بقلم عبد القادر كعبان*
من يقرأ كتابات المصرية سلوى بكر عموما سيلاحظ حتما
انحيازها العلني لطبقة المهمشين وبصفة خاصة النساء منهن، وهذا ما أكدت عليه الدكتورة
فريال غزول في
جزء من بحث لها بعنوان "بلاغة الغلابة" الذي نشر في آخر صفحات
مجموعة قصص بكر الموسومة "عن الروح التي سرقت تدريجيا"، والذي جاء ضمن فعاليات
المؤتمر الدولي الثاني لجمعية تضامن المرأة العربية في القاهرة سنة 1988 بعنوان
"الفكر العربي المعاصر والمرأة" حيث تقول د. غزول: (يبدو أن لا صحف المؤسسة
ولا صحف المعارضة تريد أن توظف مواهبها، هذا بالرغم من إجماع النقاد الجادين في الوطن
العربي كله بموهبة سلوى بكر القصصية. ولكن للتهميش مزاياه فهو يترك لأديبتنا نعمة الانتماء
إلى وطن وجماعة بدون الانخراط في مؤسسة وسلطة. وهذا بفسح مجال الرصد والرؤية كمن يقف
على محيط الدائرة وأطرافها، فلا هو خارجها لا يرى ما يجري في الداخل، ولا هو في المركز
تعميه مركزيته ومصلحته عن رؤية الكل. فمنظور المهمش يتواجد في موقع يسمح له باختراق
القشور والمظاهر ليصل إلى الجوهري والجذري، أي أن موقعه يؤهله للراديكالية.)1.
"عن الروح التي سرقت تدريجيا" مجموعة
تستوقف المتلقي بل تجعله يدخل في حالة من الاندهاش بعد إتمام عملية قراءة جميع قصصها
لأنه سيجد نفسه أمام شخوص تتمزق قلوبها من ألم وهموم واقع حياتهم المرير، لا لشيء لأنهم
غلابة لكن يظل البعض منهم متمسكا بخيوط الأمل في انتظار مستقبل مشرق.
ربما سيكون الانطباع الأولي للقارئ أن قصص هذه المجموعة
جاءت تقليدية بسيطة، لكنه حكم مسبق لأن الكاتبة سلوى بكر حاولت قدر المستطاع رسم ملامح
شخوصها بطريقة مختلفة للتعبير عن تجاربهم الحزينة والمؤلمة كما هو شأن البطلة في القصة
الأولى "كل ذلك الصوت الجميل الذي يأتي من داخلها"، وهي امرأة متزوجة ماكثة
في البيت اكتشفت أن صوتها الذي تعودت عليه أصبح جميلا بعدما شرعت في أغنية "أحب
عيشة الحرية"، فصارحت بعد ذلك زوجها ظنا منها أنه سيتفهم ما حدث لها، لكن هذا
الأخير اصطحبها لطبيب نفسي لمعالجة تلك الحالة التي وصفها بالمرضية خصوصا أنها أخبرت
البقال بسرها: (أخذت تنشط فكرها، فكانت تأتيها إجابة منطقية وحيدة دوما: الصوت الجميل
خلق للغناء. فلماذا لا تغني ويسمع كل الناس صوتها، وراودها شعور بأنه من العدل أن يسمع
الناس صوتها، وأنه لا علاقة للصوت بالعمر، فما المانع أن يسمع الناس صوت الإنسان بصرف
النظر عن عمره ووضعه، سواء أكان رجلا أم امرأة.)2.
في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها الرئيسي –عن
الروح التي سرقت تدريجيا- تبرز شخصية المثقف شاكر وزوجته سامية التي بدأت أجواء السعادة
والفرح تتقلص في حياتهما اليومية، وهذا ما جعل البطل يربط ما يحدث له بحادثة حرق الأوبرا
المصرية ليلة زفافه: (أيضا، تبدلت عادة الذهاب إلى السينما، بعادة جديدة لشاكر وسامية:
الجلوس أمام التليفزيون مساء كل يوم، والفرجة على أي شيء، وكل شيء.)3. لقد استطاعت
بكر في هذه القصة أن تجعل القارئ يعيش حالة الزوجين شبه الروتينية باستعمالها لتكنيك
المشاهد السينمائية وكأنها مخرجة العمل بعينها.
لقد حملت كل من قصة "النهر بحري والنجوم نهاري"
و"الأشياء الرمادية" أماني وأمل البطلتين، حيث أن الأولى كونها شاعرة تخيلت
نافورة مياه تطلق رشاشات قصيرة من مائها إلى أعلى وكأنها ترفض مرارة الحياة التي قيدت
حرية الفقراء والمعوزين، حتى أنها مدت رأسها تحت رشاشات الماء لتغمرها مرددة (لا شيء
يستحق لا شيء يستحق)4. بينما الثانية دخلت محلا لشراء حذاء تلبسه يوميا للذهاب إلى
عملها غير أن البائع استفزها بإحضاره لحذاء وردي اللون جعله يذكرها بأنها لم تعد مطلوبة
في دنيا الزواج، قد تذكرنا هذه البطلة بنماذج نسائية من مسلسل حارة العوانس الذي أثار
ضجة في الماراتون الرمضاني لسنة 2006: (أدخلت قدمها في الفردة الأخرى للحذاء، تمشت
قليلا أمام المرآة، كان حذاء بسيطا ذا مظهر جامد، ثبت زر أسود صغير، في مقدمته، بلا
معنى، نظرت مرة أخرى إلى قدميها داخل الحذاء، كانتا متورمتين بعض الشيء، سألته عن السعر،
كانت تشعر أنه يضايقها قليلا، لكنه في الحقيقة، كان مناسبا جدا.)5.
كما ورد موضوع العنوسة في العديد من قصص المجموعة
كما هو الحال في قصة "الحلم الأميركي" أين شعرت أخت البطل بنيران الغيرة
تتآكل قلبها التعيس من ابنة عمها المخطوبة لشاب آخر بعدما تمسكت بحبال ممزقة لعلها
تفوز بقلب المغترب فريد –بطل القصة- ولكن سرعان ما نسيته حتى أن أسرته شعرت بخيبة أمل
كبيرة بعد وصوله من أميركا مصطحبا زوجته الأجنبية التي لم تكن كما كان يتمنى الجميع:
(نظر الأب إلى ابنته الجالسة إلى جوار أمها، بقلق، وتمنى لو أن أخاها يشوف لها واحدا
من زملائه، في أميركا، تتزوج منه، عندئذ لن يطلب منه أي شيء، لأنه يتمنى أن يسترها،
والسلام فهي كما الهم على قلبه، وخصوصا بعدما بلغت الثامنة والعشرين دون أن تتزوج.)6.
ذكرتنا قصة "انتظار الشمس" بأسلوب حكايات
ألف ليلة وليلة حيث لم تصدق البطلة المطلقة –أم الولدين- أنها لا تزال مطلوبة للزواج
حتى لو كان ذلك الطلب من رجل عجوز اشتم صراع أولاده على شقته: (فتعالي مع ولديك واسكنوا
الشقة، تنتفعون بها، وتذكرونني بعدها الذكر الحسن، فأتشفع بكم عنده في ذريتي، وليكن
بيننا أيتها المرأة ما بين الأب وابنته، أو بين الأخت وأخيها.)7.
وللكاتبة سلوى بكر أسلوبها الخاص وطريقتها في انتقاء
المفردات المعبرة عن مشاعر شخوصها ونفسيتهم المكسورة بعناية فائقة كما هو الحال في
النماذج القصصية التالية: "بنت القنصل"، "لعب الورق"، "أحزان
السادة المضحكة ومقالبهم الغير المقصودة"، "مناسبة للسعادة"،
"الطرح السود" و"فأر أبيض صغير" وكأنها تطلق صرخة احتجاج ورفض
لملامح حياتهم المريرة التي تنقصها الألوان.
لقد استبعدت الكاتبة في بعض قصصها عنصر الحوار مما
خلق رتابة في عملية السرد لديها قد تجعل القارئ يشعر بالملل أحيانا، غير أن بكر استعانت
ببعض الألفاظ العامية وبعنصر الوصف الذي ساهم بشكل كبير في بناء الحدث القصصي، حتى
أننا نتابع خلفية القاصة في جعل شخوصها هي التي ترى الشيء وتصفه وتتأثر به حتى يشاركها
القراء في ذلك.
ويمكننا أن نقول في نهاية هذه المقالة أن
"عن الروح التي سرقت تدريجيا" للمبدعة سلوى بكر تظهر لنا تقنية في التجريب
القصصي الجاد في عالم السرد والتعاطي مع موضوعاته المأخوذة من الواقع الذي يعيشه الإنسان
المهمش والضعيف، لكنه يظل باحثا له عن زاوية للحلم والأمل ليظل قلبه نابضا بحب الحياة.
هوامش:
1.سلوى بكر، عن الروح التي سرقت تدريجيا،
مكتبة الأسرة، مصر ، 2000، ص:103.
2. المصدر نفسه ص 11.
3. المصدر نفسه ص24.
4. المصدر نفسه ص32.
5. المصدر نفسه ص 39 .
6. المصدر نفسه ص 84.
7. المصدر نفسه ص49.
*كاتب وناقد جزائري