات، والبحوث، والكتب بدافع مادي بحت، أو مطمع بهرجي من أجل شهرة ما.. ولم تكن بدافع علمي واندفاعي في فترة من الفترات للحياة، وأنا أقول كلمتي من نبض الروح قبل دفق القلب: أقسم أن جل مؤلفاتي طبعت على نفقتي الخاصة لدرجة أن منزلي غرفة واحدة، ولم أنل من مؤلفاتي أي مكسب مادي، بل قسمت ظهري، وزادتني عوزاً وفقراً، وهذا إخلاصاً لرسالتي العلمية، ولمشروعي الذي أسسته بالدموع والزفرات والأحلام، والأماني المنكسرة أن أحقق نصري على أولئك الظلمة الذين جندوا أقلاماً لم تطلع على نتاجي النقدي، ولا تعرف معنى النقد، متبعين المثل الشعبي (العيار اللي ما بصيب بيدوش)، خلطوا الأوراق، وقلبوا الأمور رأساً على عقب، ليقللوا من شأن ما أكتب، وأعترف أنهم نجحوا في كل ما خططوا له، ونالوا نصرهم الساحق في فترة من الفترات، تلك الفترة السوداء؛وهي (مرحلة ضعفي وتأمر مشرفي المجرم سعد الدين كليب الذي انضم إليهم مع المجرم الآخر أحمد محمد قدور- لا بارك الله فيهما ولا سلمهما- بتوجيه من رأس الأفعى وزيلها الدعي (أحمد محمد ويس) الذي خطط بمكر ودهاء، وهؤلاء السفلة نفذوا بإتقان ما خطط له الدعي المجرم، باستصدار قرار جائر يقضي ب (شطب أطروحتي في الدكتوراه) قبل مناقشتها بأيام قليلة، وفعلاً نفذت الجامعة القرار، ودفنت قضيتي لتسجل جامعة حلب عاراً عليها يلزمها إلى أبد الآبدين، وكما قلت : إن وزارة التعليم العالي المبجلة في سورية هي التي مهدت السبيل إلى تمادي بعض أساتذة الجامعات المدمرين... ليدمروا مشروع هذا أو ذاك لأنها بالأساس منحت الأستاذ الجامعي الحصانة، وكأنه النبي المعصوم من الخطأ أو الزلل.. والإجرام الأكبر أن وزارة التعليم العالي لا تحاسبهم حتى ولو أخطأوا؟!!. وحفظك الله يا شاعرنا السوري نزيه أبو عفش الفذ بقوله الشهير (أيها العالم الكلب أبصق على شرفك)، وأنا أقول: ..... وفهمكم كفاية .
أعود وأقول يا أختاه: يكفيني نصراً أن الله أمدني بالجسارة، والقوة على الكتابة رغم ظرفي الشاق، والظلم، والأسى المرير الذي نلته على أيدي أولئك الظالمين، وفخري الوحيد أني أحب قارئي، وأخلص له، ولن تزحزحه تلك الوثبات الجسورة من أولئك الذئاب الشرسة، لأن قارئ كتبي لابد أن يكون حساساً، وشهد لي في الماضي، ويشهد لي اليوم، وسيشهد لي غداً، وشهادته وسام شرف على جبيني، وتاج عز على رأسي، خاصة قارئي العربي في المغرب، وتونس، والجزائر، وقد نشرت كتباً فيها، فأنا عربي ولست سورياً، ولم أكتب لسوريتي التي ما جرعتني إلا كأس المرارة والجحود والنكران والإهمال.
وأعود إلى الشق الثاني من سؤالك؟ أنا لا يهمني إن كنت الناقد الوحيد في سورية في عدد مؤلفاتي أو الناقد الأخير، النقد ليس بالكم، وإنما بالكيف، أي بالقيمة، والجودة، وبراعة الاكتشاف، فالناقد رائي قد يبصر في كتب، ويحلق فيها، وقد يخفق في كتب، وينحدر في تأليفها إلى أسفل السافلين.
وأنا أعترف أن هذا الكم من الكتب قد يكون مأخذاً علي، لكن ما يشفع لي الكتب المتواضعة التي اشتغلتها على شاعرنا السوري الكبير بدوي الجبل، و الشاعر العراقي الكبيرحميد سعيد ونزار قباني و جوزف حرب، فما زالت كتبي عن هؤلاء الشعراء تطلب، وسنعيد طباعتها أكثر من مرة.
أما الكتب التي شرفني الله بطبعها هذا العام 2016 فهي:
1- مفاتيح الشعرية في قصائد حميد سعيد، دار الصفحات، دمشق.
2- جدلية الزمان والمكان في شعر حميد سعيد، دار البدوي، تونس.
3- تحولات الخطاب الشعري في شعر جوزف حرب، دار الصفحات، دمشق.
2- ما رأيك في النقاد السوريين؟ وهل تعتقد أنك تجاوزتهم؟!
- أنا قلت لكِ –يا أختاه- أنا ناقد عربي لا أنتمي لسورية لهذه الرقعة الضيقة، انتمائي لعروبتي أولاً وأخيراً، فكل قطر عربي هو وطني، وكل فتاة عربية، هي أختي، حبيبتي، أمي، عمتي، خالتي، قلبي النابض بالدفء والأمان... وصدقيني أن قارئي المحب ليس سورياً لأن الإنسان يكره البلد الذي يظلم فيه، وأنا بصراحة لا أرغب أن يكون قرائي سوريين على الإطلاق، والدليل على ذلك كل المنابر الثقافية التي انشر فيها أبحاثي ومؤلفاتي في السنوات الأخيرة عربية، وليست سورية. فكيف أنتمي إلى بلد لم ينصرني، وأترك تلك الأوطان التي أغدقت علي بفضلها .. تلك الأوطان التي أكرمتني وأحبتني وقدرت نتاجي النقدي حق قدره.. فكيف لا أنتمي إلى بلدي الأردن وقد نشرت لي ثلاثة كتب على نفقتها، ومازالت تطلب المزيد، وكيف لا أحب تونس، وقد نشرت لي كتابين، وكيف لا أحب المغرب وستنشر لي كتاباً، وكيف لا أحب السعودية وقد نشرت لي أبحاثاً عديدة هي والإمارات، والكويت، وعمان، والبحرين، .. هؤلاء هم أهلي، وهم أوطاني الآن، فكيف أكون سورياً، وظلامي الذين شربوا من دماء حلمي حتى الثمالى، مازالوا يتربعون على عروش مناصبهم، ويترقون درجة تلوى أخرى.. وأسفاً على وطن لا ينصف مظلوميه من ظالميهم، وطني الحقيقي هو من يقدرني ويحبني ويرعاني لأكبر معه ويكبر معي. ولهذا، أنا أفتخر بعروبيتي، وإنسانيتي وليس بسوريتي الظالمة. فكيف يفخر ابن بأب ظالم؟!!، وأم ظالمة، هكذا سورية بالنسبة لي، وستبقى إلى أن تأخذ حقي من أولئك الظالمين..وتزيقهم المرارة والخزي كما جرعوني إياها في مرحلة من المراحل.
أما جوهر سؤالك فلا يعنيني أني تجاوزتهم أم لا؟ ولا يهمني هذا الأمر، ولا أفكر به إطلاقاً .. أنا أكتب للنقد العربي، وليس للنقد السوري . أنا لا أعترف في المحلية على الإطلاق، ولا أركن إليها، ولا أقف عندها، فصلاح فضل عربي.. وليس مصرياً، ومحمد صابر عبيد عربي، وليس عراقياً، انتماء النقاد للإبداع وليس للمحلية، وأنا قلت مراراً وتكراراً: الناقد الحقيقي يبصم بصمته الخاصة، ويسد ثغرة ما لا يسدها غيره على الإطلاق، ولا يهمني إن كنت الناقد الأول عربياً، أو كنت الناقد الأخير ما يهمني أن أبقى مع أدواتي النقدية أجدد فيها وأشحذها كل يوم عسى أن أظفر بصيد جديد، ورأي سديد في قضية من القضايا النقدية، وكما أشرت من سابق: ليس لدي من طموح سوى أن أعيش مع أدواتي النقدية أحفر في هذه التجربة أو تلك عسى أن أظفر بالدرة أو الجوهرة الخبيئة بين الركام، لأقدمها إلى من هو أتعس مني لأزف له فرحة طالما اشتهيتها في زمني الماضي والحاضر والمستقبل.
3- كيف ترى النقد بين الحقيقة والمجاز؟ أين أنت منهما؟!!
- النقد قوة خلاقة في الروح، تجري في شرايين القلب كجريان الدماء في الجسد، ويخطئ من يظن أن النقد يقف في المرتبة التالية بعد النتاج الإبداعي، النقد الحقيقي إبداع مركب أو إبداع متعدد المرجعيات، والرؤى، والطبقات، والنقد إن لم يكن إبداعياً ليس بنقد حقيقي، وأنا ضد النقد الانطباعي، لأني أعد هذا النقد لا مرجعياً، أو نقداً بلا ثوابت أو جذور، ومن لا جذر لا له بالتأكيد لا قيمة له.
4- ما موقفك الشخصي ممن ينتقدون كتبك ودراساتك؟ .
- أنا أحترم الناقد الموضوعي وأقدره، وأعترف بجميله، وفضله إن كان مطلعاً يعي المسالة النقدية المطروحة، ويسبر أغوارها، فيكون شريكي في الإبداع، وصنوي في الفكر، وليس ندي كما قد يرى البعض، ولهذا لا أحترمه فحسب، وإنما أطأطأ رأسي احتراماً له واعترافاً بجميله، ولكن عندما يخوض هذا المخاض من يجهل في القضية المطروحة، ولا يعي من أمرها شيئاَ، ويكون بعيداً في رؤاه عما أقصد أحزن على جهله، وأحزن على ضيق أفقه، أكثر بكثير مما أحزن منه، ولهذا، لا أدقق في الانطباعات السطحية، ولا التفت إليها، وأهتم وأفرح عندما أجد من يفوقني في رؤيته، ومنظوره، ويصوب رؤيتي، ويرشدني.. هذا هو القارئ الذي أحبه وأطلبه في كل ما أكتب.. عسى ولعلني أفد منه بمعلومة جديدة تمدني بطاقة إضافية أو طاقة مكبوتة في داخلي قد يفجرها هذا الناقد في قريحتي، لتفيض من جديد.
5- هل ستسامح ظالميك أولئك الذين سلبوا حلمك؟ ونهشوا بأنيابهم جهدك يوماَ ما؟!!.
- أنا قلت من سابق وأكرر: هؤلاء بالنسبة لي مهما تجبروا، وأسرفوا في ظلمي لا يزنون عندي ذبابة، لأن الأمر قضي وانتهى .. إنهم يعيشون على الرماد.. وإن الالتفات إليهم للحظة يؤخرني سنوات، إنهم مجرد دمى متحجرة عمياء.. وهذه الدمى ميتة القلب، والشعور. فكيف تسامح من لا يملك قلباُ أو شعوراً.. إنهم أموات عندما أسرفوا في التشهير، وأسرفوا في التلفيق والتزوير والظلم.. والدليل القاطع على ذلك أن نيران حقدهم أكلتهم ولم يبق منهم إلا الرماد. وحتى رمادهم لن أسامحه وأتمنى أن أدوسه بقدمي.
6- هل تعتقد أنك قدمت للنقد السوري أو العربي ما هو مهم وضروري واستثنائي؟
- أنا قلت لك - يا أختاه- وأكرر ليس على سبيل الكبرياء والنرجسية وقنزعة الأنا- لو اجتمع كل نقاد الأرض يمجدون ما أكتب لن يفرحني ذلك كثيراً، ولن يزيدني كبرياء وعظمة، ولا حتى نشوة وسروراً، ولو حدث العكس لن ينقصني رأيهم قوة وجسارة وثقة فيما أكتب؛ لأني لا أكتب لمجد، ولا لشهرة، ولا لحظوة عند امرأة أو حبيبة، أو عند دولة، أو مؤسسة إعلامية.. إن هذه الأمور الساذجة شخنا – يا أختاه- عليها، وما عادت تروقنا. أنا أكتب لله، وللوجود، وللإنسان، ولدافع ضغط الموهبة التي تفتقت بداخلي يوماً من الأيام، ويا ليتها لم تتفتق.. وهذا ما يعرفه كل من عاشرني وخالطني خاصة بعد عام (2007)، والكثير من الاتصالات باركت جسارة طرحي في كتابي الموسوم ب (فضاءات جمالية في شعر حميد سعيد) لكن هذا الإطراءات لم تغير فيَّ شيئاً، فانا ما زلت أبحث عن عمل جديد، وبإحساس أكثر تواضعاً، وأكثر مسؤولية، وهذا ما أكدته الآن في كتابي (الفكر الجمالي عند شعراء الحداثة) الذي آمل أن ينشر عام 2017.
7- هل تختار قارئك أو الناقد الحصيف لكتبك النقدية؟! ومن تفضل أن يقرأ نقدك؟!!
- أنا أحترم كل من يقرأ كتبي، وأعده توأم روحي سواء أكان قارئاً عادياً أم قارئاً أكاديمياً، وأرى أن مجرد الالتفات لي ولو بقراءة كلمة، أو جملة في كتبي هو بمثابة إكرام لما أكتب، وأنا أقدر كل من أشار إلى كتبي بملحوظات سلبية أم إيجابية، وأنا أعتز بالملحوظات التي قدمها الناقد إبراهيم خليل على كتابي: (فضاءات جمالية في شعر حميد سعيد)، وهي رغم إجحافها وقسوتها للكثير من القيم الجمالية إلا أنها دفعتني إلى المشاركة بهذا الكتاب لجائزة أهم كتاب نقدي صدر عربياً، وأنا مرفوع الرأس، بدافع التحدي فيما اكتب وثقتي بالمستوى النقدي الذي وصل إليه، وأعتقد أنه سيجد من ينصفه في المستقبل القريب أو البعيد
8- ما رأيك في النص المبدع الحقيقي وهل يستقطب النص المبدع الحقيقي الناقد الحقيقي ومتى تتكامل هذه العلاقة وتحقق ثمرتها في نظرية التلقي الجمالي من منظورك؟!
- لاشك في أن علاقة النص بالمتلقي من العلاقات المهمة التي طرحتها النظريات الأدبية والنقدية الحديثة على خارطة التداول النقدي في أكثر من محفل أو مؤتمر؛وهذه العلاقة، مرجعها الكثير من المتحمسين إلى سلطة النص، أو سلطة القارئ أو المتلقي؛ فكثير من المبدعين يتحمسون إلى النص بوصفه المدونة الأولى أو القطب الأول في نظرية التلقي، وإذا انعدم الأول فقد الآخر قيمته وأهميته، في حين أن البعض الآخر يتحمسون إلى المتلقي، لأن الرسالة الإبداعية موجهة إليه، ولولا وجوده وفاعليته لفقدت المدونة الإبداعية قيمتها؛ فهو الذي يحييها ويهبها الحياة من جديد؛ ومن هنا؛ اختلفت المنظورات وتعددت، بين مؤيد للنص وقيمته وسلطته المطلقة، وبين متحمس للقارئ أو المتلقي الذي تنعقد عليه الآمال في فك شفيرات النص؛ وعلاماته، وبؤره الدلالية؛ ليبث فيه نبض الحياة من جديد، ومن المعلوم أن الكثير من النظريات، والآراء الغريبة وقفت على قضية انفصال النص عن منتجه ومؤلفه بما أسموه (موت المؤلف) ؛ للإعلاء من سلطة النص فوق قارئه ومبدعه في آن؛ وهذا يعني أن الكثير من الدراسات اتجهت إلى الشق الأول، والكثير من الدراسات اتجهت صوب الشق الثاني؛ ومازال الحماس يذهب إلى كلا الجانبين؛ لكن ما نود إضافته في هذه الرقعة القرائية أن للنص سلطته من جهة مدونته الإبداعية؛ أو وثيقته الإبداعية التي تمثل الطرف الأول في جمالية التلقي، إذا ما أهملنا المبدع أو المنتج، في حين يمكن اعتباره الطرف الثاني إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المؤلف، ليأتي المتلقي الطرف الأخير بعد الأول والثاني؛ لكن ما يهمنا نحن أيهما يملك السلطة الأقوى في هذه النظرية أو العامل المستقطب لبقية الأطراف، وهنا نقف على نقط مفصلية في نظرية التلقي نجملها في المفاصل الرؤيوية الحساسة؛وفق ما يلي:
فاعلية النص من فاعلية المتلقي:
ما من شك في أن فاعلية النص ترتقي بفاعلية المتلقي بصيرورة إبداعية كل منهما يؤثر في الآخر؛ وكل منهما يرتقي بارتقاء سوية الآخر؛وهذا يعني أن النص بارتقاء قارئه يرتقي إبداعياً؛ ويسمو فوق قدراته أحياناً؛ وهذا الارتقاء ناتج تفاعل إبداعي خلاق أو مؤثر بين النص والقارئ؛ وبمقدار حساسية هذه العلاقة التفاعلية بين النص وقارئه، تزداد درجة أسهم النص الفنية أو طاقته الإبداعية الخلاقة. ولا نبالغ في قولنا: يرتقي النص بفاعليتين متضافرتين أو قوتين خلاقتين لا غنى لإحداهما عن الأخرى: (طاقة النص الإبداعية الخلاقة)، و (طاقة المتلقي وفاعليته) التي ترتقي بالنص ودرجة شعريته وفاعلية تلقيه الإبداعي؛ ولهذا؛ فإن جاءت مقولتنا النقدية: (تنبثق فاعلية النص من فاعلية تلقيه أومن فاعلية المتلقي في تلقي النص إبداعياً) صائبة أو تملك شرعيتها من خلال التجارب الإبداعية الكثيرة؛ فمعظم النصوص الإبداعية العظيمة لا تظهر جماليتها إلا من خلال فاعلية تلقيها؛ وهذه الفاعلية تزداد قوتها بفاعلية الطرفين، وقوة الدافع الجمالي الساكنة في كليهما.
فاعلية المتلقي من فاعلية النص:
إنه لمن المسلم به في النظرية الأدبية الحديثة أن فاعلية المتلقي ترتقي بفاعلية النص؛ فكما أن فاعلية النص ترتقي بفاعلية المتلقي؛ فإن فاعلية المتلقي ترتقي بفاعلية النص؛ وهذه العلاقة التفاعلية لا يمكن إهمالها أو التقليل من شأنها في جمالية التلقي أو فاعلية التلقي؛ وهذا يعني أن ازدياد جمهور التلقي الجمالي للنص الإبداعي يرتبط بفاعلية النص الإبداعية وقيمه الجمالية، وبمقدار تنامي هذه القيم وازديادها بمقدار ما تزداد الشريحة المتلقية ويزداد غنى النص إبداعياً.
فاعلية النص وفاعلية المتلقي:
- يخطئ من يظن أن النص الإبداعي مكتفٍ بذاته، بعيداً عن متلقيه أو قارئه؛ ومهما سما النص الإبداعي فنياً وجمالياً، فإنه سيبقى منقوصاً من أهم عنصر في ثرائه وغناه ومحفزه الإبداعي؛ فالقارئ هو التربة الخصيبة أو هو ماء الحياة الذي يمنحه للنص، ليستمر ضد التقادم الزمني؛ أو التصحر الوجودي، ولا قيمة لأي نص إبداعي مهمل مهما بلغ من الإثارة والدهشة الإبداعية، ليبدو النص كتمثال جمالي لا نبض فيه ولا حياة.
- وقد يتساءل القارئ ألا يمكن أن يخلد النص الإبداعي بقوته الإبداعية ولاشيء سواها بعيداً عن قوة القارئ وفاعليته؟!!
- نقول: إن خلود النص بقوته الإبداعية الجامحة لا يمكن أن تتجذر وتثبت بعيداً عن دائرة التلقي الجمالي، لأن النص الإبداعي الحقيقي لا يثبت ولا يترسخ إلا في الوسط الثقافي والبيئي الذي أنتجه؛ وهذا الوسط مهما كان ضحلاً فإنه يؤثر في فاعلية المنتج الإبداعي ويرتقي به؛ومن هنا، لا يسمو النص ويرتقي بعيداً عن وسطه الذي أنتجه إلا بالمتلقي الخلاق الذي ينقل النص من مستواه البيئي أو الثقافي الضحل إلى مستويات سامقة في التميز، والإثارة، والإبداع؛ولا يمكن لأي نص إبداعي أن يتجاوز إطاره الزمني إلا بالتلقي الفاعل الذي يحقق أقصى فاعلية في نقل النص إلى زمن جديد ووسط إبداعي أرقى من وسطه الذي أنتجه؛ ولذلك تبقى مسألة التلقي الجمالي من المسائل المهمة في نظرية الأدب التي اشتغلت على الأطراف الثلاثة في فاعلية التلقي هي: [ (النص) و (المبدع) و (المتلقي) ]؛ولكل طرف من هذه الأطراف قيمته، وتأثيره في الطرف الآخر لدرجة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر؛ وإن حاولت بعض النظريات النقدية التقليل من شأن أحد الأطراف على حساب الطرف الآخر ؛ فإنه يبقى لهذا الثالوث قدسيته في النظرية الأدبية الحديثة.
- وصفوة القول: إن قيمة النص لا تنفصل عن قيمة المبدع (خالق النص الأول والمنتج الشرعي له)، والمتلقي الذي يفكك النص وينفث فيه روح الحياة من جديد؛وهذا يعني أن للنص طاقة ما، وسلطة جزئية محدودة في ذاته لا يتعداها إلا بالقارئ الذي يمنحه هذه القوة، والثبات، والتطور، والنمو والازدهار؛وبهذا؛ تتنامى فاعلية النص بتنامي العلاقات الرابطة بين (المبدع والنص) من جهة، و (النص والقارئ) من جهة ثانية، ولا يمكن أن يثبت النص كمدونة إبداعية خالدة أو وثيقة إبداعية مؤثرة إلا بتعاور هذه الأطراف الثلاثة في نظرية التلقي التي تأسست عليها المناهج الحديثة في نقل مدونتها المعرفية إلى عالمنا النقدي المعاصر.
9- ما مفهومك للحداثة المعاصرة وتياراتها الحديثة؟ كيف تقيم حركة الحداثة في عالمنا العربي المعاصر؟!!
- إن (الحداثة هي الحداثة في كل شيء) ؛وما من حداثة دون تحديث؛ وما من تحديث دون فكر حداثوي متغير ومتطور؛ فالحداثة هو المفهوم الذي يتوالد ولا يشيخ، ولهذا؛ يقول الكثير من المبدعين (الحداثة) هي الفكر الحداثوي، والرؤية الحداثوية، والمنظور الجديد، وهذا الطرح الذي بحث فيه الكثير من نقادنا ومنظرينا لا يمكن استنفاد رؤاه ومدلولاته المتغايرة مع فجر كل يوم جديد، إنه المفهوم الرائج الذي لا يشيخ، وكما قلنا؛ من سابق ونؤكده الآن: إن هذا المفهوم هو الذي يتنامى ويتطور تدريجياً مع كل إفراز إبداعي جديد، ويخطئ من يظن أنه حداثوي (مائة بالمائة)، لأن ما هو حداثوي الآن متقادم غداً، هكذا دوران الحداثة كما دورة الحياة؛ والمبدع الخلاق هو الذي يتطور في شكله الإبداعي، ومنظوره الرؤيوي المتجدد، ولا يتوقف على رؤية، أو شكل، أو مستوى، فالإبداع بمقدار ما يتجدد بمقدار ما يتقادم وهذا الصراع الدائب بين التقادم والحداثة مستمر في أبجدية الإبداع ما استمرت الحياة، ولعل المدقق لهذه الحركة من بدايتها يلحظ أن الكثير الكثير من مبدعينا ونقادنا العرب المعاصرين فهموا الحداثة فهماً مغلوطاً أو مشوباً بالغموض، فخلطوا الأوراق، وضاعت الحدود، وتداخلت الرؤى، والأفكار، والمنظورات، فأصبح الذي يتحدث عن الحداثة أكثر جهلاً ممن لا يعي منها شيئاً، وأصبح كل من يخوض في الحداثة متقادماً لأن ما يصل إليه اليوم سيذهب أدراج الرياح في الغد، لأن إفرازات الحداثة متغيرة، ومتطورة ؛إنها كل يوم تؤذن بجديد، وتبشر برؤى جديدة، ولهذا لن تتوقف الحداثة على تيار أدبي أو جيل أدبي، إنها تنفتح على مختلف الأجيال، وكل المستجدات الإبداعية، ولهذا، تتنامى هذه الحركة بالتوازي مع تنامي الفكر الإبداعي أو الثقافي؛وللوقوف على بعض المقترحات والرؤى والمنظورات التي تبنتها حركة الحداثة سنقف على بعض من هذه المنظورات التي تنبتها حركة الحداثة في تاريخها الطويل، وهي:
1- الحداثة شكلاً أم معنىً:
لقد ظلت مسألة الحداثة شكلاً أم معنى من المسائل الجدلية الشائكة عند جمهرة النقاد حول مشروعية هذا الطرح والتداول النقدي (الحداثة/ شكلاً أم معنى؟!!) ؛، وهذه المسألة شغلت الكثير من النقاد العرب المعاصرين، لاسيما أولئك النقاد المعاصرين الذين ظنوا الحداثة في الشكل دون المعنى، أو المعنى دون الشكل، وهذه المسألة بالغة الأهمية في تراثنا النقدي المعاصر؛ فالكثير من النقاد فهموا الحداثة في الشكل، وروَّجوا للكثير من الكتابات الإبداعية في إثبات ذلك، ومن أبرز أولئك، شكري عياد، وكمال أبو ديب وغيرهم، ومنهم من ظنوا الحداثة في المعنى، واعتبروا أن الحداثة في شرارات المعاني وإشعاعاتها المتوالدة على الدوام، وهؤلاء احتفو ا بالمعاني أكثر من احتفائهم بالشكل، فضحوا في شكل الإبداع، فبدا الشكل ضحضاحاً لا نبض فيه ولاحياة، وقضوا على روح الحداثة من الصميم؛ونشير إلى أن هذا الفصل بين الشكل والمعنى قضى على سمة الإبداع الحقيقية التي تنطلق من جوهر الرؤية، منبعثة إلى السطح اللغوي جمالاً وغنجاً وتفاعلاً واندماجاً لدرجة لا انفصال فيما بينهما؛ وهذا القول يدعونا للتأكيد: إن جوهر الحداثة ماثلة في الشكل والمضمون فلا يمكن للنص الشعري أن يكون حداثياً في الشكل ضحلاً في المضمون، ولا يمكن أن يكون حداثياً في المضمون رثاً تقليدياً في الشكل .. إن الحداثة هي تلاحم الشكل مع المضمون، والمضمون مع الشكل لدرجة التكامل والالتحام والانصهار التام في كينونته النصية، ولذلك لا حداثة في الشكل بمعزل عن المضمون ولا حداثة في المضمون بمعزل عن الشكل، فالكل في تلاحم وتضافر وتآلف وانسجام، وهذا يؤكد مقولتنا النقدية من سابق الحداثة في الوحدة والتفاعل والانسجام والتضافر التام الذي لا انفصال فيما بينها على مستوى الشكل والمضمون ومن يفصل بينهما في القيمة والدرجة لا يفقه الإبداع ولا الحقيقة الإبداعية.
2- الحداثة رؤية أم رؤيا؟!!:
الحداثة هي ناتج رؤيوي موقظ إبداعياً، ولا حداثة بلا أحلام ورؤى، وهذا يعني أن الحداثة ليست رؤية، وإنما رؤيا موقظة منتجة محولة متغيرة، ولأنها كذلك فلا قيمة للإبداع بمعزل عن رؤيا حداثوية خلاقة منتجة للتغيرات، مشبعة برغبات الخيال، وتطلعات الفكر، وكما يقال: المبدع الخلاق هو من يحلق في رؤياه، ويولد ما يشبه المستحيل، أي هو الذي لا ينتج الفكر فحسب، وإنما ينتج الحس الجمالي، والفني في الأشياء.. إن الحداثة، إذن، ماثلة في هذا التكامل بين (التجريد/ والتجسيد)، بين (المدرك /و اللامدرك)، بين (الخيالي/ والواقعي)، ومن أجل أن تتكامل الرؤى، والمنظورات بحداثويتها المتكاملة لابد من تخليق الآفاق الرؤيوية الخصبة من خلال التداخل بين ما هو بصري، وما هو خيالي، ولهذا، فالحداثة في ثوبها الإبداعي نشاط محموم بين الحس والخيال، بين الواقع والمجرد، وبهذا؛ تنصهر القيم الفنية في بوتقة واحدة، ومحك واحد هو الإبداع ذاته، ولاشيء سوى الإبداع، ولهذا لا يمكن فصل الواقع عن الخيال في العمل الفني، فالواقع قد يصح خيالاً والخيال قد يصح واقعاً، ولهذا يخطئ من يظن الحداثة في ركوب المتخيلات الماورائية البعيدة، أو في إبراز المحسوسات في قالب بصري، الحداثة هي غنى معرفي متطور ينصهر فيه الحسي بالخيالي، والخيالي بالحسي بتفاعل، وانسجام، وتضافر لا انفصام بينهما، وهذا ما يجعل الحداثة هي النافذة المشرعة على أفق الانفتاح على ما هو مجرد وما هو مجسد، ومن خلال فواعلهما ترتقي حداثوية النص، وترتقي رؤيته المتجددة وتجذره الإبداعي المتطور.
3- الحداثة ليست في المعاصرة:
يخطئ من يظن أن الحداثة معاصرة، الحداثة ليست في المعاصرة، وإنما في جذر الحداثة ذاتها،
فأي حديث عن المعاصرة لا يقتضي الحداثة، ما هو حداثي يبقى في حقل الحداثة سواء في معاصرته لعوالمنا؛ أو في تجاوزه لهذا العالم الذي نعيشه، أو تخلفه عنا، فالحداثة ليست زينة توشى بها النصوص الإبداعية، إنها قيمة نتجية تنبع من صميم المنتج الفني، وليست منفصلة عنه أو مسقطة عليه من الخارج، إنها هذا الحراك المتنامي المستمر الذي لا ينقطع ولا ينفصل عن روح الحداثة من الصميم. ولهذا يخطئ من يظن أن المعاصرة حداثة، أو أولئك الذين يقيسون الحداثة بالمعاصرة، فالحداثة قيمة لا تُعطَى ولا تُوهَب بالمجان، إنها كائنة في روح المنتج الإبداعي من الداخل، ولهذا يمكن القول: الحداثة جوهر، فكما لا ينفصل الجوهر عن نبض الكائن، وروحه فكذلك لا تنفصل الحداثة عن صميم النص، وجوهره الإبداعي، وهذا ما يجعل الحداثة قيمة ليست متغيرة في النص، فهي راسخة فيه لا تنفصل عنه مدى الحياة، ولهذا لا يمكن اكتساب هذه القيمة من نص آخر، لأنه قيمة ثابتة فيه غير مكتسبة على الإطلاق، ومن يفعل ذلك يكون كمن يحاول أن يهب رأساً لجسد ميت ليحيا فيموت الاثنان.
4- الحداثة انفتاح (على الماضي، والحاضر، واستشراف للمستقبل)
يخطئ من يظن الحداثة انقطاع عن التراث، أوانفصال عنه، ويخطئ كل من يظن أن التراث لا يمكن تحديثه أو ينفي صفة الحداثوية عنه، فالتراث حداثة راكدة، أو جامدة، فهي ليست رهينة بالتخلف والجمود دائماً على نحو ما ذهب إلى ذلك الكثير من النقاد، ولهذا، نقول الحداثة هي لبنة الانفتاح على التراث، والاغتناء به، ولا يمكن أن تتجذر الحداثة على الفراغ، ولا يمكن اعتبار الحداثة انقطاعاً تاماً عن الماضي والتراث؛ فالتراث كان ومازال رافداً للتغيرات الحداثوية في الفكر الإنساني، وهذا يعني أن الحداثة هي انفتاح على الماضي، والحاضر، واستشراف للمستقبل، والنص الحداثي نص مفتوح في قيمه ورؤاه وعوالمه الوجودية، فهو يتفاعل مع التراث ويتجاوزه، ويتفاعل مع الحاضر، ويتجاوزه، ويستشرف المستقبل، ويخلد فيه، ولهذا، تبقى النصوص الحداثية في انفتاح دائم وتغاير مستمر في البنى، والرؤى، والمتغيرات، فلا يركن لزمان أو مكان محددين، وإن نشأ في زمان ومكان محددين، إنه تجاوز، وانفتاح، وارتقاء فوق القيم المألوفة والمعتادة في القول. ليحلق في فضاء الإبداع الحقيقي الذي يرتقي ولا يقف على مرحلة زمنية، أو رقعة مكانية، وهذا دليل أن الكثير من النصوص المبدعة في القديم مازالت تثيرنا، وتنمي فينا اللذة، والاستثارة، والتأثير.
وصفوة القول: إن الحداثة هي حركة مستمرة متغايرة تبقى في انفتاح دائم، وتواصل مستمر طالما مازالت المكتشفات الإبداعية قائمة وصيرورة الإبداع متغيرة، ومتطورة على خارطة الوجود الحضاري الفكري المتطور في عالمنا المعاصر.
عن موقع المثقف