“هل يحتمل التاريخُ التحقيبَ؟” هو آخر كتاب صدر للمؤرخ الفرنسي جاك لوغوف قبل وفاته. رأى الكتاب النور في يناير 2014، ورحل صاحبه إلى دار البقاء في أبريل من
نفس السنة. ويعتبر هذا العمل، الصادر عن منشورات سوي الفرنسية في 209 صفحة من الحجم الصغير، تكملة لكتاب سبق أن نشره هذا المؤرخ عام 2004، تحت عنوان “العصر الوسيط الطويل”.
في واقع الأمر، كان جاك لوغوف قد كرس حياته العلمية لمناقشة قضية التحقيب ومراجعة الفكرة السائدة التي ترى في العصر الوسيط حقبةً تقع زمنيا بين العصر القديم والنهضة. يقول في مدخل الكتاب: “هذا المبحث ليس أطروحة ولا تركيبا. هو حصيلة لبحث طويل، أي تفكُّر في التاريخ، وفي حقب التاريخ الغربي، رافقني منذ عام 1950، منذ حصولي على التبريز الذي ترأس لجنته العلمية فيرناند بروديل، والذي مثل فيها التاريخ الوسيط موريس لومبار. أحملُ إذن هذا الكتاب منذ زمن طويل، إذ تغذى بأفكار اقتنعتُ بها، وعبَّرتُ عنها في مناسبات متعددة بطرق مختلفة” (ص 7).
يتناول الكاتب قضية التحقيب في ثمانية فصول بأسلوب أدبي رفيع، ورؤية معرفية تضع القارئ أمام أهم النصوص التاريخية الوسيطية والنهضوية، وأمهات كتب القرن التاسع عشر، وأحدث الدراسات المنجزة من طرف الباحثين الأوروبيين والأمريكيين. في هذه القضية، يعالج طرق تصور التحقيب، من استمراريات وقطائع وأشكال فهم التاريخ، ويستعيد مفهوم “العصر الوسيط الطويل” من خلال مراجعة المفهوم المركزي لعصر “النهضة”، كما ظهر في القرن التاسع عشر. ولذلك، يدور الكتاب في مجمله حول إشكالية الصلة بين “العصر الوسيط” و”النهضة”.
في المدخل، يطرح لوغوف مسألة التحقيب في تاريخ البشرية. كيف عمِل الإنسان في البداية على تنظيم حياته اليومية على ضوء مرجعيتين رئيسيتين: الشمس والقمر؟ وكيف تعامل مع الماضي بالتفكير في تقسيمه إلى أشطر؟ كان هذا التقسيم قد اتخذ تسميات متعددة: عصور، مراحل، دورات. وتبقى كلمة حقبة (période) المشتقة من الكلمة الإغريقية (periodos) هي الأنسب. ومعلوم أن هذه الكلمة اكتسبت معنى “شطر من الزمن” أو “عصر” وفق الكتابات التي تعود إلى مرحلة ما بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر، بحيث لم تفرز مفهوم “التحقيب” إلا في القرن التاسع عشر.
وإذا كان مفهوم التحقيب هذا ضروريا لفهم التاريخ وحركة البشر في الزمن، فإن صياغته تبقى بعيدة عن الحياد والموضوعية، بالقياس إلى ما يقتضيه من توضيح لفكرة الانتقال أو المنعطف، وحتى بالنظر إلى تقييم الماضي بالتعبير عن موقف ما من قيم المجتمع المعني بالتجاوز.
يستعرض صاحب الكتاب بعض التحقيبات القديمة ذات التصور التاريخي (تعاقب الإمبراطوريات) أو الديني (تعاقب الرسالات السماوية). وما يثير الانتباه في التصور الديني للتحقيب هو غلبة التشاؤم، بالقياس إلى التعامل مع الحياة من زاوية الختم والهرم والزوال. وقد كان لهذه النظرة، خاصة في أوروبا المسيحية، أثر كبير في أذهان الرهبان والقساوسة طيلة المراحل الأولى من العصر الوسيط. وفكرة الهرم هذه كانت قد منعت ظهور فكرة التقدم، وذلك إلى حدود القرن الثامن عشر.
في عصر الأنوار، الذي يوافق القرن الثامن عشر، اقترح فولتير في كتابه “قرن لويس الرابع عشر” (1751) تحقيبا رباعيا. يقول: “لقد أنجبت كل الأزمنة أبطالا وسياسيين، وقامت الشعوب بثورات، إذ تتساوى جميع التواريخ تقريبا بالنسبة لمن يحتفظ بالأحداث في ذاكرته. لكن من يفكر في الأمر، ويستخدم حسه، وهذا شيئ نادر، لا يحتسب سوى أربعة قرون في تاريخ العالم. وهذه الحقب الأربع السعيدة هي التي عرفت تطور الفنون، ذلك التعبير عن عظمة العقل، والتي (أي الفنون) اقتدت بها الأجيال اللاحقة” (ص 27-28).
استعمل فولتير كلمة “قرن” بمعنى “حقبة” التي تتوجها قمّةٌ ما: قرن الإسكندر (اليونان)، وقرن القيصر (روما)، وقرن محمد الفاتح (سقوط القسطنطينية وهجرة المعارف البيزنطية الى إيطاليا)، وقرن لويس الرابع عشر. وما يميز هذه الحقب التي يقترحها فولتير هو الارتقاء الحاصل في ميادين الفلسفة والفنون والأخلاق وأنظمة الحكم. وما يلاحَظ في هذا التحقيب هو غياب “العصر الوسيط”، ذلك أن فيلسوف الأنوار يعتبره عصر ظلام، لكن من دون مقابلة مع النهضة أو الأزمنة الحديثة.
ركز لوغوف في كتابه على حقبة “العصر الوسيط”، إذ تتبع مفهوم هذه الحقبة والتطور الذي حصل في تناوله من طرف الأدباء والفلاسفة والمؤرخين. أول من استعمل هذا المفهوم هو الشاعر الإيطالي فرانشيسكو بيتراركه في القرن الرابع عشر، إذ تبعه عدد من الشعراء وكتّاب الأخلاق في فلورانسا، مدينة الحركة الإنسانوية بامتياز. فقد كان لدى أدباء النهضة الأوائل إحساس بأن العالم الأوروبي قد دخل حقبةً جديدة، مستنيرة، بعد حقبة ساد فيها الجهل والظلام.
ومع ذلك، ظل هذا المفهوم حبيس الأوساط الأدبية في إيطاليا. فإلى حدود القرن السابع عشر، كان المثقفون في فرنسا وإنجلترا يتحدثون بالأحرى عن الفيودالية. وفي القرن الثامن عشر، صار الفلاسفة ينعتون هذه الحقبة بـــ “عصر الظلمات”، وذلك من غوتفريد لايبنيتز إلى جان جاك روسّو.
لم يكتسب “العصر الوسيط” قيمة علمية إلا في القرن التاسع عشر بفضل المدرسة المنهجية التي دعت إلى اجتناب الأحكام المسبقة، والتحقق من الوقائع التاريخية بالاستناد إلى الوثائق، مع المؤرخ الألماني ليوبولد فان رانكه، وجماعة من المؤرخين الفرنسيين، الوضعانيين في مرحلة أولى، والمجدِّدين في مرحلة ثانية، ولاسيما مع المؤرخ الوسيطي الكبير مارك بلوك، مؤسس مدرسة الحوليات. إن ثورة المنهج هذه هي التي غيرت موقف المثقفين من القرون الوسطى، من الانطباع والحكم المسبق المحكومان بقوالب إيديولوجية في معظم الأحيان، إلى البحث الموضوعي الرامي إلى فهم الواقع كما هو. وهذه الثورة ما كان لها أن تنجح لولا ظرفية القرن التاسع عشر المواتية، إذ تطورت برامج التعليم وتكاثرت كراسي التاريخ بالجامعات، وتعددت المجلات التاريخية المتخصصة، ونشأت مؤسسات تعنى بالوثائق، كالمدرسة الوطنية للوثائق التي رأت النور في فرنسا عام 1821، ومجموعة الوثائق الجرمانية التي نشرتها ألمانيا بين عامي 1819 و1824. وهكذا تحول التاريخ من جنس أدبي إلى معرفة تسعى إلى العلمية، إلى الموضوعية، إلى تيسير فهم التاريخ لدى الطلاب والباحثين بتقسيمه إلى حقب معلومة.
هذه الدينامية المعرفية التي شهدها القرن التاسع عشر هي التي أحدثت تمييزا واضحا من حيث التصور التحقيبي بين “العصر الوسيط” و”النهضة”. ومن أبرز المؤرخين الذين انكبوا على هذه المسألة المؤرخ الفرنسي جيل ميشلي (1798-1874)، والمؤرخ السويسري جاكوب بوركهارت (1818-1897) .
يرى جاك لوغوف أن ميشلي هو مبتكر “النهضة” كحقبة عرفت فيها الأفكار والآداب والفنون تطورا كبيرا، وانتصر فيها العقل على الدين مع الإصلاح البروتستانتي. فبفضل هذا المؤرخ انضافت حقبة جديدة للتحقيب الثلاثي المعمول به آنذاك: قديم، وسيط، معاصر، ليصبح رباعيا: قديم، وسيط، حديث (النهضة)، معاصر. وتحولت النهضة من صيغتها الصغيرة (renaissance) إلى صيغةٍ كبيرة (Renaissance) لرسم الانتقال التاريخي من العصر الوسيط إلى العصر الحديث. وقد شكَّلت المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها بكوليج دو فرانس عام 1838 انطلاقة فعلية لاستعمال هذا المفهوم على النحو المعمول به اليوم في عدد من الجامعات عبر العالم.
ولعب بوركهارت، هذا المؤرخ السويسري الناطق بالألمانية الذي تتلمذ على يد رانكه مؤسس المنهج التاريخي، دورا بالغ الأهمية في منح الاعتبار للنهضة. ويعتبر كتابه “حضارة النهضة في إيطاليا” (1860) مرجعيا في هذا السياق. فقد بيَّن التحولات الحديثة، الفكرية والعلمية والفنية، التي مكنت الفرد في مدن إيطاليا، كفلورانسا والبندقية وروما، من تنمية ذاته بالتحرر من الدين والممارسات الجماعية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، والتي مست فرنسا وألمانيا وإنجلترا في القرن السادس عشر.
وتوالى هذا الاهتمام بحقبة النهضة خلال القرن العشرين مع مجموعة من المؤرخين الذين ساروا على درب ميشلي وبوركهارت، ومدحوا ما أنجبته من آداب وفنون وعلوم، واطمأنوا لفكرة العصر الحديث كونه يبدأ مع هذه النهضة. وفي طليعة هؤلاء الإيطالي أوجينيو غاران، والألماني إرفين بانوفسكي، والفرنسي جون دوليمو.
تتبع جاك لوغوف هذه الأعمال والأفكار ذات الصلة بحقبتي “العصر الوسيط” و”النهضة”، ثم ناقشها في فصل تحت عنوان “العصر الوسيط الطويل” الذي يذكِّر حرفيا بعنوان كتابٍ كان قد ألَّفه منذ عشر سنوات خلت. بالرغم من التجديد التي خلقته النهضة خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وفي طليعته الإنسانوية، والبروتستانتية، والميركانتيلية، والدولة القومية، والكشوفات الجغرافية، يرى لوغوف أن هذه التحولات لم تخترق سوى جوانب ضيقة من حياة الناس، وأن التحولات الكبرى التي مكنت من تغيير حياة الناس هذه تغييرا شاملا على جميع المستويات، وأدخلتهم في العصر الحديث، هي تلك التي حدثت في القرن الثامن عشر.
أولا، مظاهر تجديد كثيرة كانت قد حصلت في “العصر الوسيط”، فتطورت أكثر فأكثر خلال “النهضة”. منها المحراث الحديدي، واستعمال الخيول في الحرث عوض الأبقار، وتقنيات الملاحة كالبوصلة مثلا، والبنك، والمدرسة والجامعة. ومعنى ذلك “أن النهضة لم تعمل إلا على تمديد العصر الوسيط” (ص 129).
ثانيا، ظل المجمتع الأوروبي في غالبيته الديموغرافية قرويا، كما ظل الفلاحون يرزحون تحت نير الأسياد الإقطاعيين. واستمرت الأوبئة حتى عام 1720، والمجاعات حتى ثورة 1789 الفرنسية. كما ظل هذا المجتمع في جوهره تحت السيطرة المطلقة للمونارشيات الإلهية التي احتكرت السلطة احتكارا عموديا، بعيدا عن كل تعاقد اجتماعي.
ثالثا، عدد من الرجالات الذين يعتبرون من الرموز الكبرى لـ “عصر النهضة” لم يستطيعوا التحرر من النسق الوسيطي. كولومبوس، مثلا، مكتشف أمريكا في نهاية القرن الخامس عشر، رغم ميركانتيليته (البحث عن المعادن النفيسة)، كان قد حافظ على عقلية وسيطية، كما يظهر من خلال هاجس إدخال الهنود الحمر إلى الديانة المسيحية. ونفس الشيء بالنسبة لشيكسبِّير. لما انتقل هذا الرجل إلى لندن في نهاية القرن السادس عشر، التي دخلها من أبواب محصنة على النمط الوسيطي، ووجد معظم أهاليها يعيشون على الطريقة الوسيطية، حكى في مسرحياته حياة القرون الوسطى.
ولذلك، يعتبر صاحب الكتاب أن مركزية النهضة في فهم التاريخ الأوروبي “كونها حقبة ذات تميز وخصوصية” تحتاج إلى مراجعة، إذ يمكن النظر إليها “ليس كحقبة مميزة، كما يظهر في الإسطوغرافية المعاصرة التقليدية، بل كحقبة فرعية ضمن عصر وسيط طويل” (ص 187).
هذا يعني، بحسب النتائج التي خلص إليها لوغوف، أن العصر الحديث لم يبدأ في أوروبا إلا في القرن الثامن عشر، مع التحولات الكبرى الآتية:
- التحولات الصناعية: اختراع الآلة. آلة البخار من طرف الإنجليزي جيمس وات عام 1769، وآلات أخرى كثيرة. فالثورة الصناعية هي التي غيَّرت الحياة الاجتماعية رأسا على عقب. هي التي بدَّلت وجه المدن. هي التي سهلت النقل والتواصل. هي التي خلقت الوفرة في المأكل والملبس والمسكن. هي التي حسَّنت الخدمات الطبية.
- التحولات السياسية: الثورة الفرنسية عام 1789. هذه الثورة هي التي قضت على نظام الإقطاع بصفة نهائية. هي التي أسست لمبادئ الحرية السياسية والمساواة أمام القانون وسيادة الأمة وحقوق الإنسان. هي التي حوَّلت الناس من رعايا إلى مواطنين. هي التي خلقت موجة مناوئة للأنظمة المونارشية في بقاع أوروبا على مدى القرن التاسع عشر.
- التحولات الفكرية: الأنسيكلوبيديا التي صدر مجلدها الأول عام 1751. هذا المعجم العقلاني للعلوم والفنون والمهن، الذي أشرف عليه الفيلسوفان الفرنسيان، دونيس ديدرو المعروف بمناهضته لمونارشية الحق الإلهي، وجان دالمبير المشهور بسخريته من الكنيسة، هو الذي غيَّر المشهد الفكري والثقافي في أوروبا باتجاه سيادة العقل والتحرر الكلي من قبضة الدين.
ثم إنه في القرن الثامن عشر، قرن الأنوار، ظهرت فكرة التقدم. كان الكاتب والثوري الفرنسي ميرابو (1749-1791) هو أول من استعمل كلمة “تقدم” (progrès) سنة 1757 للدلالة على “حركة الحضارة إلى الأمام باتجاه حياة زاهرة” (ص 172).
لا يشكك جاك لوغوف في التحقيب، بل يدعو إلى مراجعته، وإلى التنبه إلى بطء المرور من حقبة إلى أخرى. هذا لأن مهمة المؤرخ تقتضي الكشف عن التداخل الحاصل بين الحقب، ورصد القطائع التي قد تخفي الاستمراريات، والتجرؤ على التعامل مع التاريخ في مدته الطويلة. ذلك أن “الحقبة التاريخية الحقيقية هي عادة حقبة طويلة” (ص 186). حقبة ذات بنيات ثابتة وأخرى متغيرة، لكن روحها واحدة. وهذه الروح لا تغيرها إلا روح أخرى قوية لها من المقومات ما يؤهلها لتفكيك البنيات السائدة تفكيكا شاملا، واختراق مجموع النسيج الاجتماعي والثقافي، من نمط العيش اليومي إلى العقليات.
هذا الكتاب، الذي ألَّفه صاحبه وعمره تسعون سنة، هو في المحصلة دعوة إلى التأمل في قضية التحقيب، كونه عملية فكرية تنير فهم حركة الإنسان في الزمن والمدة على السواء، كونه قابل للمراجعة، كونه من صنع المؤرخ أولا وقبل كل شيء. الكتاب يغري بالترجمة، ويشدُّني بقوة لنقله إلى العربية. أتمنى أن يتيسَّر ذلك.